رشى الانتخابات بين نهب الثروات والتضحية بالقرابين البشرية

      أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

توطئة: وصلت الأوضاع ما يستدعي مكاشفة ومصارحة واضحة المعالم. ولكن ما يجب في قراءة هذه المكاشفة، يتمثل في ألا تجعل أحد الأطراف يقرأها باستعجال وسطحية وبعدائية بل ينبغي في اللحظة المعقدة القائمة الالتفات إلى قبول المكاشفة بأبعد تفاصيلها من جميع الأطراف؛ وأن تطرح تلك الأطراف كل رؤاها سلميا على طاولة الحوار. وجزء من المصارحة بعد ما وقع ويقع في الأنبار وفي قرارات بالجملة من توزيع أراضي ومن تشكيل محافظات  يحتِّم أن توضع الأمور أمام جمهور الشعب، لأن القضية تتعلق بموقفه وصوته الآتي قريبا بصناديق الاقتراع.. وإلا فإن من سيخفي الحقائق ربما يقع ولو بصورة غير مباشرة في خدمة ما يراد للبلاد من وراء افتعال الأزمات أو سيفقد جمهوره أو بعض جمهوره لصالح اللعبة الجارية من قوى أخرى.. ثقتي أن تيار بناء الدولة المدنية من القوى الوطنية الديموقراطية وحركة التحرر القومي الكوردية هي صاحبة المصلحة بهذه المكاشفة  للوصول إلى جمهورها وخدمة مصالح الشعب بغالبية فئاته العريضة التي اختارت المسار المدني الديموقراطي..  

*******

ولقراءة المجريات فإنَّ الوضع في المنطقة برمته ملتهب، معقد ومتشابك؛ تتداخل عدد من قضاياه الشائكة بعضها ببعض ما يزيدها إرباكا وابتعادا عن الحلول الموضوعية المنتظرة. والوضع العام في العراق يأخذ مسار تداعيات سلبية خطيرة في جوانب منها؛ بسبب طابع ما يحكمها ومَن يوجه إدارة الأمور عبر الوقوع بمصيدة سياسة مكرورة لم تنتج إلا افتعال الأزمات ومن ثمّ تراكمها من دون حل أو حتى معالجة لآثارها! وبالنتيجة يشكّل تراكم الأزمات المتعاقبة عامل ضغط وسببا لانفجار غير محسوب العواقب...

إذن، إدارة الوضع العام جارية بسياسة العيش على صفيح ساخن ملتهب أو متفجر بديمومة مع عناصر لم تمتلك إرادة التغيير إلا من بوابة مآرب خاصة سواء لأفراد أم شلل حزبية ميليشياوية اخترقت بعض القوى العاملة.. تلكم هي عناصر من امتدادات الإعداد السياسي لها عندما كانت خارج حدود الوطن فجاءت ممارستها أفعالها بآليات عمل اكتنزت بالأخطاء حدّ ارتكاب الجرائم بتبرير ظل يقول: بأنّ ما يقع من ضحايا هي قرابين للانتصار.. ولكن أيّ انتصار يتحدثون عنه، وها هم في سلطة القرار ولم يأتِ مع تلك السياسة ولم يتحقق في ظلالها أيٌّ من الوعود...

ها هي تلك العناصر تخترق أعلى هرم قوى معروفة، في إدارة الحكومة، ولكنَّ ممارساتها ظلت محصورة أما باشتغال يتركز على محاولة الاحتفاظ بالكرسي أطول مدة ممكنة أو أفاعيل وبرامج بناء مفرّغة من أيِّ منجز ملموس يخص المواطن.

وفي سياق هذا الاتجاه العام، يمكننا إزالة الحيرة من سرّ القرارات المبتسرة والمستعجلة التي تخرج علينا بين الفينة والأخرى، بخاصة منها القرارات والأفعال والقرارات التي جرت في الأسابيع الأخيرة. فبالعودة إلى الدورات الانتخابية السابقة، سنلاحظ ما مورس فيها من وسائل كسب الصوت بوساطة توزيع المدافئ والبطانيات وبعض بقشيش من السحت الحرام وما يُنهب من المال العام ومن مصادر مجهولة أخرى مما وقع أو انحصر في الماديات الرخيصة، غير أننا اليوم نجد المواطن الأميّ الذي تمَّ التضبيب على عينيه من قبل وتم استغلاله وتضليله وسحقه ليقبل بتلك الرّشى الهزيلة المهينة لم يعد اليوم يقبل بتلك الرِّشى وقد عانى من كل ما ابتلي به حتى بات يئن من أوجاع لها أول بلا آخر..

ومن هنا فقد اتجهت عناصر بعينها في تلك الجهة التي حاولت الانفراد بالإدارة الحكومية إلى أسلوب التصفيات السياسية [ربما بعضها العنفية] من جهة وإلى الضرب في بعض المناطق من أقاليم البلاد كما يحصل اليوم في استغلال المعركة مع الإرهاب لتوجيه ضربة جماعية في مدن الأنبار والغربية  برمتها، بعد أن خلطت الأوراق تعتيما على المسارات الفعلية التي تأخذ ضحاياها من أبناء تلك المناطق الأبرياء الذين لا ناقة لهم في الصراعات الدائرة ولا جمل...

وبهذه الإشارة إلى مجريات الأمور في الغربية والآن تحديدا في الفلوجة لا يقرأ المواطن في أغلب الفعاليات محاربةً للإرهاب وقواه القذرة، فيتساءل عن سرّ قصف الأحياء المدنية الآهلة بالسكان من نساء وأطفال وشيوخ وغيرهم بالمدفعية والطيران!!؟ وطبعا لا إجابة سوى البحث في قواميس تقديم رؤوس مواطنين عراقيين قرابين لكسب رؤوس مواطنين آخرين، سواء بالتهديد والبلطجة أم بإظهار الغربية بعبعا معادٍ للشرقية.. طبعا التقسيم هنا تبرز فيه فلسفة الطائفية السياسية بامتياز وجهر مفضوح....

ومواصلة لذات النهج في خيمة تقديم الرشى سواء مما يقع في الإطار المادي البحت على رخصه ودونيته أم من قرابين من ضحايا الشعب المدنيين، مواصلة لذاك النهج، اتجهت تلك العناصر التي تخترق الوضع ممن يخطط للمسار الرئيس وتحديدا ممن يتحكم بالكرسي ومن سلطة (اتحادية)، اتجهت إلى ممارسة أخرى تنثر ما يمكن وضعه في الرّشى من قبيل توزيع الأراضي [أراضي الوطن مما يملكه الشعب وليس مَن يوزع تلك الأملاك] وطبعا لا يكون التوزيع إلا بحضور اسم [الشخصية] المستفيدة وعناصرها وقواها الحزبية.. ولكن كيف يكون الاستغفال إن لم تكن توقيتات هذه الأفعال واقعة بهذه الآلية المرضية!؟

وفي هذا الوضع المعقد الشائك والكارثي الخطير الذي ينتظر موقفا جديا للعلاج والحسم، تأبى المعركة الانتخابية أن تغادر ذهنية تلك الجهات المنشغلة بما يتهددها من موقف شعبي أعلن بوضوح التصويت للبديل المدني الديموقراطي وأنه يتجه للتغيير الجوهري.. ومن هنا وجدنا عناصر في تلك القوى توجه الأمور باتجاه أن تتعامل لا مع المواطنين بوجودهم الفردي وبشراء أصوات الأفراد بل مع المجموعات القومية والدينية والمذهبية فراحت تغدق [بكرمها] على أطراف التصويت من أطياف الشعب وهذه المرة؛ تضرب عدة أطيار بحجر أو بقرار هو قرار تشكيل محافظات وعلى الرغم من أنّ القرار يظل مخالفة دستورية بصيغه ومضامينه إلا أنهم يمضون فيه بقصد اللعب على شق صفوف المجتمع وأطيافه من جهة ووضعها في تعارض واصطراع كي يسهل السطو على أصوات فئات الشعب من مجموعات قومية بعينها وطبعا على المدى الاستراتيجي لن تكون تلك المحافظات إلا بعبعا جديدا يطعن الشعب وقواه الوطنية الديموقراطية ويكون سبب تمزيق للوطن ووحدته مثلما يوضع بمجابهة وتعارض مع وجود عراقي فديرالي سليم على وفق منطق الدستور وإرادة الشعب وهو بالتأكيد يحاول أن يطعن أيضا في كوردستان الفديرالية المستقرة ويكون مبررا ومحاولة لزعزعة حاضرها ومستقبلها!!

ولكن بالمقابل فإن الشعب وقواه الحية تعي طبيعة تلك القرارات وجوهر مقاصدها ودلالاتها، ولن تقبل تلك القوى الوطنية المؤمنة ببناء دولة مدنية بروح وطني ديموقراطي، لن تقبل السير في درب (الصد ما رد) أي درب الاتجاه التخريبي المدمر لوحدة الوطن وحريته وسعادة الشعب وسلامة منجزه. وفي هذا الاتجاه يرتقي الشعب بفضل ذياك الوعي وبكشف اللعبة وعبثها بمصائر الناس...

إنّ ما يجابه العراق والعراقيين في ظل تداخل الأمور واختلاط الأوراق وفي ظل عوامل خارجية وأخرى داخلية تكتنف أجوائه، يدعو إلى المكاشفة الصريحة والحوار الوطني المخلص.. ولا يُستثنى من الحوارات والمشاركة في مسيرة إعادة بناء البلاد جهة أو قوة لأيّ مبرر طالما اختارت تلك القوة الاتجاه الوطني في بناء دولة مدنية تحتضن الجميع وتعمل بآليات الديموقراطية الحقة...

ومن هنا فإن هذه المعالجة لا توجه  إشاراتها بوصفها اتهامات لهذا الطرف أو ذاك ولا تطرح موقفا تسقيطيا لشخصية أو جهة. ولكنها معالجة تظل تبحث عن الرأي الآخر كي يجري إنضاج البديل المناسب الذي يحتفي بالجميع من جهة ولا يعتمد الإقصاء ولكنه في ذات الوقت لا يسمح بأية ممارسة مضرة للوطن والشعب وتكون على حساب طرف أو آخر.

فمن جهة واجب محاربة الإرهاب يبقى مهمة مطلوبة من الحكومة والجيش الوطني وقوى الأمن والشرطة الاتحادية والمحلية.. لكنه ينبغي ألا يُستغل باتجاهات مرضية سلبية مغايرة لمهمته الواضحة في القضاء على الإرهاب بأشكاله ومن يقف وراءه..  وعليه وجب وقف ما يُرتكب بحق مواطنين عراقيين يقيمون في بلداتهم ومدنهم بالغربية والأنبار والبحث في المعالجة السياسية بخصوص المطالب الدستورية الصحيحة عبر حوار مفتوح وممارسات سلمية مكينة تحترم الآخر وتعترف بوجوده وحقوقه وحرياته.. وفي ذات الوقت عدم إغفال أفضل الخطط الحازمة والحاسمة لضرب مكامن الإرهاب وقواه وعناصره التخريبية..

ومن جهة القرارات التي ترسم بنى الدولة العراقية ومنها على سبيل المثال تشكيل مؤسساته مثل المجلس الاتحادي الذي سيمنح حقا محجوبا عن المجموعات القومية والدينية وعن الأقاليم والمحافظات فرصته ليتشكل ويمارس دوره في أداء المهام بمشاركة متساوية بين مكونات العراق الفديرالي لا من باب منح مقاعد الكوتا التي لاتعني سوى توكيد التهميش ومواصلة النظر إلى أجنحة البلاد  بهامشية واستصغار!

ومن القرارات أيضا على سبيل  ما خص تشكيل المحافظات التي تكفي نظرة عجلى فيها لتكشف أنها تأتي بأسوأ من الاستعجال بوصفها إجراء يبحث عن مزيد اختلاق أزمات لا بين من أدار القرار وأصدره وبين الآخر بل بين قوى مجتمعية ومكونات وأطياف يراد لها أن تنشغل بعيدا عن استمرار وجود حال الانفراد بقمة هرم السلطة الاتحاية ببغداد..

إن البديل لا يلغي هذا الطرف ولا ينوي إقصاءه ولكن البديل يعدّل المسار ويضع الحلول والمعالجات  السلمية لا العنفية، كما يوحد وطنيا ويجمع القوى كافة في بوتقة جديدة هي بوتقة العراق الفديرالي الديموقراطي، ويعيد المسار إلى طريقه الأكثر صوابا وسلامة...

وإذا كان أحدا لا يمكنه ادعاء الصواب المطلق وسلامة مطلقة لبرامجه وإمكان أن يبني لوحده فإن الصحيح البديل يكمن في سلامة جمع الرؤى الوطنية وتفاعلها بنيويا من أجل أفضل المعالجات ومن أجل ضمان مشاركة الجميع في مسيرة إعادة الإعمار والبناء.

وتعد فرصة الانتخابات فرصة للمراجعة وفي الاحتكام للشعب ولإرادته ومصالحه. ومن هنا فإن لعبة البحث عن الفوز ستكون مشروعة بقدر قبولها بالتصويت واحترام الصوت وحقه في الاختيار بدل الإيقاع به في مطبات الأزمات المفتعلة ومحاولة إخضاعه بألاعيب غير مشروعة قانونيا وغير سليمة ولا سلمية سياسيا...

فهلا تنبهنا إلى لعبة الرّشى وتحولاتها وتضخم الأمور حتى وصلت لمستى ممارسات عنفية خطيرة ولقرارات مصنوعة بطريقة مرضية لا حكمة لها سوى إرادة التقسيم وافتعلأزمة بل أزمات مركبة أخرى، نتيجة تراكم الأزمات وتفجرها ونتيجة الشعور باحتمالات الهزيمة الانتخابية وتحولات الخطط السياسية لعناصر مرضية وخططها السلبية الكارثية؟