الدبلوماسية العراقية وآفاق العمل المستقبلي

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  01 \ 19

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

ظلت الدبلوماسية العراقية لعقود من الزمن بين شدِّ ِ وجذب يحاول [أفراد] أنْ يسيروا بها نحو ما يمثـِّل صورة العراق الحضارية وسمو مُثـُله من جهة وبين سطوة شبه مطلقة لعناصر مخابراتية على مسارات العمل جيَّرت السفارات ومكاتبها لمطاردة معارضي النظام الدكتاتوري ولأعمال تجسّسية لا تقف عند حدود التجاوز على قوانين دولية بل كثيرا ما خرّبت علاقات العراق مع دول عديدة كشفت تلك الأفعال المشينة التي كانت علامة سوداء في جبين الدبلوماسية  حيث وصل الأمر حدَّ تكديس أسلحة وأعتدة داخل مباني السفارات فضلا عن عمليات الاغتيال والتصفية التي انطلقت منها..

وبانتهاء عهد الطاغية وأوهامه في مدِّ سطوة يدِهِ إلى أيِّ مكان من العالم وُجِدت له فيها أطماع؛ يتطلع العراقيون للتأسيس لعلاقات نظيفة خالية من الشبهات ومن الاعتداء على القيم والضوابط وعلى أعراف الدبلوماسية المتواضع عليها.. وفي الوقت ذاته يتطلعون إلى أنْ تكون السفارات والقنصليات قطعة من السيادة العراقية التي يحتمي بها العراقي ويستند إليها في لحظات الشدة والأزمة..

لذا كان على مجلس الحكم وحكومته أنْ يضعوا في الحساب عند تعيين شخصية ما لمنصب دبلوماسي أنْ يراعوا فيه الحِرَفيّة والمهنية التخصصية ومعرفة البروتوكولات الخاصة بحركة الدبلوماسي وحدود أنشطته وكيفياتها.. كما ينبغي تدقيق الخيارات في تجرّد تلك الشخصيات من المرجعية المنحازة لتمثيل فلسفة جهة حزبية أو عقائدية عراقية فينسى ـ في خضم (نضاله الحزبي) ولا نقول عمله وأداء واجباته الدبلوماسية ـ   تمثيل العراق لمصلحة تمثيل التزامه جهة سياسية حزبية معينة وفلسفتها..

وتجنـّبا لمثل هذه الأمور ينبغي التذكير هنا وحيثما كان ضروريا بلزوم استقبال ملاحظات الجاليات العراقية والنخبة من المتخصصين لأداء السفارة وطاقمها بخاصة المناصب الأساس في تلك المكاتب.. وعلى التفاعل معها بإيجابية وأخذ الصحيح المناسب لدفع تأثير الفعل الدبلوماسي في المحيط المعني.

كما ينبغي تفعيل مكاتب العلاقات العامة وصلاتها مع الجاليات من جهة ومع المؤسسات في أراضي الدول المستضيفة بخاصة أجهزة الإعلام والعمل على تزويد إعلام تلك الدول بالصورة الصادقة المنقولة بعين عراقية وفية وأمينة على مصالح البلاد بخاصة ونحن نعرف ما للإعلام من تأثيرات وما فيه من خلفية سابقة وتنوعات في أهداف تلك الأجهزة وتبعيتها أحيانا لمؤثرات غير موضوعية في معالجة صورة العراق الحقيقية الجديدة وحتى القسم الخاص بشعبنا وقواه الوطنية من الصورة القديمة للعراق..

ولطالما وجدنا إعلاما مشوّها في تسليطه الأضواء على الحركات الوطنية التي ناهضت النظام وكانت تسعى لبناء علاقات صريحة نظيفة مع دول العالم ومع المحيط الإقليمي, ولكنّ تلك الحركات الوطنية لم تصل بصوتها بما يكفي لمحو التشويش والتشويه الذي أدته مكاتب مخابرات النظام الدكتاتوري المهزوم؛ واليوم يتطلب الأمر جهودا مضاعفة لتأكيد مصداقية الأهداف التي كافحت تلك القوى النزيهة من أجلها وأولها إبعاد الدبلوماسية عن المصالح الفئوية الضيقة وجعلها منافذ التعبير عن الوطن العراقي الموحّد وعن كلّ الشعب العراقي ونظامه الديموقراطي المنشود بعيدا عن تفاصيل أهداف هذه الفئة أو ذلك الحزب أو تلك الحركة يسارا أويمينا و علمانية أو دينية...

إنَّ التوافق على أرضية تحييد الدبلوماسية العراقية وموضوعيتها وجعلها ممثلة لمصالح الوطن والشعب هي حتمية عليا لا مناص من الالتزام بها لنجاح فعل الدبلوماسية من جهة ولنجاح كل القوى الوطنية مجتمعة في التعبير عن أهلية شعبنا وحركاته في التعاطي مع النـُظـُم اليدموقراطية المتحضـِّرة إيجابيا..

أما النقطة التي تلي ذلك فهي أنْ يكون التفاعل بين الجاليات العراقية والسفارات ومكاتبها مرسوما بشكل قانوني وبضوابط متعارف عليها دوليا من جهة . ومن الجهة الأخرى ينبغي أنْ يجد العراقي في أيّ مكان من العالم سنده القوي المتين فإذا ظهر مثال أو أكثر من الأمثلة التي تتخلى فيها السفارات عنه وإنْ كانت حالات فردية فسيكون الأمر مقدمة لفقدان الثقة وهذه المرّة لا قائمة لتصحيح الموقف من جديد بغير خسائر طويلة باهضة ....

إنَّ هذه العلاقة من الأهمية بمكان بعد أنْ تقطـّعت السُبـُل بعراقيين يُحصـَون بمئات الآلاف في مختلف الأراضين وهم تحت ضغوط الدول وقوانينها المحلية الخاصة التي تشكل سيفا على رقابهم بالإبعاد الذي يتهدد مصالحهم ويهدد العراق الجديد بمزيد من الأعباء والأحمال فوق ما هو به من تركة ثقيلة ومشاكل خطيرة عليه أنْ يعالجها قبل أنْ يكون مستعدا لاستقبال أبنائه من جديد..

وغير سيف الإبعاد هناك مشكلات المعيشة غير الإنسانية لكثير من هؤلاء ومشكلات تتعلق بقضايا قانونية لا يجدون من يتفاعل معها على وفق اتفاقات جنيف وحقوق الإنسان وكثرما اُختـُرِقت عندما تعلق الأمر بالعراقيين. لذا كان على السفارات والدبلوماسية العراقية أنْ تجد وسائلها اللازمة الكفيلة بمتابعة تلك الأعباء الواجب النهوض بها بجدية وفاعلية ملموسة من أولئك المهضومة حقوقهم والمعتدى عليهم..

طبعا سيكون التعاطي مع [حتى] أولئك المخطئين الذين ينبغي أنْ تقف السفارات بالضد من أخطائهم وآثارها السلبية؛ لكن مع الاحتفاظ  بكامل المسؤولية الوطنية تجاههم بعدم التفريط بحقوق المواطنة العراقية التي إذا لم تؤسس لها البدلوماسية العراقية علاقة الاحترام والقدسية  اليوم وعلى الفور فإنَّ دهرا آخر سيطمس العلاقة بين المواطن والدولة وسيمرّر العلاقة السلبية المرضية التي ظلت عالقة منذ عهود أفندية الدولة العثمانية..

كما للجاليات العراقية ذات الوجود التقليدي القديم حيث خرج آلاف من أبناء الوطن تحت سيف ضيم الاضطهاد والقتل والتشريد أخصّ المسيحيين  من الكلدان الآشوريين السريان وهم اليوم بجنسيات كثيرة ولكنهم مازالوا يحتفظون بالحبل السريّ الرابط مع الوطن ويرغبون التواصل والتعاطي مع بعض الإشكالات والموضوعات من خلال نوافذه وبواباته لأنَّها مازالت قضايا وموضوعات على صلة متينة بالوطن, ما يجعل من الصلات معهم ومن التواصل الإيجابي أمرا مفيدا لجهة خدمة جديد توجهاتنا الوطنية وما  يراكم المفردات التي تبني لمصلحة كلّ فئات الشعب العراقي..

وبالتركيز على إجرائيات العمل الدبلوماسي وعلى ما ينبغي أنْ يكون من مستهدفات تظل عملية التجديد وتشخيص المصلحة الوطنية عامة شاملة لا تخضع لضيق أفق ولا تسمح لاختراقات توقع في مطبات إشكالية تورّط البلاد أو تضعها في موضع هي في غنى عنه... وهكذا فإنَّ المسؤولية الدبلوماسية مضاعفة لأنَّ الخطأ الذي يمكن أنْ يحصل لا يحصل بين أهل الوطن الواحد ويمكن إنهاؤه بلا تبعات بل هو يحصل مع قوى أو دول أخرى ما يفرض علينا التزامات ويرتـِّب أحمالا قد لا نسطيع دفعا أو أداءها في ظروفنا القائمة..

وهكذا سيكون علينا مضاعفة جهود لتحديد ملامح خطواتنا المقبلة, وفي ظرف تعددية المرجعية السيادية سيكون على الضمير الوطني المخلص أنْ يقدِّم العام على الخاص بل يبعد الأخير وفي ظل تشكيلة مجلس الحكم وتنوع الرؤى يحتاج الدبلوماسي إلى أكثر من المنطق الدبلوماسي البسيط المعتاد إنَّه يحتاج إلى التعاطي مع حالات معقدة متداخلة ترفض الاستجابة للطبيعي من الحلول والمعالجات..

من جهة أخرى تقع الدبلوماسية على الجبهة المباشرة للصراعات الدولية وللأطماع والمصالح وعراق اليوم ميدان فسيح لهذه السمات أو العلاقات ما يدفع باتجاه مجابهة حادة مع وقائع تلك الصراعات وحاجة ماسة للتفاعل البنّاء الذي يضيف للعراق ويبني فيه ويوقف التداعيات التي قد تهدم وتوقف التقدم بعد مرحلة انهيار الدكتاتورية .. وهي مهمة العراقيين جميعا في حاضرهم ومستقبلهم المباشر التالي..

ولن يكون سهلا استبدال الجديد بالقديم [حيث المتروك هو القديم بكل سلبياته] ولكنَّنا لا نملك من مصيرنا إلا التقدم نحو مصاعب الجديد ومتطلباته المعقدة .. لأنَّه مصيرنا الذي نبني في ضوئه الصحيح الصائب لأجيال قادمة. ومن نافلة القول أنْ نشير لحاجة جدية للاختصاص في المناصب الدبلوماسية وإلا سنكون كمّن يضع دجال أو مضمد أميّ  مكان جراح القلب أو الدماغ أو ما إليهما.. فهل سينجح في الحلول مكانه وإنجاز مهماته؟؟؟

فإذا قال قائل هذا المتوافر عندنا اليوم أخطأ السبيل, إذ العراق ليس مطالبا بتسمية السفراء فورا في جميع البلدان وعليه التدرج بما يتناسب وإمكاناته الواقعية في التعيين والتنسيب وفي مرجعية الأمور بين كل مجموعة دول متجاورة حتى يصل مستقبلا إلى التغطية التامة للحاجة الوظيفية. ولاعتبارات مهمة يجب عدم التسرّع في تلك التغطيات وفي خياراتنا.

كما ينبغي داخليا منح الخارجية العراقية صلاحيات الإشراف والمسؤولية المباشرة, والتقدم بها نحو المسؤولية الكاملة التامة تدريجا. والتدخل اليوم في العمل اليومي التفصيلي سيكون من مقدمات خرق القوانين والتجاوز على الصلاحيات وفي عرقلة موضوعية العمل ونزاهته ولا نفع للحجج والذرائع في الأمر وما نلاحظه اليوم هو نهوض أعضاء مجلس الحكم بدور الخارجية فكلما تسلَّم أحد التسعة الرئاسة وضع لنفسه برنامجا أولوياته الأساس هي الزيارات الخارجية.. حتى تطبّعت الدول على استقبال موظفي الخارجية لوفود مجلس الحكم!؟

وليس من الصائب بعد ذلك التذرّع بإضفاء الاهتمام وبخصوصية المرحلة فإذا لم يكن السيد وزير الخارجية كفءا لمنصبه وأداء واجباته فلنأتِ بغيره ولنوقف مسلسل رحلات أعضاء المجلس ولنوقف تشويش الصورة أمام أنظار العالم تجاه وجود حكومة ووجود مجلس سيادة؟؟ وأعتقد جازما أنَّ السيد زيباري قد كان عند مستوى المسؤولية الدبلوماسية حتى الآن وبامتياز [وزير] [[فوق العادة]]  كما يقول المصطلح الدبلوماسي ولذا علينا الالتفات للحقيقة وليركّز الأخوة على مهامهم بتركيز أفضل بخاصة وقد ارتكب كلّ منهم خطأه الفادح أحيانا تجاه الأعراف الدبلوماسية عبر تصريحات متعجلة أو مستعجلة أو.......

وللقائل إنّها مرحلة انتقالية أود الإشارة إلى أنَّ مسافة مقابلة واحدة قد تودي بعمل سنوات ولذا كان تنبيهي هذا .. وليس ختاما للمعالجة لم نرَ بعدُ أو لم نستطع نحن المتابعين ما ستراتيجيات الخارجية (الدبلوماسية) العراقية حاليا وما تكتيكاتها في ظل تشويش تحركات بعض أعضاء المجلس وكلّ واحد يجرّ الحبل تجاه سياسات [حزبه] وشخصه وأهوائه وأشدِّد على أهواء لأنني لم أستطع تبيّن برامج ومشروعات وخطط لأي حزب بصورة عامة قد لا تشمل الجميع ولكنها تمثل الأغلبية.. فهل من عمل يوقف تضاربات السياسة الدبلوماسية ويوحّد المسار لمزيد من النجاحات والتوفيق نحن بحاجة إليها مفردة مفردة ومهما صغـُر شأنها؟؟؟؟؟؟؟

ولكن للاختتام لابد من أنْ نشدَّ على أيدي القائمين على الدبلوماسية اليوم وعلى الخارجية العراقية لما يجابهونه من تعقيدات وتداخلات ومصاعب ونواقص ليس من السهل تجاوزها إلا على حساب وجود ثغرات في العمل لا نريد تحميلهم إياها ولكنَّنا نقف بجانبهم على الرغم من كلّ ذلك ونعرف أنَّ الآتي أنصع وأروع بفضل جهودهم الكبيرة.. وهي فاعلية معهودة بالدبلوماسية العراقية على مرّش العهود والعصور...

 

خاص بإيلاف

 

1