العنف والتوتر بين الافتعال لمآرب متقصَّدة متعمّدة وبين إفرازات الجهل بإدارة الدولة والفشل في تسيير برامجها

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

  تتفاقم فلسفة العنف وتتزايد حدة التوترات المجتمعية يوميا. فعلى المستوى الاجتماعي العام نجد حالات التشنج والتوتر هي ما يسود الفعل ورد الفعل في العلاقات الفردية والجمعية؛ وربما كان من السهل هنا أن نشير إلى حالات الشجار واستخدام لغة تبادل الضرب والتعذيب البدني سواء ما تتعرض له الطفولة أم العنف الأسري بخاصة العنف ضد النساء الذي يصل حد جرائم القتل الأبشع؛ فضلا عن الإشارة إلى الشحناء العشائرية وأشكال التفاصل الدموية بين أطراف مجتمعية مشحونة بالتوتر!

لكننا هنا بهذه المعالجة، نريد التفصيل في موضوع خطير شكَّل أرضية هذا العنف والتوتر، وهو السياسة العامة الجارية في البلاد.. وهي سياسة تتسم بخطاب طائفي من جهة ومن جهة أخرى بتركيز على استخدام أداتين مرضيتين هما الفساد والإرهاب رديفيين ثابتين للخطاب الطائفي. وبجميع الأحوال فإنّ ما يُدار في برامج الحكومات المحلية والاتحادية كان مؤداه، طوال سنوات خلت، مزيد توترٍ في إيقاع العلاقات البينية بين قوى فرضت سطوتها على المشهد العام فـ حوَّلَتْهُ باتجاه العنف الدموي.  

إنّ قراءة هذا المشهد، تؤكد أنّ جزءاً مهماً من هذي الجريمة الهمجية يمثل نهجاً مخصوصاً بقوى الطائفية، تلك القوى التي تعتاش على افتعال متقصَّد للتوتر والانشطارات والتشظي ولاصطناع الخلافات بغاية مشاغلة المجتمع بأمور بعيدة عن جرائم الفساد بأشكالها وللتغطية والتعتيم على مجريات الحقيقة.

إذن، الأمر الأول الذي يمكننا تحسّسه يتمثل في نهج القوى الطائفية من جهة مسؤوليتها المباشرة عن جريمةٍ تجري بتعمّد وسبق إصرار، إنها جرائم العنف بمستوياتها وأنواعها.

ويمكننا الإشارة هنا، على سبيلِ المثال لا الحصر، إلى ما يجري من عنفٍ إرهابي في المنطقة الغربية وفي كثير من جغرافيا البلاد.. إنه صراع بمشهدية اقتتال مفضوح بطائفيته وبمرجعية الانقسام بين جناحي الطائفية السياسية وإنْ جرى التعتيم والتضليل بشأن حقيقة ما يجري. المشكلة الأعمق بكارثيتها هي أن تكون القوى المتحكمة بذراعي تلك المعركة هي ذاتها المتحكمة ببنية الحكومة ومؤسسات الدولة سواء المحلية أم الاتحادية..

ولعلَّ ظهور العلاماتِ الطائفية، في المعارك ضد الإرهاب، والانحراف بتلك المهمة الوطنية الملزمة للقوات (الحكومية) هي مؤشرٌ خطيرٌ للممارسة الطائفية ولسطوة النهج الطائفي المرضي الأمر الذي يمرر من جهة الإرهاب كما يوقع أفدح الأضرار وأكثر التضحيات الجسام في بنية المؤسسة الرسمية وبين المدنيين أيضاً...

ومن الطبيعي أنْ نشيرَ إلى فعالياتٍ أخرى للجيش (الوطني) المجيَّر بخطابٍ حزبيٍّ طائفي من قبيل تشكيلات بنيوية له جرت بخلاف القانون ووبتعارض مع الأسس الدستورية بخاصة تلك التي عُدَّت موجهة لإثارة التوتر وربما لخلافات تمزيقيةٍ من طرفِ مكوناتٍ مجتمعيةٍ فديرالية كما حصل مع قوات دجلة وسواها.. إلى جانب النسب الطائفية المجحفة في طريقة بناء هذه المؤسسة التي يُفترض بناؤها بناءً وطنياً...

الأمر الآخر لإشاعة التوتر والعنف المتعمد هو نهج عسكرة المجتمع؛ ما يبدو واضحاً من اللجوء المتكرر، وبإصرارٍ، إلى الحلول الأمنية العسكرية في التعامل مع القضايا الخلافية السياسية. مع فتح الفرص واسعةً لعمل الميليشيات الحزبية، طائفية المرجعية. ومن التسهيلات الجارية هي حالات الصمت تجاه التجنيد العلني لصالح تلك الميليشيات ومن ذلك تجنيد الأطفال والسكوت عن الاستعراضات العسكرية في الساحات والميادين فضلا عن تمرير جريمة استقبال مرتبات تلك المجاميع العنفية الآتية من وراء الحدود أو من جهات مشبوهة ربما متخفية عن بعض أنظار لكنها مفضوحة أو ينبغي أن تكون مكشوفة للحكومة وأن تتصدى لها من باب ممارسة المسؤوليات الوطنية في إطار دولة مدنية كما اختار الشعب توجهاً رسميا، الأمر الذي لم يتم تنفيذه حتى يومنا..

تشريع امتلاك الأسلحة وفتح منافذ الحصول عليها  فضلا عن ترك ميادين البلاد مباحة للتدريبات العسكرية لتلك القوى العنفية والإرهابية... ويصل الأمر إلى إطلاق سراح العناصر الإجرامية الأخطر والإرهابية بعمليات ليس أقل شأن فيها ما اكتنفها من فساد مالي وأمني  فهي مفعمة بأشكال فساد تمر من تحت أنظار المسؤولين الحكوميين وكأنها قضية معتادة؛ انطلاقا من عملية، أو نهج، تطبيع الأجواء على تلك الجرائم المتكررة وإشاعة حال الاعتياد عليها ومعايشة تلك الجرائم بدل التحقيق وفيها والقبض على مرتكبيها ومحاسبتهم وإيقاع القصاص العادل بهم!!

ومن الجرائم العنفية ونهج خطاب التوتر والتشنج المتعمَّد، إخضاع المواطن لحالات الابتزاز والبلطجة التي تُمارَس من أجهزة حكومية كما في مراكز الشرطة المحلية  والعناصر الحزبية المسؤولة في الضواحي والمدن وما تمتلكه من عناصر ووسائل بلطجة.

وقمة إرهاب المجتمع، تجسَّدت مؤخرا، في رفض الانصياع لسلطة رقابية، وأسمى تلك السلطات الرقابية، مجسدة بالسلطة التشريعية، التي طالما عطلتها ورفضت الانصياع لها تلك الشخصيات المسؤولة الأولى في السلطة التنفيذية. حيث مهد هذا لأصواتٍ لا تمتلك بديلا وحلا موضوعيا سوى الدعوة لاستكمال الفعل الانقلابي على الدستور بطلب إعلان حال الطوارئ والقصد يكمن في بلطجة الدولة والمجتمع وفرض الأحكام العرفية وسلطة القوة وعنف العسكر!

كل هذه الملامح وما تضمنته طوال السنوات المنصرمة من صولاتٍ ميدانيةٍ كانت بأغلبها ضد أطراف شريكة في السلطة أو حتى في التحالفات الأقرب طائفيا سياسيا! وهي بعمومها فعاليات عنفية قامت على افتعال الأزمات والتوترات التي مهدت وتمهد للاصطراع الذي وصل في الغالب لمستويات دموية. ولطالما رسخ في ذهن المواطن من تجاريبه اليومية أنّه لا يمكن أن يستثني أو يغفل الإشارة إلى مجريات التفجيرات اليومية وما لها من علاقات بتلك الافتعالات الأزموية العنفية البشعة.

ولأي قراءة موضوعية تخترق حالات التشويش المتعمد ألا تقف عند الجريمة المتعمدة بسبب النهج المخصوص، فهناك أيضا في ظل الفوضى وانفلات الأمور، كل تلك الجرائم التي قد لا تكون صدرت عن نهج متعمد متقصد بل نجمت عن فشل في إدارة الملفات الساخنة بسبب عدم الجاهزية للشخصية وللحركة التي توجه الأمور وتحصر صلاحيات اتخاذ القرار بين يديها، محتكرةً سلطة الفعل انفراديا...

وفي وقت يُعَدُّ هذا الفشل عائدا للمستوى المتواضع للشخصيات التي تسلمت المسؤولية وإلى عدم توافر الكفاءة في العمل العام ولخوائها من المستوى المعرفي المناسب لممارسة المسؤولية؛ فإنه في الوقت ذاته، فوق خطل نهجها وهزال مستواها، يعودُ إلى توجهها الانفرادي الذي فتح بوابات الصراعات وعطَّل إمكانات مجابهةٍ أفضل للمشكلات المعقدة.

إنّ جملة تلك الحقائق التي عاشها الشعب بكل مكوناته تفرض مسؤولية التغيير النوعي الجوهري المنتظر. إذ لن تكفي حالة الترقيع الإصلاحي الجزئي، فالخلل موجود بنيويا فيمن أمسك بسلطة القرار وانفرد به طوال المرحلة المنصرمة. ولابد لمن يريد العيش الآمن الكريم من أن يتخذ قرارا جريئا شجاعا باختيار بديل جوهري حيث يجب أن يتسم هذا البديل بالوطنية بديلا للطائفية وبالديموقراطية وخطابها التداولي التعددي بديلا للانفراد وطغيان سلطة الاستبداد بالرأي وبالاتجاه لبناء الدولة المدنية ومؤسساتها الدستورية بديلا لنهج التستر بخطاب ثيوقراطي طقوسي مصطنع لا يعالج جرحا ولا يقدم لقمة خبز ولا يفتح مصنعا ولا يحيي مزرعة وكل ما في حقيقته أنه: يستغل الجهل ولا علاقة له بدين أو مذهب.

بالخلاصة فإنّ العنفَ السائد اليوم، بجلّ ما يحياه المواطن، ناجمٌ عن نهج متعمد متقصّدٍ يستهدف مآرب من يقف وراءه من قوى جناحي الطائفية. وليست تلك المآرب سوى مواصلة إثارة غبار المعارك للتعتيم على ما يجري من نهب وسلب وجرائم فساد لن تنتهي حتى يُجهزوا على آخر قطعة من الوطن ويحولونها إلى ضيعة بين كانتونات الإذلال التابعة للمافيات الدولية وحصصها في ثروات البلاد؛ وحتى يضموا آخر مواطنة ومواطن  إلى قطيع سوق النخاسة يبيعونهما بأبخس الأثمان إن لم يقدموا رؤوسهم أضاحٍ لأعداء السلام والحرية!

إنّ تلك المآرب ليست مخفية بعد أن تضخمت الجريمة الجارية وباتت واضحة للعيان لكل أبناء الشعب ممن يرزحون اليوم لابتزاز العسكرة وإشاعة خطاب العنف الدموي وهمجية الجريمة التي يمارسها ثلاثي (الطائفية الفساد الإرهاب)...

وبالمجمل فإنّ الردّ المؤمل من أبناء الشعب، أن يؤمنوا برسوخ بقوة المواطن عندما ينوي التصويت للتغيير الجوهري بحجب صوته عن الحركات التي كانت أداة طحنه واستغلاله واستعباده واضطر بالأمس لمداراة لقمته بالعمل في إطار ما صادرته من مؤسسات. وطبعا بعدم ترك بطاقته تسرقها تلك القوى وبالتوجه لاستثمار بطاقته وتفعيل موقفه بالتصويت للبديل الوطني الديموقراطي ومشروع بناء الدولة المدنية وهو البرنامج الذي لا تبنيه القوى المتسترة تضليلا بالاسم فقط وإنما الخيار سيكون بالتصويت لأصحاب الأيادي النظيفة والأفئدة الطاهرة والعقول العلمية والضمائر الإنسانية الأنقى.. والشعب يعرف طريقه إلى هذي القوة المقصاة عمدا مع سبق الإصرار: إنها القوة المكونة من التحالف المدني الديموقراطي وحليفه التاريخي القوى الكوردستانية التي كانت وماتزال الركن المكين للتوجه نحو بناء مجتمع السلام والتسامح وإنهاء كل قيم العنف وما افتعلته قيم الثأر والانتقام والاحتراب والاصطراعات المفتعلة..

ولعل هذي المعالجة المتواضعة ستكتمل بعمق الخبرات المحتشدة في الأنفس والضمائر الحية عبر معاناة السنوات العجاف.. فمرحى بقوى التغيير من مكونات الشعب العراقي، تُنهي العنفَ وتبدأُ مشروعَ السلام.