مخاطر تهدد الفديرالية بتهديدها خيار الديموقراطية في العراق

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

أكَّدَتْ خبرةُ العملِ السياسيّ وتجاريبُ الواقعِ العراقيّ المعاصر، تلك العلاقة الوطيدة بين خيارِ الديموقراطيةِ والاستقلاليةِ المجسَّدةِ لخصوصيةِ كوردستان وشعبِها في إطارِ بنية الدولةِ العراقية الحديثة. فلقد ظلت وحدةُ المجتمعِ، عبر آلاف السنوات ومنذ بواكير وجود الحضارة السومرية، تقومُ على احترامِ التنوع والتعددية في إطار علاقةٍ مؤسَّسةٍ على المساواة والخيار البنائي لوجود شعوب وادي الرافدين في إطار دولة تحتضن الجميع. وهكذا استخلصت شعوبنا وحركاتها التحررية، أسمى المعاني والدلالات النبيلة، من حضارة تعمّدت بقيم الحرية والإيجاب...

وفي إطار فلسفة بناء الدولة الحديثة؛ وسعي البشرية للتعبير عن أفضليات البنى والتراكيب السياسية التي تمنح الجميع حقوقهم وحرياتهم في الخيار الإنساني، تمَّ تبني الديموقراطية أداة تعبيرية تناسبُ عصرنا لبناء الدولة الحديثة، وتعميقاً لنهج الديموقراطية اختارت التجاريب المتقدمة الاستقلال الذاتي أو النظام الفديرالي نسقاً بنيويا يحفظ للمكونات المجتمعية استقلاليتها وهويتها وحريتها في الخيار.

إنّ هذا الأمر هو ما تمّ تبنيه في دساتير الدولة العراقية بولادتها  الأولى بالاتفاقات الدولية المعروفة، وبولادتها الثانية بثورة 14 تموز ثم بنجاح حركة التحرر القومي الكوردية وبمؤازرة القوى الديموقراطية الوطنية العراقية بانتزاع الحكم الذاتي في مطلع السبعينات وبانتصار ثورتها في تسعينات القرن المنصرم في تحقيق الاستقلالية عن سطوة الطغيان ونظام الاستبداد والدكتاتورية.

لقد كانت كل تلك التجاريب تؤكد بالبرهان صواب خيار الديموقراطية للعراق والحكم الذاتي لكوردستان الذي بات واضحا ومجسدا في النظام الفديرالي الضمانة المبدئية لشعب كوردستان ضد محاولات المركزية المقيتة وسطوة قيم الانفراد بالسلطة ومحاولات العودة القهقري باتجاه دكتاتورية جديدة. وبرهنت الحقائق أنه كلما تراجعت الديموقراطية في العراق تعرض الشعب الكوردي للمصادرة والاستلاب وللقمع الدموي.

فسجل التاريخ الحديث تلك الضربات الشوفينية ليس بخطاب سياسي فكري حسب بل بخطاب عنفي دموي كما جرى بثلاثينات وأربعينات القرن المنصرم وكما جرى بمنتصف الستينات منه ثم السبعينات ليتوِّجَها طغيان الدكتاتورية الفاشية بجرائم الإبادة الجماعية المفضوحة النكراء.

ولطالما تدرجت الأمور وأخفت وجهها الإجرامي القبيح خلف تبريرات وخطابات لا إنسانية جوفاء. فوجدناها تُراكِمُ الأفعالَ لتُسفِر عن مآربها بجرائم كبرى في التوقيتات التي تكتمل بالتمكن من الوضع العام أولا مستهدِفةً الكورد في محطاتها الاستراتيجية التالية.

اليوم، ومنذ سنوات عشر، جرت مماطلاتٌ وأشكالُ تسويف بشأن تطبيق مواد دستورية؛ كما جرى اختلاق أزمات وافتعال حالات احتقان وإلقاء الأسباب على كاهل القيادات الكوردية بل إلقاء التبعات على كواهل شعب كوردستان برمته! ولسنا بحاجة لتعداد ما اُختُلِق من مشكلاتٍ وأزمات بدءاً من تعطيل المادة 140 وليس انتهاء بعرقلة إقرار القوانين الدستورية الرئيسة من عدم استكمال بنية السلطة التشريعية بنصفها المعطل بقصد الوقوف بوجه تشكيل مجلس الاتحاد ومرورا بقانون النفط والغاز وتجنب إصدار قوانين ولوائح العمل سواء قانون الأحزاب على سبيل المثال أم لائحة العمل بمجلس الوزراء وليس أخيرا سحب صلاحيات الوزراء وحصر السلطة بيد شخص بعينه الأمر الذي وصل بخطابه للتصريح بانتفاء الشرعية حتى عن البرلمان نفسه!

إنَّ عرقلةَ مسارِ التوجهِ نحو تلبية مطلب الشعب في اختياره بناء دولته المدنية وأسس الديموقراطية، يتواصل يوميا، حتى أننا اعتدنا في عيشنا اليومي وفي متابعة نشرات الأخبار على جديد الخطوات المتفاقمة المتضخمة بوجه الخيار الديموقراطي!

فها هي حالات الإفراط المنفلت من الخضوع لقانون في استخدام العنف الدموي البشع بقمع التظاهرات والاحتجاجات.. وتلك هي عمليات مصادرة كل صوت وطني ينتقد بنيويا سلميا شخص من استبد اليوم بقراره المنفرد. ونحن نرى عمليات تصفية جسدية تطاول الشخصية الديموقراطية أو تطاول أحد أفراد عائلته بمحاولة لابتزازه أو تمارس أشكال الضغوط والتهديدات لإبعاده خارج ميادين الاتصال المباشر بأبناء مدينته فضلا عن استغلال التأثير المباشر على عناصر في السلطة القضائية لاستبعاد أسماء لا يمكن أن تخضع للابتزاز ولا تتمكن البلطجة من الوصول إليها وتصفيتها، فيجري استبعاد تلك الشخصية بمختلف الحجج والذرائع...

إنّ  ما يجري اليوم من حرب تُخاض في الأنبار ما عادت محدودة بجغرافيا تلك المحافظة ومدنها؛ فالمؤشرات يعلو صوت تساؤلها عن السر الكامن وراء انسحابات ومناورات لقوات تأتمر بسلطة قائد واحد أمام ميليشيات معدودة العناصر محدودة القوة، ما يُفسح لها المجال لدخول المدن الآهلة بالسكان والتنقل بين محافظات يجري التدرج في حركتها من الأنبار صعودا نحو حمرين ونزولا باتجاه ديالى  وكأن الطرقات معبدة أمام هذا الحراك الإرهابي!!؟ لكنه إن لم يُفسّر ويُلجم؛ فسيُقرأ بكونه جزءاً من ممارسات مقصودة لمآرب تتعارض وخيار بناء دولة مدنية والتقدم نحو أية ممارسة ديموقراطية حقيقية تمنح هذا الخيار فرصته في الحياة والتقدم...

إذن، التهديدات للديموقراطية في العراق، باتت أكثر من صريحة مكشوفة فهي تُخاض بالأبرياء من أبناء الشعب المضلَّلين بخطاب الطائفية ليكونوا حطب جحيم المعارك وضحاياها، فيما الغاية مصادرة أية إمكانية لإطلاق الصوت الحر وخياراته ببديل وطني يلبي مطالب الشعب حقوقاً وحرياتٍ.

إنّ ما يجري هو تصفية حساب مع القوى الوطنية الديموقراطية بآليات مبطنة تتخفى غشاً وتضليلاً ولكن الجوهر لن ينطلي على أصحاب الوعي والتجربة. وشعبنا يعي تماما من تجاريبه القريبة ما جرى من تهديدات تحولت لجرائم قمعية شمولية، والواقع يؤشر محاولات تكرار تلك الجرائم المعادية للديموقراطية والديموقراطيين.

إن الخطوة التالية، لن تكون سوى الإجهاز على أي مفردة من مفردات الديموقراطية وأولها البنية الفديرالية للدولة. وواضح تماما حال التساهل مع أصوات الحاشية المقربة والمحيطة بمصدر القرار ببغداد التي صارت تُسفر عن مطالبتها (بطلها الأوحد) أنْ يعلن الطوارئ وراحت تعزف على وتر التصعيد وتنفخ في قربة مقطوعة لمصادرة الفديرالية وصياغة أوهام الانتهاء من قيادة حركة التحرر الكوردية وهي ضمنا أصوات تدعو لإعادة احتلال كوردستان وإدارتها مركزياً...

إنّ الاعتداء السافر على مسار خيارات الشعب العراقي في الديموقراطية بكل مفرداته سواء تلك التي تضخ الخطاب الطائفي التضليلي أم التي تمارس البلطجة والعنف بمستوياته وأنماطه هو مقدمة خطيرة لاستكمال الاستعدادات للاعتداء على الفديرالية وعلى شعب كوردستان مثلما عموم الشعب العراقي وحال غرقه في طوفان الظلام الدامس لنهج التخلف والتجهيل والاستبداد...

لقد بدأت المعركة اليوم، ضد الفديرالية عبر أشكال من الحصارات. فحصار سياسي تسقيطي يتظاهر أنه موجه ضد شخصيات وحركات ولكن حقيقته للمتمعن موجه ضد الكورد شعبا ووجوداً إنسانياً بهويته المستقلة. وحصار اقتصادي يجسد عقوبة جماعية ضد شعب كوردستان بحجة أو ذريعة أنه موجه ضد مواقف سياسية للقيادة الكوردية. والأخطر أن الحركات الطائفية وأحزابها لم تكن يوما بريئة من أجندات غير وطنية ومن استغلالها لميليشياتها وعناصرها المبنية على طريقة الخلايا النائمة  المتخفية لتحريكها بمآرب إجرامية في توقيت لاحق!

إنّ على القيادة الحكومية في بغداد مراجعة الخروقات في سياستها وطابع التأليب الذي تضخه بعض عناصر في السلطة والانحراف الخطير باتجاه مسار العملية السياسية. فالواقع العراقي العام وإدارة الحكومة الاتحادية بات لا يمشي مستقيما بل يعرج بوضوح ولم يعد ينظر ولا يرى إلا بعين واحدة لعوار أصاب خطابه أو اخترقه  فتجاوز بمخاطره وتهديداته حتى فلسفة الخطاب الطائفي ومحاولته النظر بعيني المحاصصة التي يجري التخلص منها ومحاولة فرض الصوت الأحادي عليها! ومثل هذا يجرّ الأوضاع نحو مزيد تداعيات ليست محمودة العواقب.

إنّ على كل القوى المخلصة للوطن ولخيار الشعب ومكوناته واجب العمل على تصحيح المسار وتنقية الأجواء وضبط الأداء وإعادته إلى وسائل الحوار والتصالح مع الذات. وإلا فإن انفلات الأمور من عقالها لن يكون له  من دواء  على وفق الفروض القسرية ولغة العنف وخطاب السياسة الشوفينية الفوقية الاستعلائية على الآخر والفاشية القمعية للتعددية والتنوع وللخيارات الشعبية السلمية.

وحسنا تفعل القيادة الكوردستانية بجهودها في تعميد علاقاتها الوطنية مع الحراك الديموقراطي عراقيا والأممية مع القوى المناصرة لحرية الشعوب واستقلال الأمم وفي ترسيم علاقات دولية عبر المنظمات الأهم دوليا ومنه على سبيل المثال جسور العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والتقدم نحو إقرار جرائم الإبادة الجماعية فيه رسميا تعزيزا لوسائل التصدي لأي احتمال لمن يتوهم أن بإمكانه تكرار تلك الجرائم الهمجية.

إن تحصين كوردستان وتأمين مطالب شعبه في المستوى الوطني العراقي يكمن في وحدة وطنية مع القوى الديموقراطية، السند المكين للفديرالية. ولكن تحصينها هذا غير كاف إذ لابد من إسناده بتلك العلاقات الدولية بمحيطيها الإقليمي والدولي الأبرز. وهو ما تمضي فيه القيادة الكوردستانية بخطى إيجابية حثيثة على أنه سيكون أجدى وأمتن أن يرافقه التقدم بخطى بنيوية اقتصادية أبعد من اعتماد الاقتصاد الريعي والوقوف عند النفط ومصادره المالية فلا بد من استثمارات صناعية زراعية مكينة وجوهرية لتعزيز إمكانات كوردستان في التصدي للتهديدات التي باتت على تخومها.

وبموجز القول: فإنّ الترابط بين الديموقراطية في العراق والفديرالية في كوردستان سيبقى شريان الحياة للعراق الجديد إذا ما راجعت جميع القوى منطلقاتها وأداءاتها وقطعت الطريق على من يتصيد بالمياه العكرة. وهنا لابد من التوكيد على مخاطر الانجرار وراء الخطابات التبريرية التضليلية التي تستهدف الفديرالية والقيادة الكوردستانية وهي بمآربها  تصيب العراق الديموقراطي الفديرالي بمقتل إذا ما قبل أحدنا الوقوع بمصيدتها ومآربها.

فهلا كان لنا جميعا من تنبه على ما نشارف عليه من مخاطر الإيغال بمثل هذه الأفعال والخطابات؟ والسؤال يريد التصدي للمغامرات والمغامرين الذين اخترقوا الوضع في بغداد وباتوا يمضون بطريق معقد يسميه حكماء العراق:"درب الصد ما رد" و "لات ساعة مندم".