استراتيجيات العلاقات الخارجية.. الدرس الكوردستاني المتجدد حيوية

 

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

 

أنْ تتناولَ قضيةً بمُدخلاتٍ استراتيجيةٍ، لا يتعارض مع فرصِ تقديم عددٍ من المعالجات فيها؛ تغتني بالدروس والتجاريب العميقة، بعيدة المدى. كما يمكن لكلّ تناولٍ أنْ يكونَ قد أفاد من تفاعلاتٍ معرفيةٍ مناسبة. وهنا تحاول هذه القراءة أنْ تبقى بحدودٍ علميةٍ أكاديميةٍ من جهة وبخطوطٍ عامةٍ بعيدة المدى.  وطبعاً هذا سيوفرُ فرصَ الحيادِ العلميِّ في القراءة.

وتوطئة لمعالجتنا التي تريد وضع استعراض في (مبادئ الاستراتيجية) نؤكدُ أنَّ (الاستراتيجية) التي وُلِد مصطلحُها من التجاريب العسكرية لم تبقَ مقصورة في الأداءِ على تلك الناحية بل دخلت في كل ميادين المعرفة ومنجز الخطاب الإنساني المدني الحضاري. ومن هنا فإنَّ أيَّ طرفٍ يفتقدُ إلى الاستراتيجيةِ لا يمكنُه بعصرنا أنْ يحققَ نجاحاً جدياً وربما يُخفق بسبب التخبط بين التنقلات التكتيكية التي ستخضع لاستراتيجيات الآخر وقدراته على النظر أبعد والسيطرة على توجيه الأمور بمحصلتها النهائية لمصالحه.

وتطبيقا عمليا لقراءتنا في مبادئ الاستراتيجية نشير إلى أنّ استراتيجية كوردستان تميزت بحيوية التجدد والتقدم إلى أمام منذ حققت انتفاضة شعب كوردستان انتصارها الكبير مطلع التسعينات؛ وهي تمضي اليوم في طريق البناء والتقدم بخطى مميزة. وهي تستقي بثبات خيرة التجاريب الأممية لإغناء التجربة الذاتية وتنمية القدرات وتطوير الأداء. ومن هنا فإنّ هذه القراءة المتواضعة تسعى لتكون عنصراً أو مفردةً بين مفردات التفاعل وإغناء خطى التنمية والتطور. وتحديدا في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية كوردستانيا.

وسنحاول المزج بين التطبيق العملي  لمفرداتِ معالجتِنا وبين التقسيمات النظرية لما وصلت إليه قراءة الفكر الاستراتيجي ومحاورها البنيوية. ومن جهة العلاقات التي عقدتها كوردستان الفديرالية فإنّ ملامحها تتجسد في فاعلية استثمار العلاقات القنصلية التي شهدت تطوراً مميزاً كبيراً في السنوات الأخيرة؛ حيث تمَّ افتتاح قنصليات الدول الكبرى ودول إقليمية مهمة فضلا عن عشرات أخرى ناشطة في تدعيم جسور التواصل والتفاعل.

كما نجد بالمقابل حضوراً مؤثراً فاعلاً للشخصيات الكوردستانية القيادية في المؤتمرات والأنشطة التي تقيمها المؤسسات والمنظمات الدولية المهمة. ولقد كان اختيار شخصية العام في العلاقات الدولية ممثلة بفخامة رئيس كوردستان الأستاذ مسعود البارزاني دلالته المتقدمة بنجاح استثنائي لإدارة العلاقات الخارجية بين كوردستان ومحيطها الدولي. أضف إلى ذلك مُراكمة فعاليات متقدمة تتوجت باعتراف برلمانات دول أوروبية بطابع الإبادة الجماعية لتلك الجرائم التي طاولت الشعب في ظل طغيان الدكتاتورية الفاشية المهزومة.

ولعل آخر ما يُقرأ في سجل العلاقات الخارجية الكوردستانية يتمثل باللقاءين المهمين في الاتحاد الأوروبي مجسداً بكلمة فخامة الرئيس في بروكسل وأعقبها دراسة لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان الأوروبي لإدخال تلك الجرائم في السجل الأسود للإبادة الجماعية، مدخلاً لمزيد من التقدم في أشكال الاعتراف بحقوق كوردستان بعد أن جرى طمسها وتغييبها منذ منتصف عشرينات القرن المنصرم.

وبغاية استنطاق مشهد نمو العلاقات الخارجية وكيفية تفعيل ذياك النمو، سنقرأ الأمر في ضوء استنطاق مبادئ الإستراتيجية مفهوماً فكريا فلسفيا في الخطاب الإنساني المعاصر، ونحن هنا نزعم أنّنا لا نقف عند قراءة مفكر أو آخر بل استنطقنا ما نجده مجسِّداً لمبادئ الاستراتيجية من وجهة نظرنا المتواضعة. ولنبدأ تلخيص القراءة في مبادئ الاستراتيجية مجسدة بالآتي:

 

01.           جمع القوى والإمكانات المتاحة، بتوحيد أكثر تلك القوى وجودا: إنّ هذا المبدأ يتحدث عن تأسيس الجهد الاستراتيجي بخلق اصطفاف لكل القوى والإمكانات أو أغلبها بحسب المرحلة حتى يمكن للمخطِّط الاستراتيجي أن يصل إلى غايته النبيلة النهائية. وفي هذا المجال فإنّ العلاقات الكوردستانية الخارجية، تطلبت وتتطلب البحث في، أيّ تلك القوى والعناصر ينبغي توظيفها في السعي لأفضل علاقات بنيوية خارجية؟

 

02.           تركيز الجهد الرئيس الحاسم في هدف رئيس أو حصره في حقل رئيس واحد وعدم تشتيته: أما هذا المبدأ المكوّن لأي استراتيجية سليمة، فيمكن تلمسه في تركيز الاتجاه نحو هدف اعتراف بوجود كوردستان شعبا وحضارة بهوية مخصوصة مستقلة، وتقديم وجوده في الإطار الفديرالي بوصفه خياراً حراً للشعب في ضوء ظروف ومحددات ملموسة؛ بمعنى ترسيخ فكرة الاعتراف الضمني ببقاء حق اتخاذ القرار بشأن طابع العلاقة الفديرالية من إلغائها بيد الشعب وطبعا تثبيت هذا الأمر دستوريا ونقل هذا التوثيق باتجاه الاعتماد الدولي. وبهذا تكون الطريق واضحة في اتجاه الإجابة عن أي الأمور ينبغي فيها استثمار العلاقات الخارجية للإقليم الفديرالي. وهذا التركيز يمتلك رؤية صائبة يعكس فهما وتمكنا من إدارة الفعل الاستراتيجي.

 

03.           ضرورة أن يتطابق الهدف الرئيس مع الإمكانات المتاحة عملياً، ويتطابق مع الافتراضات المنطقية وبحدود اشتراطات الواقع: ومن الطبيعي، بوجه عام، لأيِّ مدركٍ للعمق الاستراتيجي المؤمل في جهوده، ألا يتعجل الانتقال بين المراحل وربما يغامر في قرار أو آخر، بل ينبغي تهدئة أو تسريع الحراك على وفق المحددات المتوافرة وليس على وفق الرغبة والاستهداف. ولعل الجهد الكوردستاني الأوضح بخصوص هذا المبدأ هو امتداد الصبر والتحمل وتجنب التسرع واختيار مستمر لمطابقة بين الهدف المُطالب به وبين الإمكانات المتاحة. فمثلا لا يوجد أمام أية منظمة دولية بكل تنوعات مهام تلك المنظمات مطلب يتجاوز محدداتها وما متاح فعليا من تفاعل في إطار المنظمة. ومن هنا فإنّ مطلب الاعتراف بطابع الإبادة الجماعية للجرائم المرتكبة بحق الشعب الكوردي، لم يأتِ إلا بعد دراسات أكاديمية سياسية وبعد تحشيد لعناصر كثيرة وفَّرت اليوم فقط الإمكانات التي تمنح فرصة تحديد هذا الهدف عندما جرى تقديمه مثلا للبرلمان الأوروبي. إن هذا التفكير يبقى سليما ناجعا في خطواته استراتيجيا حيثما بقي متمسكا بالمطابقة بين الهدف النهائي والإمكانات والمحددات المتاحة. ومن الطبيعي أن هذا ينطبق على قراءة أيّ هدف بعيد آخر.

 

04.           الاقتصاد هو مصدر القوة في أي تخطيط استراتيجي، ولابد من التفكير بتوظيف كل عناصره: إنّ أي كينونة في المجتمع الدولي المعاصر، لا تتحدد بحجمها الشكلي ولا بما تختزنه من سلاح القوة العنفية، بل تتحدد في أرضيتها الاقتصادية. ولطالما بدأت المعارك الكبرى بسياسة الحصار والتسقيط الاقتصادي. وفي الميادين كافة لابد من توافر قاعدة اقتصادية مكينة متينة من أجل الانتصار في المحافل الدولية. وتجدر الإشارة هنا على سبيل المثال إلى تجاريب عدد من دول شرق آسيا وغربها كدولة قطر في تحقيقها هدف رياضي استراتيجي ممثلا باستضافة بطولة العالم لكرة القدم، فهذا لم يحصل لولا الأرضية الاقتصادية القوية للبلد الصغير حجما لكنه الكبير بقدراته المادية.

إنّ إدارة العلاقات الكوردستانية الخارجية لا يمكنها أنْ تنمو من دون أرضية اقتصادية متينة. ولهذا التفتت القيادة الكوردستانية بجدية نحو الاقتصاد ببوابة ورقة الإصلاح وعبر طلب الدراسات والبحوث من المراكز الدولية، بمجالات التخطيط والقانون وميادين الاقتصاد المتنوعة صناعة وزراعة وفي تفاصيل منها كالسياحة وغيرها.. لكنّ الأبرز في الأمر هو العمل المثابر على إدماج الاقتصاد الكوردستاني بالاقتصاد الدولي من ممرات العمل على تطوير سوق أربيل المالي والتحول به إلى وجود ملموس مندمج بالسوق الدولي بجسور ملموسة. وعبر جذب الاستثمارات الخارجية والعمل على تنويع مصادرها سواء إقليميا أم دوليا. هذا فضلا عن السعي الحثيث من أجل الارتقاء بالاقتصاد المحلي وإثرائه بحراك مخصوص، بالتفكير بمنح السوق استقلالية مناسبة كي تبتعد عن التضاغطات غير المحسوبة أو المفاجئة..

إنّ نجاحا جديا منتظرا لاستراتيجيات العلاقات الخارجية، سيبقى مرهونا بقوة الاقتصاد الكوردستاني ونموه وتطوره وثبات أوضاعه، من جهات مزيد من إنهاء أشكال البطالة على الرغم من نسبتها المتدنية ومنع أي احتمال لتزايد النسب الصغيرة للفقر والعمل على معالجة أشكال الخلل والثغرات التي قد تطفو هنا أو هناك في مسار الاقتصاد باعتماد خطط الإصلاح المدروسة من متخصصين على درجة كبيرة من النضج. ومع كل نجاح اقتصادي سيتأكد النجاح في العلاقات الخارجية وسيدور التفاعل الإيجابي تأثيرا وتأثرا بطريقة أفضل وأنجع تراكميا.

 

05.           لأيّ حشد لصالح المخطط الاستراتيجي ينبغي إيجاد تحالفات كبرى بين القوى والمؤسسات المجتمعية مثلا تلاحم الجيش والشعب: إنّ ظهير العلاقات الخارجية والسياسة الدولية يكمن في رصيد التحشيد للقوى الشعبية من جهة ولكل مؤسسات الدولة من قبيل الجيش. إنّ دروسا كبيرة تؤكد هذا المعنى ومن هنا فإن الاحتفاظ بوعي متقدم لدى قوات البيشمركة من جهة وإدراك قوى الشعب وحركاته لمعاني التلاحم والوحدة في المحافل الخارجية، سيبقى ركنا إيجابيا مهما لصالح إدارة الملفات الحساسة في تلك السياسة. وعليه فاستراتيجيا بدل ظهور أصوات تتحدث عن أمور جزئية ثانوية تريد حصاد موقف مخصوص لحالة أو أخرى تتسم بالفردنة والشخصنة ينبغي أن تظهر بدلا من ذلك وحدة والتفاف يُجمِعُ على القضايا الكبرى لكوردستان في أي محفل أممي دولي.

 

06.           على المخطِّط الاستراتيجي أنْ يوظِّف لصالح خطابه وجهوده ما يستفيد من مصادر الآخر وتموينه: قد يكون هذا واضحا للمخطط العسكري ولكنني هنا أشير إلى الخطط السياسية في إطار العلاقات الخارجية التي يجب أن تستثمر خطابات الآخر. على سبيل المثال المقارنة في جريمة حلبجة وجرائم الأنفال مع الهولوكوست كيما تظهر الأمور بصيغة أقرب للآخر. ومثال آخر أن نُدرج المواقف الإيجابية من داخل معسكر الآخر لتكون سنداً في مطلب بعينه. وعلينا طبعا أن ننتبه على أداء منافسين أو معارضين كيما نأخذ منهم ما يوقف معارضتهم ويدخل في إطار توكيد الحق والهدف الصائب الذي نسعى إليه.

 

 

07.           لابد من توفير الاستعدادات المعنوية والنفسية قبل الشروع ببرنامج استراتيجي، احتياطاً لأية احتمالات ومفاجآت: إن هذا العمل يعدّ عاملا خطيرا في الأداء الاستراتيجي، لأننا عادة ما نكون مطالبين بالتحمل والصبر والانتظار لمديات بعيدة قبل أن نحقق الهدف البعيد الاستراتيجي. ومن هنا ينبغي إيجاد مراكز دراسات وقياس رأي يتابع جهودنا التحضيرية في شأن مركزي رئيس\ استراتيجي فيها. ويتطلب هذا استعمال قدراتنا الإعلامية التعبوية فضلا عن اشكال التحشيد بوساطة الفعاليات الجماهيرية الواسعة وليس بتلك المحدودة بجدران القاعات. ويمكننا طبعا أن ندرس فعاليات كبرى، هي ضمنا عبر ما تحققه من أثر تكتيكي مباشر تجسد مع غيرها مفردات الجهد بعيد المدى.

 

08.           وأنْ يتمكن من تقويض إمكانات الطرف النقيض ومنع اتساعها أو السماح له بتوظيف أي إمكانات لمآربه: إن اتجاه شعب كوردستان إلى تعزيز حال الاعتراف الأممي الدولي لا يمضي من دون عراقيل ومعارضين بخاصة من قوى شوفينية معادية. وعليه سيكون مهما التفكير في كيفية تقويض أية إمكانات وتجنب منحهم فرص اعتلاء منبر دولي قد يقف عقبة بوجه جهود العلاقات الخارجية المتنامية.

 

 

09.           وعليه الاستمرار بالعمل والإنجاز والمحافظة بثبات على الهدف وعدم إضاعته أو فقدان الاتجاه نحوه: وفي خضم المسيرة ينبغي ألا يضيع المفكر الاستراتيجي هدفه وينشغل بأمور أخرى، بل ينبغي بالمقابل الاستمرار بمتابعة السير وتحقيق مفردات العمل باتجاه الهدف، من دون تلكؤ.

 

10.           وأن يتذكر دائما مبدأ استثمار أسهل المنافذ في الوصول المتدرج الخطى إلى الغاية: ومن الطبيعي أن يقبل المخطِّط السياسي الاستراتيجي بحال التدرج في الأداء وليس باستعجال حرق المراحل بما قد يخلق كبوة خطيرة. ومن هنا فإن السير باتجاه الهدف ربما تلكأ ولكنه يلتزم بالبحث عن كل الفرص والمنافذ الأسهل للمرور باتجاه هدفه. وهذا ما يعني عدم استصغار محفل دولي أو آخر والتمترس على بوابة المؤسسات الكبرى من دون قدرة دخولها. وسيأتي اليوم الذي تبحث تلك المحافل عن الطرف الذي راكَمَ بصبر وخبرة نقاطا صغيرة مع بعضها البعض حتى بات لديه وجود ملموس كبير دوليا. وعليه فربما كان حضور الفعاليات الصغيرة للجمعيات والمنظمات ومعها المؤتمرات للحركات المحلية والأممية لتأتي تلك المحافل المتخصصة العليا المتحكمة بسياقات العلاقات الخارجية.

 

11.           مع توفير المرونة الكافية والفرص أو المنافذ للمناورة والاستجابة للظروف وربما خطوط عودة واستبدال الهدف على وفق المستجدات: وهنا ينبغي في قراءة هذا المبدأ الاستراتيجي، أخذ الحيطة والحذر من الجمود في الأداء.. إذ يجب دائما افبقاء على خطوط عودة إلى الوراء ومنع الانزلاق في مشكلات بسبب انعدام القدرة على المناورة المرحلية التكتيكية أداءً. وفي هذا يبقى النظر صوب الهدف البعيد هو ما يدفعنا للتفكير في تحقيق فرص المناورة بدل الوقوع بخسائر كبرى. وعلينا إذن، تجنب السير بطريق واحدة وبخطاب أحادي الوسيلة. فقد تفرض الظروف أحيانا انسحابات اضطرارية مؤقتة، يجب أن نجعلها تصب في مهمة تقوية البؤرة الجوهرية؛ فيما قد تسمح الظروف التقدم في محاور يتراجع فيها الطرف المعارض.

 

12.           وعدم الزج بكافة الأدوات بخاصة الرئيسة منها إذا ما كانت هناك قوى تترصد الحراك وتعمل على عرقلته:إن فكرة عدم الزج بكل القوى في أية فعالية هي فكرة مميزة كيما لا تكون الخسائر استاراتيجية إذا ما جاءت مفاجأة أو أخرى. ومن هنا وجب الانتباه في الجهود الاستراتيجية إلى فكرة الاحتفاظ دائما بالقوة الرئيسة لخطوة تالية طالما كنا ما زلنا لم نحقق الهدف البعيد وبمنطقة التقدم نحوه.

 

 

13.           قد تضطرالاستراتيجية أن توظف مرة خطة واحد ضد ثلاثة فيما يمكن، في ظرف آخر أن يستخدم ثلاثة ضد واحد: في اللحظات الحاسمة وفي الجهود التي تباشر أنشطتها باتجاه الهدف لا ينسى أي طرف أن يتذكر حقيقة حاجته لتفريغ قوة واحدة من قواه أو أدواته للتعاطي مع ثلاثة تقابلها وعليه ستكون تلك القوة مميزة وقادرة على التعامل مع أكثر من محور في ذات الوقت. فيما قد يتطلب منه الأمر الدفع بأكثر من أداة وأكثر من خطة في مجابهة طرف مؤثر كي يستطيع كبح تأثيره المتعارض ومطلبه. وتلكم قضية بالغة الجدية في الالتفات إلى وسائل تنفيذ الخطط الاستراتيجية وتكليف طرف أو أكثر. مثلا الاكتفاء بممثل الخارجية أو الدفع بأطراف أخرى مساعدة وداعمة بحسب الحالة والتكليف والمهمة.

 

14.           يجب دائماً الاحتراس من الاختراقات بخاصة عمليات الالتفاف والطعن من الخلف: في السياسة والاقتصاد مثلما في الحرب تبقى محاولات الاختراق والالتفاف محتملة. وأخذها بالحسبان أمر جد ضروري كيما نحصّن تقدمنا ونجاحاتنا من أعمال الاختراق وتعريضها للتراجع واحتمال خسارتها بطريقة غير متوقعة. إن هذا الاحتراس سيتطلب منا إيجاد أفضل العناصر لتحقيق حرية العمل، لصالح الهدف الاستراتيجي وقبل ذلك لصالح توفير عناصر حماية المنجز ومنحه فرص العمل الملموس.

 

15.           تجنب اللجوء إلى لغة العنف والخطاب المتشدد و\أو التفكير باعتماد الحلول العسكرية والتحصن خلفها للوصول إلى الهدف؛ حيث لابد من الالتفات إلى أفضلية السبل غير المباشرة وتجنب ما يجعلنا نضطر للمواجهة وجها لوجه الأمر الذي سيحتم تكبدنا خسائر لا مسوّغ لها في سعينا المشروع باتجاه الوصول إلى الهدف ذاته. إن استقلالية الأقاليم الفديرالية ستأخذ قوتها أكثر من بنيتها التحتية الراسخة البنى الاقتصا اجتماعية تلك التي تعتمد نشاطا بنيويا في إطار دولة مدنية حديثة. ومثل هذا النموذج يجذب علاقات أممية ودولية أكثر تفاعلا وتبادلا للتأثير ويجذب جسورا أكثر عمقا بتركيبها وعصية على معارضي الاستقلالية وصعبة على مَن يستهدفها بعدائه. من هنا يبقى خطاب الدبلوماسية واعتماد رحابة الفكر وخطاب السياسة ومفاتيحها يمنح القوة أكثر من غيره في الوصول الأكيد للهدف الاستراتيجي بأقل الخسائر.

 

إنّ قراءة مبادئ الاستراتيجية وبعض التوضيحات والتطبيقات التي وردت هنا، هي فرصة جدّ مهمة لحشد القوى الشعبية حول السياسة الكوردستانية في إطار العلاقات الخارجية. تلك العلاقات التي ستغتني مع بنيتها التركيبية في تحديد محاور، العلاقات أولا مع الدول الكبرى وما يكتنفها من تفاصيل ومهام. ومن ثمّ العلاقات مع الدول الإقليمية المهمة والعلاقة مع البيئة الدولية المحيطة بتنوعات الجسور الرابطة. ثم البحث في أسس بناء علاقات مخصوصة مع المنظمات الدولية الرسمية وبمحور آخر في مد جسور مكينة مع الحركات الأممية الأبرز دوليا بما يبني أرضية قوية لحضور منتظر للكورد في المجتمع الدولي المعاصر.

أما وسائل بناء تلك العلاقات الخارجية فلربما كان أبرزها، في المجال السياسي لخطاب رسمي للدولة وهو ما يحتاج للتوجه نحو صيغ تستدعي البحث في بنية كونفديرالية مناسبة رداً على تعقيدات المشهد الداخلي عراقيا وبروز قوى ضاغطة سلبيا ما يتطلب معالجة الأمر بوثائق مكتوبة معتمدة فدراليا. على أنه حتى يتحقق هذا  يلزم مواصلة العمل المثابر في حضور المنابر الدولية الرسمية بوساطة المنافذ الدبلوماسية المعتمدة. وهنا ألفت النظر إلى المنظمة الدولية [الأمم المتحدة] واعترافها بممثلي الشعوب غير الممثلة بدولة من أجل ترقية التمثيل فيها وترسيخه وهو الأمر المتاح اليوم.  

كما تنبغي الإشارة إلى ممرات أخرى في العلاقات الدولية من جهة توفير أرضيتها. ولعل العلاقات الثقافية والعلمية  تجسد أرضية ذات أولوية مميزة. وهناك غير المؤتمرات والمهرجانات بمجالات الفنون والآداب من مسرح وسينما وشعر وغيرها، هناك أيضا صيغ التوأمة بين الجامعات وإقامة جسور علاقات التعاون العلمي وفتح فرص السياحة وجسورها ربما بدعم استثنائي من المال العام، لكن الاستثمار هنا يرسم لمديات بعيدة استراتيجيا...

 

لقد تميزت كوردستان بكل تلك المهام المرحلية إعداداً للجهد الاستراتيجي وأهدافه الرئيسة الأخيرة. ولكن مراجعات متجددة في الدراسات الاستراتيجية جد مهمة. الأمر الذي ينتظر التوجه إلى المراكز البحثية الاستشارية الدولية وإلى الجامعات ومراكزها العلمية فضلا عن دراسات الشخصيات الخبيرة والمتخصصة كيما يتعزز الفعل ويتحول باتجاه التأثير الأنجع. وعلى سبيل المثال قدمت جامعة ابن رشد دراسات علمية مهمة تأمل أنْ تغذ السير أفضل وأن تتحول لوثيقة داعمة مساعدة للجهود الاستراتيجية المؤملة. إنّ روح المبادرة من الجامعات ومن الشخصيات المعنية سيكون فعلا منتظرا دعما للحق التاريخي لشعب كوردستان في أن يأخذ مكانه ومكانته أمميا دوليا وأن يستثمر العلاقات الخارجية لغاياته الإنسانية السامية.