مهام المرحلة وطابع الحملة الانتخابية وبرامجها؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

تتناولُ الصحفُ الأوروبيةُ بالدراسةِ والتحليلِ الأوضاعَ الحقوقية في بلدانِ عالمِنا النامي ومستوى ممارسة آلية الانتخاب ربما في إطار خطواتٍ متعثرةٍ لمسيرةِ  بناءِ الديموقراطية ببعض تلك البلدان، الأمر الذي تجابه فيه انحداراً بممارسة الديموقراطية بدل استثمار فرص إشاعة ثقافةٍ إنسانيةٍ أرحب، تتبنى احترام الآخر وتطمين قيم التسامح والمساواة ومفاهيم التداولية في الإدارة والمشاركة في التخطيط والتنفيذ. ومن بين تلك البلدان التي ستجري فيها الانتخابات في هذا الشهر العراق. 

وبصرف النظر عن الرؤى التي قيلت في الشأن العراقي، كونها في الغالب تشير إلى أجواءِ التوتر والاصطراع السياسي الذي وظَّف فيه بعضُهم العنفَ وأشكال خطابات التسقيط والإيقاع بالآخر بشتى الممارسات؛ فإنَّنا هنا  نريد التحدث عن الظرف العام للمشهد المجتمعي العراقي ومطالب المرحلة وما تفرِضُهُ على الحملات الانتخابية ودور الشعب والناخبين تحديداً ووعيهم في توجيه الأمور.

إنّ حالات إعادة التأسيس والبناء للدول الحديثة؛ بخاصة هنا في تلك التي تنتقل من نُظم القمع والطغيان باتجاه خيار دمقرطة الحياة، تتطلب  مشاركة وطنية وإجماعاً ووحدة كيما تستطيع مجابهة حجم الخراب والفراغ العميقين. ومثل هذا حدث في تجاريب الانتقال من الفاشية كما حصل في عمليات إعادة الإعمار في البلدان الأوروبية التي خربتها الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال.

إنّ الأوضاع العراقية تشي بذاك البؤس وهولِ دمارٍ لكل البنى التحتية ولمجمل مؤسسات الدولة؛ الأمر الذي يتطلب خططاً استراتيجية شاملة في كل ميادين الحياة. ومن الواجب التوكيد على أنّ طابع المرحلة يتسم بكونه طابعا أبعد من التحديث الجزئي واستكمال مفردات بناء بطريقة ستكون ترقيعية إذا ما تحددت بحجمها. فالمرحلة تتطلب إزالة عشرات آلاف أطنان المهدَّم من الأبنية الخربة وشبكات الصرف الصحي وإصلاح الأراضي البور وإعادة شق الأنهر والترع وترتيب بناء المدن على وفق الحجم السكاني الراهن.. ولكن الأخطر في الأمر هو تداعيات انفلات الأوضاع الأمنية وانتشار الميليشيات وتوسع سطوة المافيات والعصابات ودائرة العنف وثقافته المرضية؛ وكذلك انهيار مؤسساتي ونخرها من الداخل.

إنّ مجابهة هذي المهام والمطالب، لا يمكن أنْ يتمَّ بقوة سياسية أو تحالف قوى لتيار أو آخر منفرداً. والأنكى أنْ يكون أداء تلك القوة قائماً على محاولات فرض سلطة فوقية أحادية تُقصِي الآخر وربما تذهب لأبعد من مصادرته في اختلاق صراعات مفتعلة ليس دونها سوى الاقتتال الذي يُفرَض على المواطنين ويجعلهم يدفعون قرابين العنف وهمجيته؛ ولطالما شهدنا هذا التوجه في قيادة الحكومة الاتحادية ببغداد.

إنّ معالجة مشكلات مستفحلة كتوقف الدورة الاقتصادية برمتها، صناعةً وزراعةً وتمزق النسيج المجتمعي وتعرّضِهِ للهزات التخريبية كحالة نشر الطائفية وحروبها العبثية...   ومعها مشكلات كالبطالة والفقر التي تساهم في تشكيلها معامل تفقيس الإرهابيين واصطناع فضاءات وجودهم! إنَّ كل ذلك يتطلب علاجاً جوهرياً نوعياً مختلفا عن تلك الترقيعات التي لا تُسمن ولا تغني من جوع!

وهذه العلاجات تتمثل في استكمال القوانين التأسيسية اللازمة لبناء الدولة المدنية؛ ووحدة القوى السياسية وتضافر جهودها جميعا في شراكة وطنية واسعة لا تستثني طرفاً أو تقصيه ما لم يكن من عناصر التخريب والهدم.  وبالتأكيد سيكون العمل المثابر على إطلاق جهود  إعمار البنى التحتية والركائز البنيوية الرئيسة الكبرى هي مهمة لازمة لتشغيل الدورة الاقتصادية على وفق أولويات يمكنها أن تُنهي البطالة وتعالج مستويات الفقر بل تزيله ولو تدريجاً.

عليه فالانتخابات التي تجري اليوم، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار تلك الظروف المعقدة، وأن تتنافس القوى كافة في إطار الثوابت الوطنية أولا وفي ضوء التوجه الذي يستجيب لخيارات الشعب في بناء دولته المدنية وأسس الديموقراطية. ويفرض الوضع المرتبك أمنياً أكبر تمسك بضبط النفس من القوى السياسية وأكبر قدر من تجنب الاحتكاكات التي قد تؤدي إلى منزلقات  يريدها أعداء الشعب المعتدين على حقوقه وحرياته والمتعرضين لسلامة الوطن ووحدته!

وآلية التمسك بضبط النفس تبدأ من البرامج والشعارات المطروحة. إذ ينبغي تجنب الشعارات المثيرة للاحتقان وتلك المؤدية لمزيد من الشحن والتوتر؛ وبديلا عنها يجب أن يجري طرح الشعارات التي تتحدث عن التسامح والسلام والتآخي والاعتراف للاخر بحقه في وطنه على أساس المساواة والمواطنة.

ولعل المتابع يجد أن بعض القوى التي تحكمت بالسلطة طوال السنوات المنصرمة أكثر من ادعائها على شركاء الوطن باتت تطلق تصريحات نارية ملتهبة تزيد الاحتقانات وإشعال الأوضاع أكثر مما هي عليه. من قبيل: "أخذنا السلطة وبعد ما ننطيها" في رفض صريح للتداولية مبدأً ديموقراطيا؛ ومن قبيل: "نريد قتل سنيّ مقابل كل قتيل شيعي!" في استهتار خطير لخطاب الطائفية بأرواح أتباع المذهبين في الدين الواحد والأخوة في الوطن الواحد!! وغيرهما من التصريحات والخطب والشعارات الهوجاء! بالمقابل نجد القوى المدنية الديموقراطية تكافح وتقارع من أجل التسامح والسلم الأهلي ومثل ذلك تابعنا مواقف إيجابية بناءة وقوية تتمسك بخيار العراق الفديرالي الديموقراطي القائم على المساواة والعدل والخيارات الحرة.. ولعل تصريحات الزعيم الكوردستاني الأستاذ مسعود البارزاني كانت في الصميم من مسيرة تطبيع الأوضاع ورفض فلسفة سطوة طرف وتبعية آخر بقصد منع تداعيات ردود الفعل السلبية لتلك السياسة.

ولعلنا نلاحظ أن القوى الوطنية المخلصة لبناء البلاد وتحرير العباد قد أخذت اسم التحالف المدني الديموقراطي وفي سياق متحد مع الأهداف النبيلة كانت قائمة تحالف السلام الكوردستاني قد أخذت الاسم بوضوح في توكيدها خيار  السلام بديلا للحرب وسجلها المأساوي الذي يُنذر بمخاطره بسبب الوضع المتردي وخطل سياسة بعض القوى وإمعانها في خطابها الطائفي بكل إفرازاته السلبية وتداعياته!

وإذا كانت قوى بغدادية تصر على نهجها وتصريحاتها النارية فإن بديل القوى الوطنية والكوردستانية مازال يحتفظ بهدوئه وموضوعيته وضبط النفس بل إطلاقه مبادئ التسامح وقيمه والسلم الأهلي متجاوزا مواقف تصل حد المهاترات والاستهتار بحيوات الناس وبالوضع برمته!

إن هذا التمسك بالموضوعية يتأسس على طابع  استراتيجية  تبقى بحاجة لإشاعتها بخطاب سياسي إعلامي كبير يصل جموع الشعب. وربما كان بمنح الأصوات العربية من العقل العلمي الأكاديمي غير المتحزب ومن تلك العناصر والشخصيات الوطنية لتتحدث عبر القنوات الإعلامية والصحافية توكيدا لهذا الخطاب الذي لن يكون حزبيا محدودا بل وطنيا مدنيا وكوردستانيا موحدا في نهر العطاء الاستراتيجي الذي يتبنى خطاب السلام والتقدم، خطاب الفديرالية والديموقراطية.

إن هذه المنافذ التي ستكون بصيغ ندوات وحوارات تستثمر وجود ملايين المتابعين اليوم بموسم الانتخابات لتقدم لهم دفاعا يقينيا راسخا عن قضيتي الفديرالية والديموقراطية وعن سلامة الاحتفاظ بالاستقلالية والخيار الحر لشعب كوردستان وتعزيز تلاحم مكونات الشعب بوساطة خطاب التسامح لا خطاب التبعية الذي يراد فرضه قسريا متعكزين على أنه سبب في تردي الأوضاع  في محاولة لترحيل السبب والتنصل من المسؤولية وإلقائها وتبعاتها على الآخر!

وباختزال لابد من التوكيد على أنّ سبب الوضع المتهاوي وانهيار المؤسسات يكمن في سياسة المحاصصة الطائفية وما اختلقته من أشكال احتراب من جهة وما أخفقت في أدائه من مسؤولياتها الحكومية المجتمعية وخطل فلسفتها وعدم توافر أية إمكانية لها لإدارة الوضع العام بسبب اعتمادها على شخوص بلا كفاءة وأبعد من ذلك وأخطر منه بسبب ما اتسمت أداءاتهم بالفساد وبما وفروه من غطاء للإرهاب وبلطجة القوى المافيوية. هذا بجانب عدم وجود استراتيجيات سليمة ناجحة ولا أي معنى للتخطيط المؤمل!

من هنا فإنّ القراءة لا تتحدث عن شخصنة وحملة تسقيط ولكنها تتحدث عن خلل فادح أودى بالدولة باتجاه الفشل ومن ثم احتمالات الفتكك والانهيار. وهي قراءة تدعو للبديل من دون التعرض شخصيا لطرف أو آخر بل بالبحث عن مجيء البديل بقيادة العقل العلمي العراقي ورسالته الوطنية الأبرز في بناء دولة مدنية ديموقراطية هي الوحيدة القادرة على تبني الفديرالية والسلم الأهلي وخطى التقدم والتنمية وعلى السير بها إلى آفاقها الأهم والأنجع.

ساسة يتمسكون بالكرسي ببغداد، بوصفه أداة سلطتهم قمعيةً تصادرُ الآخرين وتلغي وجودهم وبالمقابل دعاة حراك جماهيري شعبي أرضيته تلاحم عربي كوردي أو تحالف بين القوى المدنية الديموقراطية والكوردستانية بلا فكاك لهذا التحالف غير المكتوب ولكنه القائم على بنى مجتمعية مكينة لعراق اليوم والغد، عراق السلام والديموقراطية. ولمن يريد التعرف إلى زعامة ورجال دولة يمتلكون الكفاءة والنزاهة والمصداقية وبرامج العمل الأنجع، عليه النظر إلى هذا التحالف الوطني العراقي الكبير، عليه أن ينظر لقادة تحالف السلام الكوردستاني ولقادة التحالف المدني الديموقراطي فسيجد العقل العلمي الوطني والخبرة التي عمّدتها مسيرة نضالية عريقة ليست بحاجة لتزويقات بعضهم وللمال السياسي وفساده ولا للعنف وبلطجته ولا لاستغلال الجهل والتخلف كما يفعل تيار الطائفية وأغلب قواه وخطاهم وبرامجهم على افتراض وجود برامج لهم، فقوى التنوير التي يتطلع إليها الباحثون عن البديل هي في خدمة الفقراء والعاطلين والأرامل واليتامى وهي مفتاح تحررهم من أسر ظروفهم القاسية بوساطة برامجها الواضحة والمختزلة مما بات بين أيدي الشعب.