بغداد وأربيل: بين رؤيتي الحكم الثيوقراطي والديموقراطي

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

عشرُ سنواتٍ عجاف أحرَقَت الأخضرَ واليابس، ولم تُبقِ ولم تَذَرْ، لكنَّها مازالت نهمةً للمزيد! فالعراقُ في ظلِّ قوى تحكَّمتْ بهِ باتَ من بين الأوائل عالمياً في الفسادِ والجريمةِ والمخاطر التي تتهدَّدُ الناسَ وحقوقَهم وحرياتِهم؛ وامتدّت الجريمةُ المركبةُ بوساطةِ مشعلي الحرائقِ إلى مستوى اقتربَ من أوضاعٍ يراها القانون الإنساني - الدولي جريمةَ إبادةٍ شاملةٍ لأبناءِ الوطنِ ومكوناتِهِ.. وصارَ العراقُ البلد الأكثر فشلاً بما يعني اقترابه من التفكك والوقوعِ فريسةَ جريمةٍ نوعيةٍ جديدة!!

ولعلّ تكرّرَ صرخاتِ أبناءِ المكوناتِ العراقيةِ، وصدور بيانات الإدانة والشجب التي تطالب بحمايةٍ حقيقية لا بخطابات تضليلٍ وتغطية لتمرير الجريمة، هي أبرز دليل على ما جرى ويجري باستمرار لنهج التصفية الأبشع في تاريخنا. فيومياً تجري عملياتٌ إجرامية للتقتيل والاغتيال ولتوسيع دائرة التصفية الجسدية فضلا عن جرائم النهب، الاختطاف، الابتزاز، الاغتصاب والتهجير! إنَّهُ المشهد الذي يريدون توكيده وكأنَّ القضية تخص ذبح دجاجة أو نحر خروف وهم يغتالون جوهر الإنسانية في وجودنا الوطني!!

مثل هؤلاء، وهم يتسللون مخترقين بنية أعلى المسؤوليات الحكومية ببغداد، لا يمكنهم ممارسة سياساتهم إلا بخطاب الدجل والخديعة والتضليل. وهو خطابٌ يندرجُ في نشر قيم الفساد والتخلف وإشاعة الأمية والجهل للسطو على أذهان البسطاء وأخذهم أسرى ووديعة في حسابات عناصر الفاشية (الدينية) على وفق توجه عام نحو نظام ثيوقراطي الآليات والأداء.

و هُم يسوِّقون رؤاهم بما يتيح لهم أنْ يتحكموا بكل جغرافيا الوطن وبكل مكونات الشعب. ومن هنا فإنّنا طالما سمعنا خطابات جوفاءَ عن كونهم مَن يحمي وحدة تراب الوطن؛ وعن مصالح شعب البلاد بأطيافه ومكوناته...!! إلا أنَّنا على يقين من أنَّه بين الادعاء والحقيقة يمكن لأكثر الجهلة أميةً أنْ يهتدي لجوهر الصواب والحقيقة، في ضوء ما يعيشه من أوصاب واقعه وآلامه وأوجاعه.

ولنموذجٍ نريدُ التركيز عليه هنا ومعالجته، لنقرأَ موقف مَن ينفرد بإدارةِ السلطة ببغداد من القضية الكوردية ومن الفديرالية مفردةً جوهرية للديموقراطية في البلاد. وبغض النظر عن تفاصيل خطاب الادعاء وما يكتنفه من تلميع، فإنَّنا سنجد رؤية استعلائية فوقية تتسم بالمركزية الشديدة وبالنزعة الشوفينية. فهم يستبيحون الوطنية لصالح نهلستية اللقاء بقوى طائفية عابرة للحدود يجدون أنفسهم أقرب إليها من أية قوة عراقية، فيما يستبيحون إنسانية وجودنا لمصلحة شوفينية  سلطة ثيوقراطية مستبدة.

وعادة ما يراوغون لمددٍ وأزمنةٍ حتى يتمكنوا، فيُسْفِروا عن مآربهم النهائية.. ويومها لات ساعة مندم! من هنا وفي ضوء المجريات فإنّ الردَّ على التجاوزاتِ التي تتراكمُ وتتضخمُ يومياً، والتفاعل مع تلك السياسةِ المرضيةِ ينبغي ألا يتوقف عند الحذرِ والتحذير بل يجبُ أنْ يُمسكَ بزمامِ المبادرةِ في فعلٍ يتصدى للجريمة...

فالسلطةُ وإدارةُ الحكومةِ ليسَتْ قضيةً ثانويةً يمكنُ التغاضي عن مجريات ما وراء كواليسها.. وإذا كان مكوّنٌ ما قد مرّرَ أغلبيةً لجهةٍ طائفيةِ الفلسفة والأداء سواء جهلاً ومتابعةً للتضليل أم بخيارٍ لأيّ سبب فإنَّ الاتجاه العام للدولة لا يسمحُ بالتضحيةِ بفلسفةِ بناءِ الدولةِ المدنية على أسس الديموقراطية من جهة وعلى أسس احترام البنية الفديرالية من جهة أخرى. فأيّ اتجاه غير مدني وغير ديموقراطي يتعارض والدستور ويطعنُ في سلامة البناء الفديرالي، لأنّ الأغلبية في الحكومةِ الوطنية الاتحادية لا يمكنُ أنْ تكونَ مكوناتيةِ المرجعية.

والطرف الطائفي المعنيّ يدركُ هذا ولن يتركَهُ من دون تخطيطٍ مضمرٍ مسبقٍ كي يخترقَ به الجبهة الكوردستانية بخطابه (الثيوقراطي) ليوفرَ أرضيةً لتجاوزه على الفديرالية بوساطة حصان طروادة ممن يُحتمل أنْ يخرجَ على وحدة الرؤية الكوردستانية بخضوعِه لخطابٍ تضليليٍّ لساسةِ الطائفية السياسية.

ومنطق احتمال ظهور حصان طروادة يتقاطع ومصالح شعب كوردستان، وهو ربما يظهر بسبب من قرارٍ حزبيّ ضيّقٍ يظن أنه يناور محلياً كوردستانياً بشأن قضية أو أخرى، كقضية نسبة وجوده في الحكومة مثلاً.. وربما يظهر تحت ضغوط وتأثيرات إقليمية أو غيرها. لكنَّهُ بجميع الأحوال من الدوافع والأسباب سيُفسح الطريق واسعاً لقوى الشوفينية لتخترق جبهة الإقليم الفديرالي وتطحن القضية الكوردية في نسخة جديدة من الآلة الجهنمية لنظم الطغيان والاستبداد، إذا ما ساتكملت شروط وجودها النهائية!

وبالتأكيد، سيكون هذا انتصاراً للدولة الثيوقراطية من جهة وللخنوع المطلق لمثلث (الطائفية، الفساد، الإرهاب) وهو ما يعرِّضُ كوردستان لهزاتٍ استراتيجية غير محسوبة العواقب. مثلما يمعن في تقديم البلاد برمّتِها على طبقٍ من ذهب لتلك القوى التي كانت السبب في الكوارث التي حلت بالعراق طوال العشر العجاف...

  والبديل الطبيعي المؤمل بشأن الوجود الفديرالي لكوردستان، يكمنُ في الإصرارِ على ((التمسُّكِ بـ وفدٍ موحّدٍ باسمِ كوردستان وباسم القضيةِ الكوردية)) كونِهِ الضمانةَ الوطيدةَ والوحيدةَ في الظرفِ الراهن للدفاع عن مصالح كوردستان وشعبها. فالحليف الاستراتيجي في العراق الفديرالي مازال ضعيفَ التمثيلِ بالمستوى الحكومي الوطني؛ إذ تكشف الصورة أنْ لا وجود للقوى الديموقراطية المدنية يمكنه التحكم أو توجيه السلطة توجيهاً مناسباً سليما، الأمر الذي يُبقي مهمة الدفاع عن مصالح شعب كوردستان صعبةً معقدةً على المستوى الرسمي. ويبقى بحاجة إلى قوة كوردستانية موحدة في إطار الحكومة الاتحادية ومجمل السلطات ببغداد.

ويلزمُ في ضوء ذلك لجميع القوى والحركات الكوردستانية أنْ تؤكدَ وحدة خطابها ووحدة أدائها عبر وفدٍ يحمل الحلم والأمل الكوردستاني ببرنامج محدد ومطالب ملموسة. وكل من يتحدث عن مصالح شعب كوردستان ومطالبه مغرِّداً خارج السرب سيكون فعلياً عمليا ضد تلك التطلعات والآمال، وسيكون أشبه بـ (حصان طروادة) الذي لا يكتفي بمنح قوى الشوفينية فرص الإمعان في التهميش ومصادرة الحقوق بالمستوى الوطني بل سيمنحها فرص تسلل عناصرها المرضية من جهة والعناصر التي تحالفت معها من قوى الفساد والإرهاب ليشرعوا بمرحلة خطيرة من تخريب ما بناه الإقليم!!

لقد كانت الأمور تدار في إطار الحكومة الاتحادية ببغداد بوساطة رؤيتين؛ واحدة حملتها العناصر والقوى التي عملت دائما من منطلق استغلال انفرادها بالمسؤوليات وحصر الصلاحيات فيما لم تكن تديره مباشرة منفردة به. وهي ((رؤية ثيوقراطية بخلفية خطيرة لخطاب الطائفية السياسية)). ومن هنا كانت دائماً تميل للعنف والتشدد ولاستيلاد فرق وفيالق (عسكرية) بمهام مارست مختلف التجاوزات على كوردستان في خروق سافرة للدستور. وبالمقابل كانت ((رؤية مدنية وخطاب سلام وطني وبرامج للشراكة والعمل معاً وسوياً)) ظلت معطلة وجرى التسويف بشأنها بل جرى سحب البساط منها بمختلف الألاعيب التي تحكمت بالعملية السياسية وأدارتها مرضياً.

إنّ من الخطورة تكرار سيناريو تسليم السلطة وصلاحياتها لجهة تدعي تمثيل الأغلبية! وفي الحقيقة حتى تلك الأغلبية لم تحصدها إلا بتفصيل قوانين العملية الانتخابية بطريقتها الخاصة وإلا باستغلال لعبة طائفية مع سطوة المال السياسي الفاسد وعصا البلطجة الإرهابية وأحابيل أخرى مفضوحة. كما أنّ الأغلبية في البنية الفديرالية لا يمكنها أن تكون مكوناتية أي على أساس يمهد أو يفرض الأرض لحكم ما يسمونه الأغلبية الطائفية المزعومة.

إنّ الحكومة التي يمكنها إدارة السلطة هي تلك التي تأتي بالتمثيل الوطني من دائرة انتخابية واحدة وطنياّ من جهة الأداء وتلك التي تأتي من هيأة تشريعية مكتملة لا تعمل بجناح أحادي وتغفل جناحها الآخر عمدا وقصدا، بالإشارة إلى استمرار العمل بمجلس نواب يشكل نصف الهيأة التشريعية بينما يجري استبعاد انتخاب النصف الثاني ممثلا بمجلس الاتحاد المعبر عن التركيبة الاتحادية بعيدا عن هوس الأغلبية المكوناتية بل القائم على المساواة في بنيته بين أصوات جميع مكونات الشعب؛ ومن ثمَّ فإن حصانة التشريعات وأداء الحكومة وطنياً وحفظه الوجود الفديرالي بكامل الحقوق وليس بمنع التجاوزات فقط، هذا لن يأتي إلا من هيأة تشريعية مكتملة ومنتخبة بطريقة غير مفصلة فوقيا مرضيا...

لكن، حتى تستطيع قوى الشعب عامة من تحقيق انتخابات نزيهة مثالية مكتملة الشروط بخاصة قانونيا، وحتى يتم تشكيل الهيأة التسريعية كاملة بجناحيها النيابي والاتحادي يلزم القوى الكوردستانية أن تأتي إلى بغداد بوفد موحد وببرنامج موحد وبمطالب محددة بأسقف زمنية مشروطة لا تسمح بالتسويف والمماطلة بأي من حقوق شعب كوردستان مثلما جرى من ألاعيب من حكومة بغداد عندما شكلت قوات موجهة ضد كوردستان في عمل سافر أو مثلما قطعت المرتبات والأجور عن شعب كوردستان أو مثلما أيّ من الأفاعيل الخطيرة التي مورست. واليوم سيجري العمل بأنّ ما أوله شرط آخره نور.. ولن يتم العودة إلى تحالفات شكلية تضليلا وضحكا على الذقون بل سيكون الأداء على وفق محددات لا تقبل التأجيل. ولربما كانت قضايا المادة 140 وأولها الطريق إليها إجراء الإحصاء في سقف زمني لا يتعدى السنة من تاريخه. ثم تشريع قوانين الأحزاب ومجلس الاتحاد وتشكيل الهيآت المستقلة وإجراء انتخابات مجلس الاتحاد في سقف لا يتجاوز الأشهر الستة من تاريخ إجراء الإحصاء. كل هذا وغيره في مقدم شروط حكومة وحدة وطنية فعلية لا تبعية فيها بل شراكة فاعلة وقادرة على اتخاذ القرار.

الرؤية الكوردستانية ستبقى رؤية الدولة المدنية الديموقراطية، رؤية البناء الوطني الفديرالي، وهي التي تحمل آمال كوردستانية استراتيجية لا تضحي بخيار فديرالي أو كنفديرالي يلبي مطامح جميع المكونات للشعب العراقي وتطلعاته في غد أفضل للسلم الأهلي وللوحدة غير القسرية غير الشوفينية وغير التصفوية التي ظلت تعتمد التهميش والمصادرة.

فهلا جاءت القوى الكوردستانية إلى بغداد موحدة مستندة إلى تطلع في التحالف مع القوى المدنية الديموقراطية من مختلف مكونات الشعب؟ ثقة وطيدة بفشل محاولات  تخليق حصان طروادة وشق الصف.. وثقة بانتصار إرادة رؤية ما عادت تحتمل عبث الطائفية السياسية ومآربها الانتهازية والشوفينية.