استراتيجية صنع الكانتونات الطائفية والتحكم المركزي الشوفيني ووسائل الرد والمعالجة

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

توطئة:  تتعدد مراحل حكم الطائفية السياسية، ومفردات خططها في السيطرة على (السلطة) بوصفها (الكرسي الغنيمة) الذي تراه أداتها الأبرز لممارسة سطوتها والاستمرار في فرض قيمها التي لا يمكنها البقاء من دون جناحيها ممثلَيْن بقيم الفساد والمال السياسي في ضفةٍ وقيم الإرهاب وممارستها البلطجة في الضفة الأخرى. ومن الطبيعي أنْ تستغلَ الطائفيةُ السياسية خطابَ الحكمِ الثيوقراطي بكلِّ آلياته، وأنْ تطلقَ الخدعَ والأكاذيب التضليلية مستثمرةً حال الجهل والتخلف وانتشار الأميتين الأبجدية والثقافية فضلا عن شيوع ظاهرتي البطالة والفقر، الأمر الذي يساعدها على إعمال جرائمها براحة أكبر! ولعلَّ القوى التي تقف وراءها وترسمُ خططَ وجودِها لا تني تتقدم بمراحل تخطيطها بما يكفل لها أطول تربّع على كرسي السلطة وابتزاز الناس مُدرِكةً أن هؤلاء ستعلّمُهم تجاريبُهم أنّ سببَ بلائِهم هو سلطةُ الطائفيةِ السياسية ونظامُها الثيوقراطي وأضاليله. لهذا تنتقل إلى مرحلة استغلالٍ أبشع؛ فتطحنُ الوجودَ الوطني وتهدم أو تفكك بناء الدولة المدنية بآلتها تلك، كيما تطيل أمد امتصاصها دماء الغلابة والبسطاء...!؟

 

فما المرحلة الجديدة المحتملة في استراتيجيات سلطة الطائفية السياسية في العراق؟

لنقرأَ المشهدَ العام في البلاد؛ كيما نستطلع أسبابَ الانتقال للمرحلة التي نبحث في سماتها وآلياتها. وأولُ الأمور نلاحظُ استمرار تعطل الدورة الاقتصادية وتصفية شاملة للمصانع والمعامل والمزارع وتخريب الأرض وإحالتها إلى أرض يباب بور غير صالحة حتى للرعي، بخاصة في ظروف تغييرات بيئية مفتعلة متعمدة، من قبيل التخلي عن الحصص المائية في الأنهر والروافد لدول الجوار وإهمال الأحزمة الخضراء للمدن والإيغال في نهج إبادة بقايا الغابات من نخيل وأشجار مثمرة وغير مثمرة. يرافق هذا بشكل آلي مباشر اتساعُ البطالةِ واشتداد الفقر وتعمق مستوييه عموديا أفقيا، أي شموله قطاعات شعبية جديدة مع اتساع فجوة الفقر.. ومن الطبيعي هنا أن تتسع القطاعات الهامشية مجتمعيا في ظل أزمة طحن الطبقة الوسطى واستكمال محوها. وبموازاة هذا المسار تنحدرُ كلٌّ من الرعاية الصحية البدنية والنفسية والاجتماعية ورعاية التعليم الأمر الذي تسود في أجوائه الأمية من جهة وتتخرج أفواج من أشباه المتعلمين فيما تضخ المدارس المسماة (دينية)، في الغالب، عناصرَ نفعيةٍ تعتاش على ابتزاز هذه الطبقات المهمَّشة وتتصدر القيم المرضية الجديدة الوضع المجتمعي برمته.

وعلى الرغم من كل هذه الأزمة الشاملة المستفحلة فإنّ المشكلة لم تنْمُ أولاً وبنيوياً من رحم المجتمع العراقي.. صحيح أنّ أمرين ساهما في إعداد أرضية الوضع الراهن وهما: نظامٌ دكتاتوري شمولي وحروبٌ إقليمية ودولية تتوجت بحصار. إلا أنّ هذين الأمرين لم يلغيا (الطابع) المدني ولا أقول المجتمع المدني في العراق.. فالأمر الحاسم في الوضع الراهن تسببت فيه قوى الاحتلال الأجنبي التي استكملت الانهيارات باختلاقها طبقة هشة فارغة لتدير السلطة بخطاب الطائفية السياسية، مستغِلةً فراغ الميدان من قوى وطنية إيجابية جاهزة أو قادرة على فعل التصدي لمآربها. وقد غذّت القوى الإقليمية والدولية ثقافة الانقسام الطائفي وشرعنته بضخ أموال مهولة في الأرضية التي كانت شبه جاهزة لاستقبال إعلام مرضيّ الخطاب.

بالمقابل وقعت قوى الطائفية السياسية (المحلية\العراقية) أسيرة عاملي الفساد والإرهاب حيث سطوة مافيات الفساد الأكبر من محلية بامتداداتها دوليا؛ واستبداد الصقور فيها وهمجية عناصرها المتطرفة المتشددة بخضوع جناح الطائفية الإرهابي هو الآخر لمعطيات إقليمية ودولية خارجية. أما الارتباط بالخارجي فلربما يتمثل بعضه بنقل تشكيلات إرهاب أجنبية إلى ميادين كالعراق وسوريا وضخ الأسلحة القادرة على إشاعة الخراب وايقاع أقسى الخسائر في الناس، في عملية هدفها ابتزاز الشعوب بالبلطجة العنفية الأبشع بعصرنا ومنع تلك الشعوب من إحداث التغيير الذي تنشده. هنا لم يبق للشعوب ما تخسره وتبدأ شرارات الوعي تظهر بسبب الكارثة وتتسع وتستجيب قوى، كانت مُخدَّرة أو مُعطَّلة أو مُضلَّلة، للقيادات المدنية من قوى العقل العلمي في المجتمع.

ولمواجهة هذا الاختراق الوطني الإنساني في حراكه والمدني الديموقراطي السلمي في هويته وطبيعته، تتجه قوى الطائفية السياسية بخططها وخطط من يقف وراءها إلى الدفع باتجاه تمزيق الوحدة الوطنية بمستوى بنية الدولة بعد أنْ هيَّأت أرضية الانقسام الطائفي مجتمعياً. وتسخّر في معاركها الجديدة كل قواها لاستكمال عمليات التطهير العرقي الديني المذهبي والقومي لاستيلاد تشكيلات ما قبل الدولة الوطنية. وهي عملية ارتكاس مرسوم لها بكامل الخبث وبخطاب التضليل المشحون بالبترودولار، بالمال السياسي وفساده وبإعلام وبخطاب سياسي دولي الامتدادات، المعلن منه والمستتر مُتابِعاً عملية تفكيك الدولة التي وصل بها إلى هاوية الدولة الأكثر فشلاً أي الأكثر استعداداً للتفكك ما لا يحتاج لقناعات سياسية وإنما لما يفرضه الواقع المرّ من خيارات تتعارض واتجاه حركة التاريخ وتتقاطع مع مهمة إنضاج بنية الدولة المدنية.

 

ولابد هنا من التأكيد على أنّ التفكيك إلى كانتونات هو فعل مرضي وركوس وانهيار وهو لا يعني الاستجابة لمطالب المكونات وحقوقها في الاعتراف بوجودها وبهويتها سواء القومية أم الدينية. فالأخيرة عملية إيجابية تلبيها الدولة المدنية بصيغ فديرالية أو كونفيدرالية فيما الأولى [أي الكانتونات] تعتمد التمزيق ورفض أي شكل بنيوي للدولة الحديثة المعاصرة، إنها استجلاب شكل ماضوي لعصرنا بما لا يرتقي حتى لمستوى الأداء الماضوي لتشكيلات ما قبل الدولة في زمنه ولكنه ينحدر بسبب التعارض بينه ومرجعيته الماضوية وبين التشكيلة المجتمعية المعاصرة ومرجعيتها الحداثية. إننا بصدد قراءة مستوى تفكير الطائفية السياسية والجريمة التي ترتكبها وتجرّ إليها الدولة والمجتمع.

وعراقياً، فإنّ أول طريق التفكيك المرضي يتجه اليوم غرباً حيث اختلاق إمارات محتربة، أكثر تفككاً من فكرة إقليم يتمترس طائفياً في بيئته. و هُم يضخون الانقسام سلفا بين فرقٍ وحركاتٍ وميليشياتٍ مصنَّعة ومُدارة بطريقةٍ تخدمُ الغاية الأبعد من وراء صنع الكانتونات الهزيلة. إنَّهم يريدون أنْ يصلوا بالوضع إلى حدِّ وجود ((غيتوات)) ما يسمى بـ(الحماية) بوساطة بلطجية هذه التشكيلات الماضوية، فيما الإدارة الرسمية المتخفية المتخبِّئة تمتاح ما تريده على نار هادئة بعيداً عن أتون محارق جهنمية وآلات تطحن الإنسان ومطالبه...

ولا يمكننا استبعاد كل الاتجاهات الأخرى في محاولات قوى الطائفية السياسية لتفكيك الدولة ليس غرباُ حسب بل جنوبا شرقا شمالاً وضمناً حتى باتجاه كوردستان الأهدأ والأكثر استقراراً وسلاماً وثباتاً مجتمعياً بسبب بنية النظام المدني فيها وخصوصيتها. فشرقاً توغل الخطة بعيداً حيث محاولات استباحة ما تبقى من مدن وقرى لمصلحة إخضاعها نهائياً وتجهيزها للتشطير بـ(كانتونات الخنوع) تتبع في الغالب لجهات إقليمية معروفة بسبب ما توفره الجغرافيا من إمكانات تدخل ودعم لوجيستي للموالاة أو التابعين.. وهذا هو ذاته كذلك ما يحصل في جنوب البلاد؛ حيث انشطرت القوى والحركات الحليفة لجهات خارجية بين فرقٍ وميليشياتٍ مختلفة، مع توكيدٍ هنا أنّ الأمور لا تجري بسذاجة الاعتقاد بأن القوى الخارجية تدير الأمور بـ(الرموت كونترول) عن بُعدٍ وإنما تجري الوقائع بتسلسل استكمال خطوات الطبخات السياسية وتفاعلاتها ميدانياً. فتحاول كلُّ جهةٍ أنْ تمسك خيوط إدارة الوضع برمته وتوجيهه على وفق مآربها وبالتوقيتات التي تريد، طبعاً كما ذكرنا في إطار التفاعلات الميدانية التي يمكن أنْ ينجحَ بها هذا الطرفُ أو ذاك بحسبِ التوازناتِ وعوامل التأثير في الصراع..!

بمعنى أنّ فرصَ الشعبِ وقواه الحية في التصدي لهذا الانحدار تظلّ موجودةً مثلما فرصُ فوز هذا الطرف أو ذاك من ثلاثي (الطائفية، الفساد، الإرهاب) ومساعيهم لإدامة سطوتهم عبر آلية شرذمة الوضع بين كانتونات تتصارع بتوجيهٍ من صقور التشدد، والخاسرُ الوحيد في الصراعات هو المواطنُ المغلوب على أمره، المواطن البسيطُ مستلبُ الإرادة عبر عمليات التجهيل والتعطيل وعبر عمليات ابتزازه كما أشرنا قبل قليل. ونحن بالمحصلة لا نتحدث عن نظرية مؤامرة وآليات إدارة الأمور على وفق خيال مريض يلغي قوانين الصراع الجارية ميدانيا، ولكننا بصدد كشف ما يتيحه الانهيار الشامل من احتمالات الاتجاه نحو تفكيك بقايا الدولة في صيغ ماضوية من قبيل الكانتونات ومن يسعى لفرضها باستغلال الظرف الراهن وما انحدر إليه.

وإذا كان الخاسر الأول هو المواطن فإنّ المستفيد الرابح الأكبر هو ذاك النظام الاستغلالي الذي يمضي في نهب الثروات الوطنية بدءاً بالثروات الطبيعية وأولها النفط وليس انتهاء باستغلالٍ بشعٍ للطاقات البشرية كونها الرأسمال الأثمن...أما هذا الرابح في كل بشاعات الآلة الجهنمية ومطاحنها الهمجية فهو سلطة لا تقف عند استغلال المواطن في طاقة عمله وقدرات إنتاجه بل تستبيح الهويات الفرعية مع استباحتها الهوية الوطنية. إنّها تمتلك منطقاً شوفينياً استعلائيا تجاه كل المجموعات القومية والدينية والمذهبية.. وهي تتعامل بازدراء مع مطالب تلك المكونات والأطياف بهوياتها الإنسانية وتعدديتها وتنوعها، إذ أنها بعد سحق الوجود الوطني لن يقف بوجهها أي وجود آخر، ولن تسمح بقيام أيّ تشكيل يبني دولته المدنية ويحقق وجوده واحترام هويته...

إنّ أبرز خطر تستشرفه الأوضاع العراقية في مرحلتها الجديدة، يتمثل في محاولات قوى الطائفية التي استغلت أدواتها للعودة للسلطة، أن تنتقل إلى وضع جديد لسطوتها المركزية تجاه البلاد وكيفية تقسيم الشعب بطريقة تسهل التحكم به وهي السطوة الشوفينية المستبدة تجاه كل من يمكنه أن ينازعها في سلطتها أو يتعارض ومآربها. وعراقياً كانت وتبقى كوردستان الركن المكين لبناء الدولة المدنية بالضد من تشكيلات ما قبل الدولة حيث البنى الطائفية الماضوية.. وهذا ما يعني أنها [أي كوردستان] ستكون مستهدفة بمحاولات الاختراق الطائفية...

الأمر الذي يتطلب الانتباه الاستثنائي وللدقة والموضوعية المتمسكة بمنطق العقل التنويري وتحالفات قوى الديموقراطية والتقدم والسلام سواء داخليا حيث وحدة القرار الكوردستاني أم خارجيا حيث العلاقات الوطنية عراقيا أم إقليميا في المحيطين المباشر وغير المباشر. وسيكون لأي طرف يتكئ في مناوراته السياسية على قوى من خارج شعب كوردستان أن يتنبه على المصائب التي لا يجر الآخرين إليها حسب بل يجر نفسه إليها إذا ما تحالف مع قوى خارجية وهو بذلك لن يكون سوى حصان طروادة لقوى خارجية كلّ همّها أنْ تخترق به الإقليم لتشرع بجرائمها التي اتضحت صورتها في الضفة الأخرى من العراق الفديرالي.

إنّ الصورةَ قاتمةٌ من جهة الانحدار الشامل في الأوضاع وإيغال قوى الطائفية السياسية بممارساتها وصعود صقور تلك القوى الهزيلة فكريا سياسيا ولكنها الممسكة عنفياً بخيوط اللعبة من جهة أخرى. ولكن بالمقابل لا يمكن لقوى الشعب الحية إلا أنْ تدرك أنَّ القرارَ ما زال ممكناً إدارته باتجاه يصححُ المسارَ ويوقفُ التدهور والانحدار إذا ما تمَّ التنبه للخطوة الجديدة في استراتيجية اصطناع الكانتونات. وهذا يتطلبُ صياغة تحالفاتٍ وطنيةٍ على المستوى الفديرالي مشروطةً بأسقف ومحددات واضحة ومباشرة وتجنب الانجرار باتجاه انقسامات غير محسوبة مع رسم البرامج الشعبية المناسبة لتحريك عجلة الاقتصاد ومباشرة الانتهاء من الاقتصاد الريعي والطفيلي باتجاه تأسيس اقتصاد منتج ومعالجة البطالة ومكافحة الفقر ومطاردة الانفلات الأمني المفتعل.

إنَّ الوقوفَ بوجه السياسة العنصرية الشوفينية وجرائم التطهير الديني والمذهبي لمدن البلاد يجسِّدُ أول متاريس التحدي والتصدي لفلسفة الطائفية وهي من القضايا الرئيسة الجارية لتفريغ البلاد من قوى مدنية ومن غنى التنوع وما يفرضه من منطق دمقرطة الحياة.. وأيضا هناك محاولات موازية للتعرض للكورد بوصفهم الجناح الآخر من العراق الفديرالي وهي محاولات لا تستثني محاولة تشتيت المواقف وتمزيقها بمختلف الطرق المحتملة التي ربما تتاح باستغلال خلاف أو أو موقف أو آخر بخاصة في موضوع تشكيل الوفد الكوردستاني الموحد أو في التعاطي مع بناء تحالفات بالمستويين المحلي والفديرالي...  وهنا يلزم التصدي لأي احتمال من هذا القبيل، مهما كان صغيرا، لأنّهُ يمكن أنْ يتيح فرصة استغلاله وربما توظيفه بصيغة حصان طروادة الأمر الذي تكتفي معالجتُنا هذه بالإشارة إليه لأنّ الأطراف المعنية به تدرك أنَّ خطر ظهور حصان طروادة جديد هو خطرٌ وجوديٌّ...

وبالمحصلةِ، فإنّ احتمالَ الاتجاهِ لشرذمةِ بنيةِ الدولةِ والانحدار بها لكانتوناتٍ خاضعةٍ لسطوةٍ مركزيةٍ شموليةٍ وشوفينيةٍ هو احتمالٌ واردٌ بقوةٍ في تشكيله سلطة تدير لعبة الصراع في تلك الكانتونات إنَّهُ احتمال شديد الوطأة والبروز بهذه المرحلة. لذا وجب عقد المؤتمرات البحثية التي يمكنها التصدي للكارثة المحدقة وفي الأداء السياسي ينبغي التنبه ألا مساومة على محدداتٍ وشروطٍ للتحالفات وبرامج الجهات الحكومية ووسائل التنفيذ. على سبيل المثال إلزام الاتفاقات في حال الإخلال بشروطها وأسقفها الزمنية باللجوءإلى بدائل جوهرية نوعية توقف محاولات الانفراد التي يراد من ورائها استكمال ما أشرنا إليه من مركزية بوجه ومن تفكيك التكوينات السياسية الشعبية والرسمية وتشطيرها بوجه آخر للجريمة؛ وبطريقة تسهل الاستغلال والتحكم الفوقي بها.

وتلكم هي القضية بين محاولات استيلاد الكانتونات وبين فرص التصدي والحل الوطني بطريق بناء الدولة المدنية ومنح الحقوق والحريات بخاصة للمكونات القومية والدينية التي ينبغي أن تسمو بظروف وجودها الإنساني وبهويتها احتراماً وتقدماً بالحقوق والحريات....