الانهيار الأمني في ظل الطائفية: الأسباب والنتائج

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

في سويعاتٍ من ليلةٍ مدلهمة الخطوب، دخل بضعُ مئاتٍ من الإرهابيين مدينة الموصل؛ فدفعوا بحوالي نصف مليون إنسانٍ للنزوحِ القسري هائمين على وجوهِهم يبحثون عن الأمنِ والأمان بـِ (جيرةِ) أخوتهم في الوطن. وإذا كانت كوردستان استقبلت كلَّ هذه الآلاف المؤلفة كما دأبُها في نصرةِ الإخاء بِـعمقيه الوطني والإنساني، فإنّ مَن فرّ هارباً مولياً الأدبار بقيادتيه السياسية والعسكرية، تاركاً الميدان للإرهابِ والإرهابيين لمْ يحرّكْ ساكناً تجاه ما تسبَّبَ فيه من كارثةٍ تراجيدية!؟ وأكثر ما سمعَهُ بعضُ من استطاع التقاط مكرور الخطب هو صوتُ التبرير وصلافةُ التمسك بكرسي السلطة! فيما أرواح مَنْ ذهَبَ ضحيةَ الإعداماتِ الجماعية ما زالت تحومُ بصرخاتِ تلك القرابين تقولُ: انهوا الجريمةَ والمجرمَ قبل فواتِ الأوان!!

إنّ هذه اللحظة تظل كثيرةَ التعقيد في مشهدِها ولكنَّ الأسئلةَ والمطالبَ في هذه اللحظةَ الفارقة، التي يمكنُها كشفَ خارطةِ طريقٍ للخروج من قعر الهاوية، تنصبُّ على الآتي من الموضوعات: فأول تلك الأسئلةِ والمطالب نجدُها في المستوى الإنساني حيث يجب التصدي لتأمين ظروف عيش مئات آلاف النازحين وترتيب تفاصيل مركَّبة ليومياتهم؛ سواء ما تعلق بالغذاء وكفالة اللقمة من دون استغلال وابتزاز أم بالدواء وضمان الظرف الصحي الملائم بخاصة تجاه أشكال الأمراض ومنها احتمالات الأوبئة؛ وما تعلق منها بأماكن الإيواء وتوفير الأمن والأمان من الظرفين البيئي وتقلباته والحماية من التجاوزات والاعتداءات وضمنا حالات الاختطاف والاغتصاب في ظرف تشتت بعض الأسر والعوائل... ومثل هذا يحتاج للاتساع الطارئ بإدارة هذا الملف وتقدير حجمه الميداني بدقة مع عقد الاتصالات مع المنظمات الدولية والجهات القادرة على تغطية تكاليف جهود الرعاية والحماية والاستجابة لمطالب هذه الحشود الاستثنائية الكبيرة. وتنبغي الإشارة هنا إلى تحمُّلِ إقليم كوردستان لهذه الجموع على الرغم من أنّه يخضع لقطع رواتب أبنائه ومن حصار اقتصادي من رئاسة الحكومة ببغداد...!

وثانيا وهو ليس من باب الترتيب في الأداء بل ما يوازي المهمة السابقة زمنيا، يلزم فورياً وبوجه عاجل، استعادة المبادرة الميدانية عسكرياً قبل استفحالها أكثر. وهذا يعني بدءاً تكليف قيادة ميدانية جديدة وإعادة ترتيب أوضاع القوات المنكسرة بإرسال بديل قادر على التعامل مع الظرف الناشئ. وإشراك قوات البيشمركة وقياداتها في إدارة المعركة بثقل استراتيجي يتناسب وحجم المعركة. مع طلب المعونة الدولية في المجالين الاستخباري المعلوماتي والجوي أي بالطيران القتالي المتخصص في مطاردة الإرهابيين وتعقب مسالكهم... وفيما عدا هذا فإنّ الأمور وإن بدت تتحسن في بعض مواضع إلا أنها ستفضي لمفاجآت نوعية بمستويات جديدة أبعد مما رأيناه في الأنبار ونينوى!

وضمن ثانيا المخصوصة بالتفاعلات مع التداعيات العسكرية والسياسية يجب التذكير بأنّ الانكسارات بل الهزائم كشفت عن احتمالات خطيرة لمصطلح الخيانة العظى أو ما يجري في إطارها. وأياً كانت الحقيقة يجب التوكيد على عزل فوري للقيادات الميدانية الفارّة وعلى محاسبة القائد العام تأسيساً على مسؤوليته المباشرة وغير المباشرة بخاصة في ظل إصراره على تخوين الآخرين ومحاولة إلقاء التبعة عليهم وترحيل ما جرى من جريمة من على كاهله متملصا من مسؤولية لا يمكن إعفاؤه منها على وفق كل القوانين المعروفة دوليا ووطنياً.. وبالمقابل هناك رسالة شعبية إلى الذين يدعون قيامهم بالثورة رسالة تصويت واضحة برفض سلطة طائفية بديلة عبر فرارهم من سلطتها، إنهم يريدون بديلا وطنيا بعد أن ذاقوا الأمرَّيْن من الجناح الطائفي الأول...

أما ثالثا من تسلسل معالجتنا هذه، فإنَ الزلزال الذي وقع لا يمكن إلا أن تكون له هزات ارتدادية وسيكون بعضها سلبيا كارثيا وبعضها الآخر ينبغي له أنْ يكونَ بنيوياً إيجابياً بتفعيل أدوار القوى الوطنية وقياداتها. فأما السلبي من الأمور فهو احتمال استمرار الانتكاسات المتوالية لقوات لم تتشكل على أسس قوانين الجيوش وبنيتها. ومارست طوال العشر العجاف التي التأمت بها، طقوسا لا علاقة لها بوظائف الجيش وآليات عمله والهدف من وجوده؛ فظهرت بصورة مجاميع طائفية، فُرِض عليها ترداد الشعارات الطائفية ومنها الخطابات الثأرية التي اُرْتُكِبت في ضوئها جرائم تقسيم العراقيين وإثارة الاحتراب بينهم في ضوء تلك الجرائم المؤسسة على خطاب طائفي مقيت! ومن الاحتمالات الكبيرة هنا أن يهرب الجندي بكل مستويات التشكيلات العسكرية الأمنية من الميدان  لأنه  لا يجد إجابة عن سبب تضحيته من أجل شخص آخر على رأس الجيش إذ أن وجوده لم يُثقَّف على أساس الروح الوطني؛ هذا فضلا عن عدم تأكده من طبيعة العدو الذي يجابهه وهويته هل هو يقاتل داعش والإرهاب القاعدي لوحدهما أم أنّ هناك قوى أخرى بات يقاتلها بغير وجه حق، حيث وضعوه بمجابهة أخيه المواطن في مهمات إنشاء السيطرات على الشوارع ومفاصل الطرقات ومهاجمة بيوت آمنة ومستشفيات ومؤسسات مدنية!!

وإذا أخّرنا الحديث عن دور القوى الوطنية لقراءة الوضع العام وأسباب ما آل إليه من كوارث، فإنّنا سنجد أنّ تركيبة الجيش تحديدا من بين جميع المؤسسات النظيرة أقصت مكوناً عراقيا في بنيتها وهمّشته حتى بات لا يتجاوز نسبة الـ3% فيه! وفي ظل التركيبة الطائفية بشرياً جرى تمرير ثقافة ثأرية طائفية وإحالة العقيدة العسكرية إلى خطاب سطحي جوهره الخرافة والدجل وامتهان العقل؛ وبالتأكيد مزيد إهمال لعامل الاستعداد العلمي المعرفي للتعامل مع السلاح من جهة وللمهنية في الخطط وفي المهام المناطة.. ومثل هذه التركيبة لم تترك نسبة الـ3% بلا مواءمة مع غاياتها عندما جاءت بأفسد العناصر الانتهازية وأكثرها خطرا على بنية المؤسستين العسكرية والأمنية الوليدة بخاصة هنا في إشارتنا إلى تلك العناصر من بقايا قوات الطاغية صدام التي انخرطت في التركيبة الجديدة فيما اتجه قسم آخر منها إلى التحالف مع الإرهابيين.. بينما الذي تمَّ فعليا بهذه الممارسة هو ترك الجسم الحقيقي من الجيش العراقي السابق في أحضان التجاذبات التي طفت في الأوضاع الأخيرة!!

لقد رافقت هذا الفعل العسكري الأمني دائما مرْكَزةٌ مقيتةٌ أكدت خطلها. فقد كانت مسؤوليات القائد العام ووزير الدفاع والداخلية وأعلى المسؤوليات الأمنية والاستخبارية بيد شخص واحد وكأن العراق لم ينجب غيره في تكرار لذات خطاب الطاغية الذي سبقه عندما كان القائد الضرورة الأوحد! وأنكى منه تلك السياسة الطائفية التي كرست الانقسام قسرا في المجتمع. فمورس الإقصاء والتهميش وأُهْمِلت استثنائيا وبتعمد المناطق الغربية والشمالية ووُضِعت في ظروف غير إنسانية. وأكثر من هذا وذاك كانت وُضِعت بين كماشتي قوى الإرهاب وممارسات ميليشياوية لما سمي تجاوزا الجيش! وواصل الخطاب الرسمي تهمة الحواضن الإرهابية لقسمٍ رئيس من أبناء الشعب وجزء أساس من الوطن! بدل أنْ يحرّر تلك المناطق من الأسْر ومن الخضوع لسلطة الإرهاب.. وحتى عندما حرَّرَ أبناءُ المنطقةِ أنفسَهم من قوى القاعدة ورديفاتها جرى التنكيل الرسمي بهم وبقوات الصحوات والعشائر التي نهضت بالمهمة!؟

إنّ النتيجةَ المرَّة لكلِّ تلك السياسة الطائفية بجوهرها والبليدة بآليات اشتغالها وبنائها، تجسَّدت في دفع فئاتٍ عديدة نحو ردّ فعلٍ راديكالي عنيفٍ التقى بعضُهم بالخلاصة مع قوى إرهابية هي الأخرى طائفية الحجة والذريعة ومن الطبيعي أن يكون جناح الطائفية هنا ناشطا باتجاه استغلال الظرف بحثا عن غنيمته مثلما فعل ويفعل الجناح الآخر القابع في السلطة.. إنها لعبة عنفية، الفائزُ بها جناحا الطائفية يقتسمون المغانمَ والضحية الوحيدة هي مزيدٌ من رؤوس أبناء الشعب وكرامة المواطن ومصيره برمته.

 

وبين الأسباب الكامنة في خطاب الطائفية وفشل المسؤول الأول في إدارة الملفات كافة وبين النتائج التي جرت ويحتمل استمرار تداعياتها إذا ما استمر الإصرار على تحويل المؤسسة الحكومية الاتحادية إلى ملكية خاصة تضليلا باسم طائفة وحقيقةً باسم شخص وحاشية مستشارين، بين تلك الأسباب وهذي النتائج تعلو اليوم أصواتٌ موضوعية للحل والمعالجة. تتمثل في أصوات أبناء الشعب يطلقون أنّاتهم ويصرخون بوجه فجائعهم بالتحام مع البديل الوطني العراقي يتشكل من ركن الفديرالية العراقية الراسخ مجسَّداً بكوردستان وتحالف القوى الوطنية الديموقراطية.

إنَّ العلاجَ الحقيقي يكمنُ في الشروع الفوري بمحاسبة المسؤولين أمام أعلى السلطات في البلاد والعمل على معالجة الأوضاع بخطاب وطني عراقي يجمع القوى الوطنية ويستعيد فرصة المبادرة بين يديها. وهو أمر متاح لقيادات عاملة اليوم في ضوء تغيير منهجها من جهة وتعديل خطابها وبرامج عملها والانضمام للحراك الوطني على أسس المواطنة والتوجه نحو بناء الدولة المدنية التي تقوم على المساواة والعدل. إن تحالفا آنيا باسم ((تحالف العراق الآن)) كان ضرورة قصوى فيما بات اليوم بحاجة ملحة وعاجلة إلى تشكّله بمجابهة التهديد الوجودي لقوى الإرهاب من جهة واستفحال خطاب الطائفية من جهة أخرى.. وبغير هذا التحالف لن نجد مخرجاً مناسباً بلا تضحيات ثقيلة مؤلمة وموجعة، ليست قرابينه سوى بنات شعبنا وأبنائه وكرامة الناس وحقوقهم وحرياتهم ومجمل مصائرهم..

فإلى هذا البديل يجب التحرك الفوري بخارطة طريق وطنية وأسقفها الزمنية لإنقاذ البلاد من الانهيار الأشمل والأخير.