انكساراتٌ وانتصاراتٌ تتوّجُ الإرهابَ وخلفيتَهُ الطائفية

والبديل يجب أن يضم القوى العراقية على برنامج وطني للتغيير

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

ما جرى في الأيامِ القليلةِ الماضيةِ لمْ يكنْ مجردَ فعاليةٍ لقوةٍ إرهابيةٍ في جغرافيا الوطنِ، بل كان حدثاً استثنائياً سيبقى تأريخاً لتغيرٍ نوعيّ في مسلسلِ المنجزِ الطائفيّ. لقد أودَت الطائفيةُ السياسيةُ وخطابُها بالوضعِ وسلَّمت للهمجيةِ رقاب المواطنين الآمنين بعد أنْ تركت بيوتهم لتهديد الجريمة ونيران أسلحتها لتحيل البناءِ إلى خرابٍ والمدنَ إلى أرضٍ قفرٍ يباب. الكارثة لم تأتِ بين ليلة وضحاها بل جاءت عن مسلسلِ أداء الطائفية وقيادتِها دفةِ الحكومة والسطو على قرارِها وحصرِهِ بين يدي طرفٍ انفرد بالسلطةِ وحصر الصلاحيات ومارس سلطةً إقصائية وتهميشاً عانى منه ليس أبناء مكونٍ لوحدهم بل أبناء الوطن كافة بسبب التشطير والتقسيم ووضعهم في تعارض واحتراب.

إنّ الذي يجري في البلاد هو إفراز يتوّج سياسة الطائفية وصراعها على اقتسام الغنيمة. وإذا كانت الصراعات قد أوقعت الضحايا بشكل فردي أو محدود فإنَّها اليوم توقع أفدح الخسائر في أبناء الشعب من أتباع المذاهب والديانات بتنوعها وتعددها. وهي تدفع بمزيد من التسارع إلى مذبحة الحرب الأهلية القائمة على فلسفة أحزاب الطائفية وميليشياتها. إنّ تسليم مدن العراق التي يصفونها بالسنية بين يدي قوى الإرهاب والفرار بهزيمة نكراء للقوات الحكومية بقيادة المالكي، يتبعه اليوم لا استعادة المبادرة وإعادة تنظيم القوات وتطهير تلك المدن بل دعوة أقرب للنداء إلى الجهاد ولكنه هذه المرة جهاد يتسم بطابع طائفي بامتياز، طابع تعلو فيه خطابات الثأر والانتقام وتفعيل لغة العداء والتناحر والاصطدام العنفي الدموي!

إذن فالانكسار للقوات الحكومية نتيجة طبيعية لطابع الأداء لقيادتها وفشلها في توجيه الأمور بصواب وسلامة والانتصارات التي أحرزتها قوى الطائفية بجناحها الآخر هي توكيد مقابل لطابع المأساة التي قيدت البلاد إليها. وعليه يمكن استقراء حقيقة أنّ اندلاع الحرب وإشعال حرائقها سهل كما يراها أصحاب العقل، ولكن إطفاء تلك الحرائق ووقف الحرب المندلعة لن يكون سهلا وسيكون عصياً على جميع الأطراف توفير فرصة الانتهاء من آثارها إذا ما استعرت نيرانها.. بخاصة أنّ أغلب الدعوات الجارية حتى الآن هي دعوات من رجال دين ومرجعيات دخلوا أطرافا في الصراع السياسي الطائفي وها هم يعيدون الأمر ولكن بصيغة ستؤدي لإشعال حرب أهلية إذا ما استمرت التداعيات على ما هي عليه اليوم. إن مخاطر استخدام الدين والمذهب بطريقة سياسية عرجاء، أي طريقة التقسيم الطائفي ليست نتائجه إلا ما نرى بوادره من تشطير للأرض ولأبناء العائلة العراقية الواحدة!!

وما يجب اليوم، ليس ذاك الذي نراه من تمسّك بعض القيادات الطائفية السياسية بمناصبهم، على حساب التداعيات الكارثية. إنما يجب الاتجاه إلى عقد لقاء وطني عاجل ومفتوح بين القيادات من داخل العملية السياسية ومن خارجها. وأنْ يجري ترسيم الموقفين [البرنامجين] العاجل والراهني. ففي الموقف الفوري العاجل يجب التمسك بالقوات الحكومية بوصفها جيشا وطنيا وليس بوصفها قوات القائد العام شخصا ينفرد بالأمور حتى لم يعد متاحاً لأي قائد ميداني أن يحرك جندياً من دون القائد العام أو الحاكم بأمره! ولابد من انعقاد مستمر للقيادة العامة ومواجهة ما يجري ميدانيا بطريقة تستفيد من الخطط العسكرية المدروسة أكاديميا وليس تلك القائمة على نهج الخطل الذي سلّم السلاح مع الأرض والناس. علماً أننا اليوم لا نجابه إرهابيين مدربين وانتحاريين حسب بل نجابه قادة عسكريين خبروا المعارك النظامية وغيرها الأمر الذي يتطلب الرد بالطريقة الأنسب والأنجع.

وهنا يتطلب منا منح قوات البيشمركة دوراً رئيساً في المعركة مع الإرهاب بخاصة هنا ضد ميليشيات داعش والقاعدة. ويلزمنا من أجل ذلك قيادة عامة رشيدة ومتخصصة للقوات المسلحة ومشاركة فعلية للبيشمركة وقيادتها وتنسيق مكين ومبرمج مع طلب الدعم اللوجستي وذاك الاستخباري المعلوماتي وكذلك بالطيران سلاحاً فعالا في المعركة ليس لوقف تقدم قوى الإرهاب ولكن لدحرها وتطهير الوطن منها. وضمنا سيكون وقف أولئك الذين هربوا من الميدان ومحاسبتهم أمام القضاء العسكري بأعلى المستويات هو أحد المهام العاجلة لحسم الموقف ومنع تداعيات تفكيك الدولة التي باتت قاب قوسين او أدنى من هذه التراجيديا البشعة!

إنّ كلَّ جندي وكلَّ مواطنٍ يتطوعُ للحربِ، يتساءلُ بالضبط: إلى أين يذهب؟ إلى أيّ الميادين؟ ومع من سيشتبك؟ وضد من سيصوّب بندقيته؟ وهما محقان في تساؤلاتهما ونحن نرى أنهما أثمن ما في العراق وجوداً ولا يمكننا أن نقبل بوضعهما في محرقة حروب الطائفية مثلما حروب الطاغية المهزوم العبثية التي عانى منها شعبنا وخلفت ملايين الأرامل والأيتام على أشلاء ملايين الضحايا من جنودنا.

يجب أن تنتقل خارطة الطريق عاجلا إلى حصر النداءات للدفاع عن الوطن بجيش عراقي محترف وخارج سلطة الأحكام العرفية وحالة الطوارئ كونها ليست سوى ورقة بيد من أوصل البلاد العباد إلى هذا الحضيض. ويجب أن تكون تلك النداءات موحدة بين المرجعيات كونها جهات تنتمي لدين واحد وتعبر عن أتباع هذا الدين الواحد ومصالحهم بإطار وجودهم الوطني الإنساني لا بإطار انقسامهم بين طائفتين محتربتين حسب خطاب الطائفية السياسية ولا حتى بإطار انقسامهما على مذهبين.. فتعددية المذاهب لا تعني سوى تسهيل إدراك أنّ الدين ينبغي أن يؤدي إلى مزيد وحدة بين بني البشر جميعا فما بالنا والأمر يتعلق بأتباع ذات الدين الواحد؟ إنّ دخول المرجعيات يجب أن يستوعب الواقع كما هو وأن يفصل النداء للحرب على الإرهاب عن احتمال أن يوقع  النداء بين أتباع المذهبين بطريقة تشعل الحرب الأهلية!

لقد رفض قطاع واسع سلطة المالكي الإقصائية التي استندت شرعيتها إلى تقاسم الغنيمة من طرفي أو جناحي الطائفية السياسية تسلطا على الجميع وإمعانا في استغلالهم ولكن بمزيد إقصاء وتهميش لطرف بعينه الأمر الذي تجسد بحراك شعبي ظل مقموعا وبات اليوم تحت مقصلة الآلة العسكرية الجهنمية بخطابها الثأري الانتقامي. ومثل هؤلاء لا يمكن أن تخاض الحرب ضدهم ولكن ينبغي أن تعالج باستعادة القيم الوطنية في التعامل ووقف حال الإقصاء والشروع بمصالحة وطنية لا ضحك فيها على الذقون ولا مخادعة وتضليل...

وبالمجمل هنا اليوم يجب إنهاء السبب فيما وصلنا إليه بإزاحة المسؤولين عنه، ومنع دخول القوى الأجنبية بخاصة الميليشيات الإيرانية وجيشها لأن هذا لن يقف عند تأجيج النيران بين أتباع مذهبين ولكنه سيقدم البلاد على طبق من ذهب لإيران وأطماعها. وهي جزء من المشكلة وليست جزءا من الحل. كما يلزمنا فتح الاتصالات مع القوى الدولية وعلى رأسها أعضاء مجلس الأمن الدائمين والمنظمة الأممية لمنع تداعيات التدخلات الأجنبية غير المبرمجة ومصالح العراق والعراقيين وغير الخاضعة لإرادتهم وتطلعاتهم.

لكن الحل من جهة أخرى، لم يعد ولم يكن يوما حلا عسكريا أمنيا بحتا فلقد اثبتت التداعيات أن الأمور ليست كذلك. وأن الصحيح يكمن في الانتهاء من سياسة فاشلة بمجالات السياسة والشؤون المجتمعية وعلى رأسها الجمود في مجالي الصناعة والزراعة حيث ظاهرتي البطالة والفقر وما توفرانه من أرضية للإرهاب من قوة بشرية ومن خلفية تضليلية في الفكر السياسي المتفشي في الوسط العام وهو ما يشعله باستمرار إعلام أحزاب الطائفية..

إن المرحلة بحق في خانق لن ينتهي ما لم نتجه إلى حلول جوهرية غير خطاب الترقيع والدعوات الأخلاقية في وسط لا يتسم مَن فيه ويديره اليوم بأي مقترب من القيم الإيجابية التي انهارت وسط ظاهرة الفساد الشامل في البلاد. إن دعوة من تسبب بالانهيار لمعالجة الأوضاع أمر مثير للسخرية. فيما ينبغي لمن يريد الحل والمعالجة التوجه لحلول حازمة ونوعية تقوم على مشروع برنامج وطني بديل وتنهض به قوى تتمسك بهذا البرنامج وتشترك في الحل قوى تقطع صلاتها بالأمس المرضي وتلتحم بخطى بناء الدولة المدنية.

إن هذا الحل جوهره موقف التحالف المدني الديموقراطي وقواه وركنه الأساس الآخر هو القوى الكوردستانية ودفاعها عن الوجود الفديرالي والوطني العراقي وبنيته ممثلة بكل القوى التي ستنضم إليهما وإلى خارطة الطريق الجديدة. ومن حيث البنية لن يمكن لقوة بمفردها أن تنجز أمرا ولكن من حيث البرنامج ليس لغير هذا البرنامج الوطني من بديل يمكنه إنقاذ الأوضاع، إذ ستبقى الخطابات الطائفية بجناحيها سببا لإدامة الكوارث ولكن هذه المرة لن يكون بعدها من فرصة للحديث عن وجود عراقي، يوم يتشظى بين دويلات طائفية محتربة..

وربما تطلبت الخطى العملية تسليم إدارة الدولة بوجه عاجل لمؤتمر وطني للمصالحة وحكومة إنقاذ وطني ولكن بالتأكيد مع الاحتفاظ بتمسك أكيد بخطوات محسوبة بخارطة طريق تستكمل جملة مفردات الانتقال إلى أوضاع مناسبة لعراق فديرالي ديموقراطي في سقف زمني لا يتجاوز العام الواحد تجري فيها تعديلات الدستور وإجراء الانتخابات لقسمي البرلمان مجلسي النواب والاتحاد أو لاستكمال وجود مجلس النواب بمجلس الاتحاد وبقوانين ناضجة وسليمة للانتخابات وللأحزاب وبما لا يتعارض وحراك سلمي يوفر أسس الحياة الحرة الكريمة لجميع المواطنين على أسس العدل والمساواة بظل مبدأ المواطنة ودولة مدنية ديموقراطية بحق...

إنّ التقصير في النظر نحو ما يجري يعني مشاركة فعلية في نهج تفكيك الدولة ووضعها على طريق حرب دويلات الطوائف وهذا ليس طعنا بمقتل يصيب العراق والعراقيين بل هو طعنة لدول المنطقة وزلزال سيهز  الأمن والسلم الدوليين مع توفيره أكبر مساحة لقوى الإرهاب وتحويلها من ميليشيات إلى قوى منظمة بصيغ أكبر تهدد بحروب كارثية حيث تسطو على الثروات والأسلحة وتستعبد طاقات بشرية مهولة..وهذا ما يجعل المهام الأممية الدولية واجبا عاجلا مما يُنتظر أن يحصل في ضوء التداعيات التي ستكشف الأيام القليلة القابلة كثيرا من المفاجآت غير المحسوبة وحينها لات ساعة مندم.