أين تكمنُ الديموقراطية المنشودة في عراقِنا؟؟؟

 أفي دستور توافقي يحرس الجميع أم في فروض تدعي تمثيل الأغلبية؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  01 \ 19

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

الديموقراطية حارسة الحياة الإنسانية وضمانتها للعيش بسلام وحرية وعدل. وهي لذلك تتأسَّس على توافقات تعاقدية بين جميع أطراف الوطن الواحد بما يعني ألا تحكم العلاقة بين تلك الأطراف قوانين طرف منها حتى لو كانت الأغلبية. فمنطق العلاقة بين طرفين إذا ما أُريد له أنْ يكون مستقيما فإنَّه سيكون مشروطا بالتراضي والتواضع على المشترك وأنْ يمتنع عن التعبير عن رؤى جهة على حساب أخرى وإنْ كان ذلك لصالح الجهة الأقوى..

لماذا؟ لأنَّ التعبير عن جهة لغلـَبـَة كفَّتها في لحظة تاريخية, أمر لا يؤسِّس إلا للتمييز والتفرقة وتقديم طرف على آخر .. فهل في ذلك ما يستقيم مع الديموقراطية أو مع العدالة والمساواة؟ وعن أيّة عدالة نتحدث في ظلّ تكريس دستوري (قانوني جوهري أساسي) لفوقية استعلائية لجهة ودونية لجهة أخرى؟ وعن أيّة مساواة نتحدث في ظلِّ قانون الكبير والصغير, القوي والضعيف؟

إنَّ الديموقراطية الحقة واحدة في جوهرها وهي تلك التي تتماشى مع مفاهيم عصرنا, عصر الحريات والبحث عن العدالة والمساواة, وهي تلك التي تنظر للإنسان الفرد بوصفه القيمة العليا التي تتساوى في مجتمعنا الإنساني الجديد, ومن أجل ذلك تتجاوز القراءة الديموقراطية وتمتنع عن النظر إلى الإنسان من منظور جنسه أو لونه أو دينه أو طائفته أو اعتقاده الفلسفي والفكري أو لأيّ سبب آخر مفترض في اصطناع التمييز والتفرقة بين إنسان وآخر..

والدساتير أو القوانين الأساس هي مظهر الديموقراطية والنص المعبّر عنها فإذا صيغت توافقيا وبالتراضي الذي يضمن تلك المحدِّدات, حقـَّقت المرجو منها كونها حارسة الإنسان من أشكال الاعتداء المحتملة وعبرت عن ضوابط الحياة في مجتمع بعينه بأفضل الفروض القانونية .. أمّا إذا فـُرِضت من جهة وصيغت على ما يحقق لها الغلبَة والسيطرة وعبّر دستور عن تميِّيز يُظهِر تقدّم طرف على آخر فقد انتفت الديموقراطية من ذلك الدستور وخرجت جوهريا من تعبيره عنها .. فالديموقراطية كلّ شامل متكامل لا يتجزّأ لكي نأخذ فقرة ونترك أخرى بحسب الطعم أو اللون أو الرائحة أو بتعبير آخر بحسب تذوق طرف ورغباته وردود فعله تجاه كلّ مفردة من المفردات..

وليس بعد هذا التعريف ما يقبل الجدل حيث تناور بعض القوى أمام قوة التيار الديموقراطي اليوم (عالميا) بقبولها علنا [تقية] اسم الديموقراطية منحنية بالإكراه لقوة دفع التيار ومضمرة في الوقت نفسه محاولات الالتفاف عبر عملية التلاعب بتعريف الديموقراطية وقصرها مرةَ َ على حكم الأغلبية أو اختزالها في مرة أخرى بالانتخابات التي تجري في ظروف لا تتوافر فيها أبسط الشروط الموضوعية.. وفي كلّ الأحوال تكون تلك المناورات مخاتلة ومواربة لوضع اليد على الحياة العامة حسب تصورات طرف وبطرائق قهرية..

أيّ باصطلاح آخر تمرير الدكتاتورية الجديدة بصيغة تمثيلية تزعم ممارسة الديموقراطية (عبر الانتخابات) فيما تضمر إكراه الناس وإجبارهم على الخضوع لفلسفة بعينها.. وبمناقشة تلك الفسلفة لا نجدها تعبّر حتى عن ادعائها تمثيل الأغلبية بدليل مرورها بالخديعة والتضليل من جهة وبأساليب إرهابية وبالعنف المسلّح بالهراوات والرصاص.. وبدليل أهمّ هو كون أية رؤى قد تحصل في يوم على أغلبية قد لا تكون كذلك في يوم آخر ومن ثمَّ فهي ليست من ثوابت النص الدستوري أيّ أنَّ الأغلبية ليست قاعدة لفلسفة الدستور ومواده ...

فحتى إذا لم تكن جهة سياسية في حالة من الادعاء بل تعبر عن مصداقية القراءة لكونها ممثلة للأغلبية وفي أفضل شروط التصويت فإنَّ ذلك لا يسمح لها بفرض صياغة الدستور على وفق مقاسات فلسفتها .. ذلك أنَّ تثبيت اعتقاد أو دين أو فلسفة في نص دستور ما, أمر غير مشروع.  فالدستور ليس تكريسا لفلسفة بعينها بقدر ما هو إطار للتداولية وحارس للتعددية والتنوع والتغيّر والحركة بما يلائم كلّ مرحلة وكل جيل وكل خيار محتمل.. والدستور إطار أو قراءة لضوابط العمل بما يكفل الحريات الأساس للفرد ويمنع الاعتداء عليها..

فهل يمكن لدستور يضع شروطا مسبقة ويميل لتثبيت فلسفة طرف فيه ويبعد الأطراف الأخرى , أنْ يكون ضمانة للعدالة والمساواة في المرحلة التي يتمّ فيها تداوله؟ وبسؤال إنسان فرد عن موافقته أنْ يكون محكوما بفلسفة غيره, فهل يتفق مع ذلك؟ وهل يرى فيها تعبيرا عنه وعن حرياته الأساس؟ أم أنَّه سيجد فيها ما هو أكثر من قيود؟ بمعنى شعوره باستلاب حقوقه الإنسانية ومصادرته في جوهر حياته ومفرداتها وتفاصيلها...

 

في عراق اليوم تجري مناقشة هذه الرؤى والأفكار. وسرعان ما جابهنا توجهات بعض القوى إلى نقل الحوار من طبيعته وجوهره لتحوله إلى سجال يخضع لفلسفة جهة بعينها ومحاولتها فرض تصوراتها بالقوة والإكراه مرة وبالمخاتلة السياسية والتضليل في مرة أخرى... وليس من عجب في بلاد دجـَّنـتها الدكتاتورية زمن أكثر من أربعة عقود متتالية.. ولكن من العجب أنَّ تلك القوى لم تستوعب دروس الأمس القريب والبعيد. إلا إذا كنـّا قد توهمنا فيها عندما عدَدْناها ووضعنا إياها في خانة القوى الوطنية وما هي كذلك..

فلقد مرّرت بعض تلك القوى السياسية بالأمس فقط  عددا من القوانين والقرارات التي رفضها شعبنا بمظاهرات واعتصامات جرى التعتيم عليها وأداروا عملية تحجيمها بأفعال سياسية مقابلة شاغلت الناس والقوى السياسية المتنورة .. وكما نرى فقد أصدرت كل ذلك وهي لا تمتلك صلاحيات تحديد المستقبل السياسي للعراق ولكنّها في موقع مسؤولية الإدارة المؤقتة لا غير .. في مثل هذا الموقع المؤقت لم تؤتمن تلك القوى على ما سُـلـِّمت إياه فراحت دبلوماسيا تتبرع لدول تمالئها فكريا بالتعويضات وتعقد اتفاقات مع أخرى تمسّ الأمن الوطني والسيادة العراقية كما في بحث أمور الفديرالية وأمور مصيرية عراقية داخلية بحتة مع دولة مجاورة وتقديم الوعود علنا ولا ندري ما خفي عن أعين الإعلام والشعب..

وفي الحقيقة فمثل هذه السياسة لا تضع العراق داخليا في حالة من الانقسامات العرقية والطائفية وتبدأ بإشعال فتيل صراع قد يُفجـِّر برميل [بارود] الأزمات بل هي سياسة تثير حفيظة دول جوار وتفتح لأخرى الأبواب للتدخل في الشأن الداخلي ومنه السيادي على مصاريعها واسعة وتخلق مشكلات لها خلفيات وأوليّات ولاندري ما نهاياتها.

إنَّ الشخصيات السياسية الممثـِّلة لأحزاب وطنية ارتكبت عديدا من الأخطاء في الفكر السياسي لإدارة الدولة وعلى مستوى العمل الدبلوماسي [أحيانا عن غير قصد ولكن عن ضعف الخبرة والخلفية عند تلك الشخصيات أو لعدم الرجوع إلى الخبراء والمتخصصين] من دون أنْ يكون من وجود لعمل مؤسساتي يتابع ويراقب ويحاسب ويقوِّم المسارات. فضلا عن حالة التعدد والاختلاف التي يجري في ظلال الوضع القائم تمرير رؤى [محدَّدة معلومة] قد لا تعبر عن مصالح وطنية داخلية أو خارجية بقدر تعبيرها عن مصالح حزبية ضيقة بل فردية تخصّ [زعيما] جديدا وتصوراته بوصفه قوة سيادية وتنفيذية وتشريعية صاحبة قرار تتداخل فيها (كل تلك الخلطة المؤسساتية مختزلة في فرد) فتلتبس الأمور وتختلط بطريقة معرقلة لصحيح المسارات ومفيدها...

إنَّ بديل الوضع الذي يقوم على التدخلات الفردية وحكمها وسلطتها السياسية مؤقتا يكمن في المسؤولية الاعتبارية والأخلاقية للشخصيات الوطنية لمتابعة الوقائع وتقديم المعالجات والبدائل الموضوعية. وعلى المدى البعيد يكمن في التوجه لسلطة العمل المؤسساتي. ومن جهتها تفترض المؤسسات وآليات عملها وجود ضوابط وقوانين وقواعد أدائها الوظيفي وهذه بمجموعها توجب بل تلزم المجتمع أنْ يسوس أموره بدستور أو قانون أساس يمثل التوافق على الثوابت المشتركة التي يرضى بها الجميع أفرادا وجماعات.

وليس لجهة أنْ تجيِّر العقد الاجتماعي بين طرفين لمصلحة طرف أو للانتقاص من وضع طرف آخر بل لا يمكن بالمرّة أنْ يعبّر العقد الاجتماعي عن رؤى الجماعات السياسية والدينية متجاوزا مصالح البشر بوصفهم أفرادا يملكون كامل وتمام الحريات والحقوق الإنسانية من غير انتقاص لسبب من الأسباب ومنها تلك التي تتذرّع بالأغلبية والأقلية. ففي الوقت الذي يسجل الدستور حقوق الجماعات يثبِّت قبل ذلك حقوق الأفراد في العدل والمساواة والحرية...

ولن يكفلَ دستورُ شرعةِ الأغلبية عدالةَ َ, لأنَّه يخلو هو ذاته من إنصاف العدالة؛عبر نصوصه الدالة على الظلم والإجحاف حيث يبدأ بتقديم جهة ومنحها الحظوة وتأخير أخرى وسلبها أو مصادرة حق من حقوقها ليكون بعدها السبيل إلى مصادرة الإنسان الفرد من قيم إنسانيته وحقوقه الطبيعية والمكتسبة..

بوضوح أكثر هنا؛ فليس من عدالة لدستور وصحة له في دولة كالعراق متعددة الأعراق والقوميات والأديان والمذاهب إلا بأنْ يكون دستورا علمانيا. بتعبير آخر عقدا اجتماعيا يمثل القواسم المشتركة المتوافق عليها بالتراضي بين جميع الأطراف وبما يكفل الحريات والحقوق الأساس بغير انتقاص أو اعتداء أو إعداد أرض وتمهيد لانتقاص أو اعتداء.. والوصول إلى هذه النتيجة ليس أمرا نظريا بل واقع الحال الذي يكشفه ويفضح ما خلفه..

أفلم نرَ جميعا وحتى قبل تسلّم السلطة ما كان من أمر التصريحات والقوانين والتشريعات والقرارات المتخذة فرديا وجماعيا مما لم ينسجم حتى في وضعنا الراهن مع أطراف الشعب ومكوناته؟ أم سنتغافل عن كل تجاريبنا ومعرفتنا بالطبيعة الإنسانية لنضع بين أيدينا دستورَ وقفِ التطور ومنع العدالة وقطع الطريق على الديموقراطية في بلاد الحضارة والقوانين المدنية العادلة؟

ولمعرفة جميع القوى والدول فإنَّ التزام دستور غير علماني سيكون مقدمة لدولة ثيوقراطية سيكون نموذج طالبان وكلّ دول الطائفية المنتهية بــ [ستان و آن] مجرد رقم صغير تجاه مخاطر ما سينجم عن تداعيات قيام النموذج الثيوقراطي الطائفي الظلامي في العراق... فهل لقوة وطنية أو قومية أو متنورة أو لأية قوة إقليمية أو دولية مصلحة في مثل هكذا نموذج يتسلـَّم مقاليد سلطة بلاد كبيرة بحجم العراق؟؟ أم أنَّنا سنتوافق على دستور يكفل الديموقراطية والعدالة والحريات الإنسانية؟؟؟؟

 

 خاص بإيلاف

 

  

 

 

 

1