علاقات الأطياف الكوردستانية بين عثرات طارئة وجسور مكينة ثابتة

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

العلاقاتُ الإنسانيةُ حالٌ طبيعيةٌ بسيطة غيرُ معقدة ٍفي أسبابها ولكنها معقدةٌ بمفرداتِ مسيرتها وبكثيرٍ من نتائجِ التفاعلات الناجمة عن تضاغطات المصالح وتأثيراتِ تدخلات ربما لا تكون محسوبةً أو غير خاضعة لمنطق العقل والقيم السامية لوحدة مسار البشرية. وكوردستانياً تعايشت شعوب الجبل بروح مدنيّ سارت فيه العلاقات برقيّ وسلامة خطى فكان منجزها الحضاري المميز الكبير الذي سطع على محيطها شمساً مشرقة بالخيرات.

ولكلّ مَن ينظر في هذا الفضاء الممتد من أعماق الوديان حتى قمم الجبال وهاماتها، سيجد تجاور العلامات التي تشير إلى شعب كوردستان مطرزاً بفسيفساء التعددية والتنوع واحترامهما. فأنت تجد إلى جانب الكورد مجموعة من الأطياف القومية والدينية التي تحيا بسلامٍ مذ انعتقت كوردستان من سطوة نظام الطغيان والمركزية التي جارت على من فيها بأعتى جرائم الإبادة.

ولربما كان العدو واضحاً قبل ربع قرنٍ وهو ينفرد بمركزيته الطاغية وأحادية وجوده القمعي؛ إلا أنّ ذاك العدو الذي طُرِد خارج أرض كوردستان بات اليوم متعدد التحدّرات وأشكال الظهور. فعناصر التخريب التي تستغل الأوضاع اليوم بين قوى إرهابية اشتدّ أوار نيرانها بما سطت عليه من أسلحة وبمن استعبدتهم من طاقات بشرية من المناطق المستباحة مما حول كوردستان وعلى تخومها، ومع تلك العصابات هناك الخلايا النائمة من عناصر مريضة تنتظر من يفجرها عن بُعد في ضوء خطط المجرمين.

والمنطق السليم يقول: إنَّ مواجهة المجرمين والطغاة، في ميادين المعارك، لم تكن يوما هي المشكلة. فلطالما تصدّى أبطال كوردستان لهم في معارك الحرية وانتصروا، والشاهد الأبرز هو كوردستان الحرية والسلام التي تحيا اليوم منعتقة من أوباش الأمس ومجرميه. لكنّ المشكلةَ هي تلك التي يمكنُ أنْ تتسلل بوساطة الحرب النفسية والإعلامية وخطابها السياسي ومآربه المرضية التي يجري تخطيطها بمحاولة للإيقاع بالكوردستانيين. وهي في حقيقتها مجرد أوهام مرضية لن تستطيع يوماً تحقيق مقاصدها بفضل وعي أبناء هذي الأرض الطيبة.

ومباشرة ينبغي لنا أنْ نشيرَ إلى الصورة التي أوجدها الإرهابيون بجرائمهم. فلقد استباحوا أرضا واسعة تقدر بثلث مساحة العراق الفديرالي. وكانت أول المدن الكبرى التي سقطت قد دفعت بمئات آلاف المسيحيين للنزوح واللجوء لكوردستان السلام طلباً للحماية والمأوى. ومن الطبيعي أنْ يكون كثير منهم بضيافة أشقاء مسيحيين يحيون هنا، فضلا عن المخيمات التي لم تعد تستوعب الحجم السكاني الاستثنائي الذي حلّ فجأة. والمشهد التراجيدي هذا لابد أفرز بيئة للظروف المعقدة وخطاباتها المتناقضة.

لقد كان واضحاً تماماً أنَّ حلّ الفرق العسكرية للحكومة الاتحادية بطريقة اعتباطية عشوائية وترك الأسلحة بكل أنواعها هو سبب خطير في تسليم المنطقة للإرهابيين وأكثر من ذلك منحهم أسلحة فتاكة بلا أدنى ردود فعل عسكرية مناسبة لاحقة لتلك الهزيمة! بل بانهيار تام لمؤسسات الدولة لمصلحة قوى الجريمة وعصاباتها؛ مع سلبية وتماهل غير مسبوق في التاريخ البشري تجاه واجبات الصراع الأبشع!

وفي الجولة الثانية، لم تقدم (القيادة العامة) أيّ شكل للتسليح لقوات البيشمركة والأنكى أنهّا لم تسمح لهم بتعزيز قواتهم في جبهات المواجهة ولا تقبل بأيّ شكل مسألة وجود البيشمركة خارج كوردستان والحدود التي رسمتها مخيلة تلك القيادة، الأمر الذي ترك قوات البيشمركة الرمزية صغيرة الحجم وضعيفة التسليح أمام مواجهة جولة مخصوصة منحت الإرهابيين فرصة السطو على مناطق جديدة واستباحة مكون آخر هم الأيزيديون الذين فروا إلى العراء يحتمون بجبل يعصمهم من هوجاء المجرمين القتلة ليقعوا فريسة الظروف البيئية المعقدة هم أيضا!

في هذه اللحظة جرى استغلال الموقف لمهاجمة كوردستان وتحميلها مسؤولية ما جنته جرائم الإرهاب بكل من وقف خلفهم وما تسببت به حال إهمال تلك المناطق وإخضاعها لصراعات طائفية سلطوية أفضت إلى الانهيار الشامل وتسليم رقاب أبناء المنطقة بكل مكوناتها لقوى الجريمة.

وأمام خطاب التشويه والتضليل الذي وجد أرضه الخصبة؛ يجب أن نتذكر هنا أنّ كل بلاد وكل شعب فيها من العناصر السلبية ما يكون نافذة للشر وفي ضوء ذلك سيكون اتهام الشعوب وبناها من مؤسسات دولة وقيادات مدنية ورسمية هو ردّ فعل لا يحكمه قانون سليم ولا منطق حكيم.  فحين نرد على عربي أو هندي أو صيني أو كوردي أو غيرهم ممن يرتكب أمراً، لا يمكننا التعميم، من قبيل أنْ نقول  بسبب وجود مجرم أو زمرة من المجرمين في شعبٍ: إنّ الشعب بأجمعه مسؤول عن جريمةِ فردٍ شاذ فيه أو مجموعة صغيرة هامشية فيه!!

إنّ هذا التفكير ناجم عن لحظة ضبابية ندرك قسوتها؛ حيث لا يمكننا في تلك اللحظة تبيّن الأوضاع بدقة وموضوعية لخضوعنا لتأثيرات مأساوية فاجعة بحجم مهول فيها؛ فيما التفكّر بالأمر وتدبر القضايا يكشف لنا أنّ هذه المواقف الانفعالية تحرق الظهير الإنساني والمُعين والسند في لحظةِ الشدةِ تلك، إذ يوجه بعضنا أصابع الاتهام بتعميم اعتباطي يختلق الاصطراع مع الآخر ويفتعله من دون أي سبب منطقي سليم.

كأنْ يحمّل امرئ العرب كلَّهم ما جنته يد بعض الحكام ببغداد؛ أو يحمّلُ آخرون الكورد كلَّهم فيما جرى للمسيحيين والأيزديين. إنّ هذه المواقف أما مستعجلة واقعة تحت ظرف كارثي طارئ وفي أوضاع ضبابية لا نمتلك فيها المعلومة الدقيقة ولا صحيح التحليل أو أنها تنطلق من قوى معادية تتقصد إشاعة التصور غير الموضوعي قطعاً. وفي كلتا الحالتين يجري محاولة نحر وحدة الشعوب ووحدة مصائرها ويجري طعن حال التعايش السلمي والتآخي والتعاضد ضد العدو الواحد الذي يشمل الجميع بمآربه الإجرامية والعدو ذاك يأخذهم بالتسلسل بعد تفريقهم وتمزيقهم بل ووضعهم بحال تناحر واحتراب خطيرين.

هنا ينبغي أنْ نتذكر حقيقة، تزيل الصورة التشاؤمية، هي حقيقة أنّ الثابت في العلاقات بين الشعوب وتطلعها لمصالحها هو الأساس بمسيرتها جميعا. بينما التفكير بطريقة اتهام الآخر والتشكيك في نواياه هو أمر طارئ مفتعل ومصطنع سرعان ما سيزول. ومهما طال وامتد أمد الاحتراب فإنّه لن يجلب لطرفٍ الاستقرار ولا يمنحه فرصة العيش الإنساني المنشود. وكل ما في الأمر أن الاحتراب واختلاق التناحر يفرض مزيدا من الضحايا والقرابين على جميع الأطراف.

إنّ إدراك حقيقة التعايش السلمي ووحدة المصير بين أبناء كوردستان تقوم على ذياك المشهد العميق تاريخيا. حيث المعابد ولعل لالش أبرز علاماتها الأيزيدية السامقة ومقامات أنبياء اليهودية وكنائس المسيحيين تعلو شامخة إلى جانب الجوامع.. وكلها تنتصب معاً في الفضاء الكوردستاني بحمايةٍ ورعايةٍ وبحرياتٍ وقيم تتفرغ للبناء بفضاء السلم الأهلي. ذلكم هو الثابت الاستراتيجي لوجود جميع الأطياف الكوردستانية.

أما العثرات التي ظهرت وسط غبار المعارك التي تتسبب بها قوى الإرهاب، والبحث وسط ذاك التضبب عن مبررات لتضخيم الخلافات ومفاقمتها والدفع باتجاه الانشطار بين الأطياف المتعايشة فهي كما تؤكد كل القراءات اليقينية ليست سوى حالات عابرة. ومن سيحد من انتشارها أو اتساعها ويُنهيها هو وعي أبناء كوردستان كافة بكل تنوعاتهم وبكل من يحيا على هذه الأرض الحرة.

وأيّ تراخٍ أمام القيل والقال والإشاعات المغرضة وأيّ سماح للأوهام كي تأخذ مكاناً في أذهان بعضنا، سيضخ في المحصلة سموماً لا تزول لأجيالٍ لاحقة وسندفع جميعا ثمنها غالياً. فأولُ الجريمةِ وهْمٌ ثم مرْضٌ يتحول إلى حقد دفين يتملك الأنفس ويوقع بينها ويمزقها فلا تتوقف حتى تنتهي منا وتأكلنا جميعا!

لقد استباح الأوباش وجودنا مستغلين انهيار الدولة الاتحادية في مناطقنا، مناطق المسيحيين والأيزيديين والعرب من مسلمين وغيرهم ومن سنّة وشيعة.. وهم يريدون الإجهاز على القوة المكينة الوحيدة اليوم التي يمكننا الركون إليها، أي كوردستان الحرة البهية؛ فهل منا من يسمح للأعداء أنْ يدسوا السموم بيننا!؟ وهل فينا من يقبل الانتحار لمصلحة أولئك القتَلَة الرعاديد؟ وهل فينا من يقبل بإضعاف بنى مؤسسية شيدت بفضل تضحيات الأبناء من كل الأطياف ضد الطغاة؟

ولابد من توكيد الحقيقة مجددا أنه مهما كان حجم ما جرى من واقعة فهي ليست سوى لحظة عابرة في تاريخنا وفي مسيرة الأجيال اللاحقة. ومهما كان حجم الجراحات ومن قام بها فإنّها لا يجب أن توجِد المتاريس بيننا. ولربما  كانت دروس التاريخ فرصة للتأكد من صواب ما ننادي من أجله، أيّ النداء من أجل ثبات وتمسك بوحدة النسيج المجتمعي الكوردستاني ووحدةِ تفاعلٍ بين قواه المعبرة عنه.. بغاية واحدة هي العيش المشترك مثلما تفعل شعوب المعمورة.

قفي أوروبا لا حدود بين الدول ولا قبول لاصطراعات بين شعوبها. والناس تتفاعل من دون عوائق وحواجز بل جميعهم في كينونة الاتحاد والمتاريس رفعوها من بينهم ليضعوها حيث هم جميعاً معاً في جبهة التعايش والسلام فيما عدو وحدتهم وعدو إخائهم الإنساني في الضفة البعيدة الأخرى.. وفي كوردستان لن يكون سوى ما عاشته أطيافها تاريخيا من تلاحم ووحدة وإدراك عميق لحتمية مواصلة السير بهذا المنطق الأنجع لوجودهم.

وفي ضوء هذي التجربة ستكون المهمة الأولى كامنة في تعزيز بناء مؤسسات الدولة واحترام قوانينها والعمل بأسس وجود الجميع في إطار دولة مدنية الحراك والوجود. وسياسيا سيكون احترام الآخر جزئية مكونة لاحترام الذات وبهذا تتعزز الوحدة الإنسانية ولا تسمح بالمزايدات والخطاب الانفعالي الطفولي المتطرف أن يتحكم بخطاب التفاعل السياسي.

إنّ تفاعل القيادات المجتمعية ووحدتها واجب للتمترس خلف الوجود الكوردستاني، بوصفه الوجه الأنصع للسير في طريق الانتصار على أعداء السلام ولا مسيرة بلا قيادة ولا نجاح بلا تمسك بتبادل الاحترام وقدسية الآخر وأن تكون وحدة أطياف كوردستان وقواها السياسية الخط الأحمر غير القابل للاختراق..

فلتتفتح الأنفس بروح إنساني وطني جديد يعزف نشيد كوردستان الحرية والسلام لحميع أطيافها. ولتندحر ألاعيب الجريمة وخطابها السياسي الإعلامي وأبواق الإرهاب ومن وراءها بفضل وعي عميق وثقة وطيدة بين القوى جميعا لأنها ستنعكس إيجاباً على أبناء كوردستان وهؤلاء جميعا ينبغي أن يكون لوعيهم الدور المميز في الضغط باتجاه وحدة المسير وثباته الاستراتيجي بما يزيل الكبوات والعثرات ويجعلها مجرد لحظة عابرة...