بين حل استراتيجي منقذ ومخاطر الانشغال بحلول ترقيعية!؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

في تحليلات كثيرة جرى التركيز على واجب دعم بعض ما ظهر من خطوات جزئية صغيرة؛ تتعرض لبعض أشكال الفساد التي استشرت في سنوات عجاف تعمقت فيها نسب البطالة وتعطيل التنمية وتفاقم حجم الفقر عمودياً أفقياً بنسب ضاعفها حال التضخم وغيره من ظواهر، لكن الأنكى في مجمل المشهد تجسد في ظاهرة الفساد التي وضعت البلاد على رأس القائمة دوليا طوال سنوات حكم الطائفية ونظام المحاصصة.

وتتكرر سنوياً تلك المؤشرات التي تشير إلى تحول الفساد إلى نظام مستقر يتمترس في عمق خطير مدافعاً عن وجوده. وبهذا لم يخرج العراق من تسلسل العشر الأوائل في المؤشر الدولي للفساد وبقي يراوح بين الأول والرابع لسنوات. إنّ من يحمي نظام الفساد هذا جملة آليات أبرزها طابع السلطة السياسية، على الرغم من انشغال بعض التحليلات بالتركيز على أولوية الدور الاقتصادي كونه الموجّه لمجمل التداعيات!؟ غير أنني لستُ بصدد الحديث هنا عن مواقع أدوار السياسي والاقتصادي بقدر ما أشير إلى دور الاقتصاد الريعي والطفيلي في حراثة الأرض لقيم التخلف والفساد بإطار معالجتي العامة هذه.

إنّ أية خطوة تظهر في سياسة (الحكومة الاتحادية) اليوم تعكس مستوى التوازن بين إدارة أحزاب الطائفية وقيادتها للسلطة من جهة وتصدي القوى الإيجابية في المجتمع لحال الانحدار والانهيارالكارثيتين. وعلى سبيل المثال، يجسد الكشف عن عشرات آلاف المنتسبين الوهميين (الفضائيين) في الإدارة العامة \ الجيش والشرطة، خطوة أو مفردة صغيرة لا يمكنها أن تكون أكثر من فعل ترقيعي أمام (نظام) شامل للفساد يمتلك عملا مؤسسياً واسعاً ومتجذراً وهي خطوة إن أحسناّ النية في قراءتها فلن تكون أكثر من إشارة ثانوية لا تمس جسم الفساد الذي بات يسيطر على مجمل مفاصل الدولة.

إنّ فكرة معالجة ظاهرة (الفضائيين) بمختلف أشكال وجودها، لا تقف عند حدود رفع تلك القوائم الفلكية من على كاهل الميزانية ولكنها يجب أن تتجه إلى حيث استكمال الأمر جوهرياً بدراسةٍ نوعيةٍ جدية تتعلق مثلا بقراءة حجم طبقة الكربتوقراط ومواقع تمركزها واتصالاتها وانتماءاتها الحزبية وارتباطاتها المحلية والخارجية ومن تلك الارتباطات العلاقات المافيوية المشبوهة طبعا بالاستناد إلى المهمة الأشمال للكشف عن العامل السياسي في لعبة الفساد ومن يديره، ففي عراق اليوم باتت هذه الطبقة تتسيد وضعاً مشوها (بنيوياً) وتمتلك أبعد آليات التحكّم.

فلديها اليوم السلطة بمجملها لم تتخلَّ عنها وتمترست كي توقف احتمال التغيير السياسي المستند للإرادة الشعبية ولانتخابات نزيهة ففصَّلت قانونها على مقاسها وكان لها ما أرادت. وفي الحراك المؤسسي غيرت بالأوجه لكنها لم تغير بالحزب وهو الجهة الطائفية التي مارست وتمارس تملك السلطة والكرسي كونه غنيمة أُخِذت ولا يمكنها التنازل عنها؛ في وقت  تلتقي تلك العناصر وطبقة الكربتوقراط أو حتى تمثلها وتجسد وجودها. إنّ تغيير الشخوص لا يعني قطعاً تغيير جوهر السياسة ورؤاها ومن ثمّ فإنّ التجربة العراقية مازالت بهذه الحقيقة بالاتجاه الذي أدى إلى مآسي اليوم.

وعليه سيكون الكشف عن المستفيد المباشر وغير المباشر من وجود لعبة الفضائيين ومقاضاتهما وإنزال العقوبات الرادعة مع الشروع في جهود استعادة ما تمّ نهبه بوساطة هذه الآلية من آليات الفساد، نؤكد سيكون التأسيس لضرب كل آليات الفساد. فالفضائيين ليسوا وجودا لاعبا بإرادته وهم ليسوا سوى أرقام وهمية إذ اللاعب هو من يقف وراء هذا الإيهام ومآربه. وتجاوز ما تمّ سرقته وعدم محاسبة من قام بالجريمة يمنحه فرص مزيد من العبث والارتكابات ويُبقي على نظام كلبيوقراطي بآليات الاشتغال.

إنّ شخصية الفساد وسلطتها تحتمي بسلطات، ليس كرسي المسؤولية الحكومية إلا أحد تلك السلطات. فيما بات المال والسلاح أداتين خطيرتين بين يديه. لكن الأخطر هو من يوضع بين يديه السلاح لحماية الفاسد وفساده.

إن استغلال عناصر الفتية والشبان المغرر بهم بالاستناد لشيوع فلسفة بعينها واستفحالها في الوسط العام هو ما يوفر جنود انتحاريين للفساد. إذ أن الوعود بالجنة وبعالم بديل يعوض الرغبات والحاجات واختلاق البعبع المُهدِّد هو ما يدفع تلك المجاميع من الشبان للالتحاق بميليشيات حماية نظام يظنونه الحل الوحيد لمشكلاتهم أو يخضعون له بسطوة الواقع المصطنع بهذا الاتجاه...

وإذا كانت ظاهرة الفساد بالأساس تولد من عاملين، هما الموضوعي والذاتي: فإنّ الأول متأتٍ من البعد الاقتصادي بقوانينه المركبة حيث تتسبب ظاهرة الفساد بالخلل في تلبية المطالب والحاجات الإنسانية بمعدلها العام فتهبط به تحت مستويات الخطوط الدنيا المقاسة أو المقدرة في ضوء دراسات علمية لقوانين الإنتاج وعلاقاته.. وهذا ناجم عن طابع تلك القوانين الاقتصادية الفاعلة وهوية البنى السائدة كما أشرنا؛ والعامل الثاني هو ما قصدنا التوقف عنده أي العامل الذاتي بالتوكيد على مرجعية الإرادة المتحكمة بالسلطة المجتمعية..

وربما فاقمت حالات الحروب والكوارث الكبرى الأزمات التي يتعرض لها الإنسان أو العامل الذاتي، ففي وقت تشهد طبقة الكربتوقراط حالات الرخاء والبحبوحة التي يحياها تجار الحروب والقابعون في بروجهم البعيدين عن أية مظاهر “سلبية” تمسَّهم حيث تفاقم النهب والسلب؛ فإنّ الأغلبية المستغلة يثار عندها أشد الآثار النفسية والاجتماعية. الأمر الذي يدفع نحو الانشغال في تحصيل لقمة العيش العصية حتى لا يكاد المرء يرى عائلته ونفسه بسبب استغراقه في كسب رزقه وقوت عياله وينجم عن هذه الوضعية موقف التخلي عن المشاركة الاجتماعية أو المساهمة في الأمور العامة أو في اتخاذ موقف محدد ودخول مجال الفعل العام

إنَّ حالة تخلي الفرد من العامة عن المشاركة الاجتماعية وظاهرة السلبية تجاه المساهمة في الفعل الإصلاحي العام يعود لشعور عميق بتخلي المجتمع والآخرين عن الفرد نفسه.. وفي أجواء كهذه ومزيد تعزز منطق الفردنة والعيش للتمترس حول الأنوية مترافقة مع الشح في الحاجات وتفاقم الأزمات والضغوط تولد مع هذه الظواهر هزيمة روحية تتجه للماورائي والغيبي وإلى التعويض بوهم لم تفرضه ديانة من قبل

وخلف هذه الغيمة من حجب العقل ووضعه في قيود مرضية يتم المتاجرة بالعناصر الأكثر هشاشة وتجييرها لمآرب الاحتراب والاصطراع في توزيع الحصص والغنائم وتجييش تلك العناصر حمايةً لطبقة الكربتوقراط. وعليه فالقضية تصبح في حال شرذمة للوجود الاجتماعي وتشظٍ للمكونات ووضعها بصيغة يُجابه بعضُها بعضاً.

إنَّ ما يعمق هذه الأوضاع السلبية هي حال غياب سلطة القانون من جهة وحال عدم تساوي الجميع في تطبيق القانون عليهم.. أي حال تطبيقه قاسيا صارما على الإنسان البسيط وإفلات المسؤولين الكبار من طائلة المحاسبة القانونية تحت خيمة التجاذبات والتوازنات في مراكز السلطة والقرار… وأولوية تبادل التنازلات لمصلحة توزيع المناصب والوظائف على الأداء القانوني المؤسسي الذي يحترم مبادئ الدستور ومفرداته ومصالح الناس

إنّ هذه الحال تبرر استمرار المفسدين وطبقتهم في فعاليات فسادهم ولن يقف الأمر عند تبرير فعل الفساد بل في مزيد تمترس حول فئة اجتماعية سطت على الأوضاع وصار نفوذها مطلقا في زمن صار الجاه لرأس المال وليس لرأس الحكمة (العقل ومنطقه ومن يمثله من العلماء والأساتذة) حيث يجري شراء الذمم وابتياع المكانة والمنصب ولكلٍّ ثمنه

ويزيد الفساد إيغالا عبر طابع العامل الذاتي وما يوفره من إرادة سياسية متحكمة في سطوته وسلطته أننا صرنا أبعد من التعاطي مع المفسدين وتقبلهم والتعايش معهم، نخافهم ونخشاهم لأنهم إن لم يكونوا اليوم في منصب يهددنا في عيشنا ورزقنا فسيكون عبر ارتباطاتهم وشبكة وجودهم التي نضجت مجتمعيا!

إنَّ مشكلة التقبل الاجتماعي أخطر من الفساد ذاته لأنه يمثل الحاضن والينبوع المستمر للفساد، وكلما بترت أو عالجت جزئية أو بؤرة وُلِدت أخرى؛ وعليه فلن تكون إزالة قائمة فضائيين محدودة حلا لأنها في الحقيقة مجرد مفردة أو نافذة صغيرة بين نوافذ عمل قوى الفساد ووجودها المؤسسي الشامل..

وفي الحقيقة يأتي هذا المرض من عقود ممتدة من التشويه الذي أصاب مجتمعنا ومن حال التضليل التي أدت إلى فقدان قيم الالتزام الاجتماعي والضوابط الأخلاقية العامة وسلطة التقاليد الإيجابية منها تحديدا.. وما كان عيبا يوما مضى كان ضابطا يخشى الفرد منه على سمعته وكان للحكيم مكانته ووجاهته وكلامه قانون يلتزم به الجميع وهكذا كان الفاسد والفساد محيَّدا أو محاصَراً هو الذي يخشى الظهور ويحيا في الظلام مذعورا من الفضيحة والعيب بخلاف ما يسود الآن..!

إنَّ عمليات التغيير الاجتماعي العميقة في الحياة العامة لمجتمعنا سواء بشأن نموه وتطور وسائل الانتاج فيه وطبيعة الخطاب الفكري الاجتماعي أم بشأن مجاراة المتغيرات القيمية الإنسانية عالميا، إنها جميعا لم تصادف نهجا استراتيجيا ملائما يقرأ طريق النجاة ومسيرة البناء والتقدم. وعليه ففي وقت يجب أن تحتفل فيه قوى التقدم في البلاد بما يمكن إنجازه وانتزاعه من إيجابيات ينبغي في الوقت ذاته أن تتذكر أن الحلول لا تكمن في تلك الجزئيات الصغيرة العابرة بل في التغيير الأشمل الذي يلزم التحشيد له عبر تركيز على توسيع جماهيريتها تمكينا للعامل الذاتي من وعي الحقيقة كاملة واضحة..

إن العراقيين الذين يعانون من هجوم شامل لقوى الإرهاب وأرضيته الطائفية يدركون أن نظام الفساد هو بوتقة كل من الطائفية والإرهاب في جرائمهما ومن ثمّ يدركون أن متابعة الخطى للتغيير منتظرة استراتيجيا لا تكتيكيا مع إدراكهم للترابط بين البعيد الاستراتيجي والتكتيكي الجزئي هنا.

لا تركنوا للجزئي المنتزع بل ابنوا عليه بما يزيد من خطى التنمية الجوهرية الشاملة... وحددوا الموقف في ضوء الإدراك الأعمق والأشمل.