حول هجرة العقول العلمية خارج الوطن

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

tayseer54@hotmail.com

 

 

 

في لقاء قصير لي مع قناة الحرة العالمية، أجبتُ فيه عن أسئلة للإعلامي ليث العطار والإعلامية نبيلة الكيلاني في برنامج (اليوم) وكان ملخص الأسئلة هو كالآتي: كيف تقرأ ظاهرة العقول العربية وابعادها عي برأيك  الأسباب والدوافع التي تقف وراء ظاهرة هجرة العقول العربية؟ ولعدم توافر الوقت لم ترد مفردات كثيرة من سياق هذه المعالجة هناك بأمل نشرها هنا خدمة للمتابع كونها ماد\ة تمسّ قضية حيوية وخطيرة في حياتنا.

 

ظاهرة هجرة العقول العربية هي نزيف للقدرات وطاقات البناء وإدارة مسيرة التقدم، حيث تتضمن خسارة جدية عميقة في استثمار تلك الطاقات وطنياً محلياً. وإذا ما نظرنا ماديا للموضوع فإنّ ما يعادل حوالي 200 مليار دولار سنوياً هي خسائر بلدان المنطقة بسبب تلك الظاهرة المرضية الخطيرة. حيث يهاجر سنويا حوالي 100 ألف من العلماء من ثمانية بلدان أبرزها لبنان وسوريا والعراق ومصر ثم تونس والمغرب والجزائر. وفي تسعينات القرن الماضي وبأقل من عقد من الزمن هاجر 10 آلاف عالم عراقي البلاد لظروف معروفة وفي العقد والنصف الأخير وقع منهم ضحية التصفيةالجسدية آلافاً أخرى واضطر عشرات الآلاف للهجرة الاضطرارية، وجابه حملات التمييز والابتزاز مَن حاول العودة على أساس محاولته المساهمة في بناء عراق جديد مختلف المسار وتعرض ويتعرض آخرون للاستغلال الهمجي الأبشع!

والخطورة الأبعد بهذي الظاهرة، تكمن في نسبة هؤلاء إلى حجم الطاقة العلمية وطنياً، وحجمهم إلى مجموع المهاجرين من  تلك البلدان؛ إذ نرى أنّ النسبة تقارب الـ98% في الصومال و39% في لبنان، و17% في المغرب وحوالي 12% في تونس فالعراق وجيبوتي والجزائر و7% في الأردن وفلسطين وسوريا.. ولا يعود من المبتعثين للدراسة إلى بلدانهم سوى 5% فيما نصف حجم الكفاءات [50%] هم من يغادر تاركاً بلاده المضطربة.. وتساهم بلدان الشرق الأوسط \ العربية بنسبة ثلث ظاهرة هجرة العقول العلمية من الدول النامية إلى الدول المتقدمة وبأكثر من نصف نسبة الأطباء وربع نسبة المهندسين!

إنّ هذه الأرقام فلكية خطيرة نسبة إلى الواقع المرير والمعاناة ونسبة إلى معنى الجهد والتكاليف الأعمق من مادية، في تكوين المجتمع للعقل العلمي وإعداده. إن الكلفة الزمنية تعادل مساحة جيلية عريضة متعددة، بما يعني العودة لمنطقة أقدم من نقطة الانطلاق الصفرية مطلع القرن الماضي عندما بدت أولى بوادر النهضة، حيث ستحتاج بلداننا اليوم، لردم (الهوّة التكنولوجية) الغائرة بظروف استثنائية كثيرة العقبات والتعقيدات المرضية.

 

على أننا يجب أن نقف طويلا أمام هذا الأمر لنبحث في الأسباب والدواعي بجدية وبمعاجلة ومسابقة للزمن. فمعركة مجتمعاتنا ليست حصراً على معركة بندقية مع قوى الإرهاب وقضايا الأمن والاستقرار بل هي بشكل أوسع وأعمق معركة مع قوى التخلف والسير بطريق إزالة الجهل والفكر الظلامي المعشعش.. هذا بالضبط ما نعني به بقولنا: ضرورة المسارعة في جهودنا وحزم أمرنا والالتفات إلى هذه القضية الحيوية، قبل أن نصحو فلا نجد غير سيادة العتمة والخراب. وعلى وفق دراسات موضوعية عديدة فإنّنا يمكن أن نلخص جانباً من أسباب الظاهرة متمثلا بالآتي:

1.  إن البيئة الموجودة هي بيئة طاردة للعقول العلمية  لها. وهذه السمة تتأتى من تراجع مكانة الشخصية العلمية وتراجع الاهتمام المجتمعي بعامة، لصالح ظواهر مرضية فاسدة، في إطار سيادة الأمية والجهل وآليات مجتمع التخلف.

2.  اضطراب الأوضاع العامة، حيث:

أ‌.      تعطّل مشروعات البناء، زراعياً صناعياً والشلل الشامل للدورة الاقتصادية لجملة أسباب متنوعة مختلفة.. وأكثر من ذلك فأغلب تلك البلدان تنحدر في واقعها نحو خراب متسارع النتائج من قبيل زوال غابات النخيل في العراق بدل تكثيرها ورعاية الموجود وزوال بساتين الحمضيات والأشجار المثمرة واعدام الأحزمة الخضراء حول المدن وفي إطارها! مع مشكلات كبيرة وتخبط بمشروعات المحاصيل الاستراتيجية وخطط استثمار المياه والدفاع عن حصص البلاد في الإطار الإقليمي المشترك مع الآخرين، ومثل هذا كثير مما يجري تعطيل القدرات العلمية عن تفعيل معالجاته فيه!

ب‌.     اضطراب الوضعين السياسي الأمني بشكل مترابط وتفجُّر الأمور بمظاهر الحرب الدموية المسلحة على جبهات معارك بعدد من البلدان كما في العراق وسوريا وليبيا، فضلا عن ظواهر الاغتيال والتصفية الدموية الموجهة إلى كوكبة العلماء والمتخصصين من الكفاءات، مما جرى في إطار النزاعات الجارية ابع الأوضاع المستجدة.

3.  عدم توافر الأولوية المناسبة والاهتمام الرسمي إلى درجة أن المساهمة في شؤون التعليم لا تتجاوز ما بين 0.04% إلى 0.3% من الدخل القومي لهذه البلدان بمقابل نسبة قد تصل ببلدان التقدم إلى 5%. وفي وقت تصرف سويسرا على التعليم الأساس ما مقداره 12ألف دولار سنويا للفرد لا يتجاوز هذا في مصر مقدار 170 دولار سنوياً ومعدل الإنفاق على التعليم العالي هنا يقارب بأفضل أحواله 721 دولار سنوياً بينما يتجاوز الـ10000 دولار في الدول المتقدمة. فكيف يمكن أن تكون العناية الفعلية بالتعليم في وقت يدرس طلبة التعليم الأساس بمدارس طينية بل في العراء ببعض البلدان، كما في جنوب العراق راهناً!

4.  ولابد هنا من لفت النظر إلى عدم توافر البنى التحتية المناسبة لا للجامعات ولا لمراكز البحوث فيها وخارجها بمؤسسات الدولة والقطاع الخاص أيضا. إذ لا توجد ميزانيات محددة للبحث والتنمية والتطوير. ولهذا فإن مقدار المنجز البحثي لهذي البلدان يساوي 15ألف بحث بمعدل 0.3% ثلاثة بالألف من المنجز العالمي وطبعا عدا عن هوية البحث والتخصص فيه ودرجة الابتكار. منبهين أيضا إلى أن حجم الباحثين إلى طاقة العمل لا يعادل أكثر من 3.3 باحث من حاملي الدكتوراه والماجستير لكل 10آلاف من طاقة العمل!

5.  المشكلات والتعقيدات الإدارية والبيروقراطية وكذلك النظرة الفوقية وحال المصادرة للحريات البحثية ولسلطة القرار من قبل السياسي. إذ الأخير يمارس مهامه بآليات مستبدة تجاه العالم مثلما تجاه العموم. وآليات اشتغال المؤسسة الرسمية برمتها لا تمنح للعلماء فرصة الحراك المنتظر وما تتطلبه اشتغالاتهم من صلاحيات.

6.  غياب سياسة عامة موضوعية وعدم توافر استراتيجيات عمل بخصوص تفعيل التعليم وأدواره وطاقات العلماء. وطبعاً في الإطار غياب برامج الربط المناسبة بين الجامعة والحياة اليومية أو المراكز البحثية وقطاعات العمل والبناء...

7.  وفي إشارة جد خطيرة ومهمة يجري تغافل الكفاءات العلمية في تخصصات العلوم الإنسانية وتهميشها فتُرمى إلى سوق البطالة المهاجرة فلا هي بموقع العمل ببلدان التكنولوجيا ولا هي بخدمة مجتمعاتها الأم. بينما هذه التخصصات هي خالقة للبيئة من خلال بنائها الوعي المعرفي والثقافة التنويرية. وهي المقابل الموضوعي لحال سيادة التوجهات الظلامية وسيادة الخرافة ومنطقها وآلية التفكير الأسطوري بحطابها البياني على حساب الخطاب العلمي. فيقع المجتمع بمزيد من حفر قوى الظلام ومغاور الجهل والتخلف.

إنّ تسليط الضوء على هذه الظاهرة لا يمكن أن تنجلي كل أبعاده إلا عبر مؤتمر سنوي ومجلس قومي للتعليم العالي مع اهتمام بالجمعيات الأكاديمية وعضويتها ومفردات إحصاءات ومتابعة لمسارات الكفاءات العلمية كافة. ومن ذلك الأوضاع المأساوية التي آل إليها وضع كثير من تلك الطاقات بسبب من الظروف المزرية التي تحيط بهم، بخاصة عندما تصادفهم البطالة والمحاصرة وتغيير التخصص للعمل من أجل لقمة العيش في تخصصات بعيدة كل البعد عما صرفته شعوبهم عليهم من إمكانات تضيع ه\را على مذابح التعطل والتبطل في محيط البحث عن إنسانيتهم والأمن والأمان لعوائلهم.. وكثيرا من تلك الطاقات توفيت وغادرت الحياة في زوايا النسيان والحصارات المرضية بلا رعاية وبلا من يسأل عنهم. وغذا كان بعضها جرى تكريمه في المهجر بالعمل بتخصصه فإنه مع ذلك يرحل بصمت يطمس اسمه في بلاده الأم ويسلبه وورثته حقوقه.. وتلك قضايا أخرى ينبغي الالتفات إليها.

إنّ التغيير في بلداننا الشرقأوسطية لا يمكن أن يتم من دون خطى استراتيجية ودراسات معمقة تمنح الأولوية للتعليم بعامة وللتعليم العالي بخاصة وبإطارهما لخطى البحث العلمي وربطه بالمجتمع وبرامجه العملية الميدانية. كما إنّ علينا وضع الدراسات والبحوث وما تقدمت به من توصيات موضع التطبيق والاستناد إلى رؤية العقل العلمي بمسار الفعل الحكومي وجهود الشأن العام، ولربما كانت حكومة التكنوقراط حال ضرورية اليوم في تناول أمراض مجتمعاتنا بالعلاج. ولعل من ذلك وقف ظاهرة ساهمت بها بعض الجهات الإعلامية عندما تأتي بشخوص للواجهة لسألهم عما ليس في تخصصهم سواء في العلوم السياسية الاقتصادية أم العلوم والتخصصات الأخرى! وفي حياتنا العامة يدلي من هب ودب بتوصياته في كل الموضوعات ويجادل سفسطائيا العلماء والمتخصصين بمماحكات جهل ليست سوى لضياع مفهوم احترام التخصص ومنجز العقل العلمي بميادينه..

هذه مفردات عامة تنتظر معالجات دقيقة في أبوابها.. فهلَّا اتخذنا قرارنا سريعاً وفكرنا في أنّ مرجعية مجتمعات اليوم هي مرجعيات العقل العلمي ومنجزه البحثي وتطبيقات نتائج تلك الطاقات وجهودها التخصصية!؟