أمراض العصبية التي تعترض الهوية الوطنية

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  02 \ 05

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

قبل قرون كانت العصبية القبلية رابطة حيوية لمجابهة حاجات الواقع المنطوي على وجود القبيلة تشكيلة تاريخية مستجيبة للظرف الإنساني الخاص. ومع تطور المجتمع البشري جرى العمل من أجل إنهاء هذا التكوين الاجتماعي الذي لم يعد يستجيب للتطورات الجذرية في المجتمع الإنساني الجديد.

لقد كانت العصبية من أخطر أمراض الوجود القبلي  تلك؛ وكانت وما زالت حقيقة من الانغلاق والانفصام والتشرذم الذي يمزق المجتمع المتحضر. إلا أنَّها مع ذلك ظلت محتفظة بقوة وجودها وإنْ اهتزت تلك القوة وضعفت.. أما لماذا؟ فمن الصحيح القول حيثما كان التخلف الاجتماعي وحيثما جرى تنشيط بقايا القبيلة وتصنيعها كان الأمر أدعى لتخليق مفتعل للعصبية؛ هذا فضلا عن قوة العادات والتقاليد من جهة التمسك بها خطأ وعشعشتها في سلوك بعض الناس وأفكارهم ورؤاهم...

وزيادة في مقاومة العصبية وتمسكها بأذيال البقاء لمدة أطول عبر دعم قوى الجهل والظلام, فإنَّها تتمظهر بأشكال جديدة. ففي الماضي البعيد انعكست  في دفاعها عن قيم القبيلة ولكنّها اليوم تدافع عن عصبية لأرضيات أوسع من نمط العصبية لطائفة. والفرق بين التحبب والانتماء لطائفة وبين التعصب لها بيِّن واضح, فالانتماء يقتضي الدفاع عنها بما يفضي لتطورها وتعاطيها مع الموضوعي والإيجابي بينما التعصب يؤكد عاطفة عمياء صماء لا ترى الآخر ولا تسمعه ولاتأخذ عنه أو منه ما يفيد تجربتها بل هي لا تكتفي بذلك وإنَّما تندفع عبر تلك العصبية إلى التقدم بالطائفة على حساب الطوائف الأخرى ووجودها وحقوقها...

وتتمظهر العصبية المعاصرة أيضا في الشخصية القومية بخاصة عندما يوجد في بلد واحد كالعراق عدد من القوميات المتآخية بينما العصبية القومية تخلق الانغلاق والتباعد والانشطارات  وبغضاء العداء والتقاطع والاصطراع. ويجري التعاطي مع القومية الأخرى من مصالح ضيقة تقوم على عصبية مرضية لا تخدم في جوهرها المصالح الحقيقية للقومية ولكنها تدعي التعصب لها بما يثير الاحتكاكات الدموية أحيانا بالعودة لمثل هذه العصبية المعاصرة..

وهناك عصبيات عرقية أو أثنية بما يتعارض مع مصالح الآخر في التقسيم المعين. والخلاصة فيها جميعا وضعها المجموعة المعنية في تعارض مع المجموعات الشبيهة الأخرى وتعمل في مسار أخذ حقوق على حساب حقوق الآخر النظير ولا ينتهي مسلسل التقاطع والاحتكاك والتضاد إلا بانتصار قوة على أخرى واستلابها حقوق الوجود الإنساني القويم...

كما تشكل النتيجة من العصبيات المعاصرة حالة من التعارض مع تثبيت الهوية الوطنية. فالأصل في الخاص انتماؤه للعام وليس تعارضه معه لأنَّ منطق الحياة يكمن في التكامل والوحدة والتعايش  وليس العكس. فالعراقي مثالنا هنا لم يكن عبر التاريخ  موجودا إلا بهذه الصفة [صفة الهوية العراقية] ولم يقدَّم بصفة جزئية منفصلة فليس من حديث عن سني أو شيعي أو مسيحي أو أيزيدي أو عربي أو كلدوآشوري أو كردي أو تركماني أو أرمني, ليس من حديث عن أيِّ ِ من هؤلاء منفصلا عن توصيف هويته الوطنية العراقية حيث نجد القواسم المشتركة عميقة الأثر والوجود في الشخصية العراقية...

العراقي يحمل خصائص بلاده من الحضارة الإنسانية المتفتحة وعمقها التاريخي وخصائصها التنويرية.. وبعد ذلك تأتي خصوصيات وتفاصيل تالية تتعلق بتكوينات اجتماعية وقومية وعرقية ومذهبية دينية ولكنها جميعا تنصهر في البوتقة الوطنية بوضوح ملموس لا في التسميات والادعاء وإنَّما في سمات ملموسة يمكن تبيِّنها بدراسة الشخصية العراقية..

وما نريد التركيز عليه في مقالنا ليس البحث في تلك الماهيات وخصائص الهوية فيها ولكن ما يهمنا هنا الإشارة لمخاطر العصبية من أية أنماط مرضية تتمظهر فيها وبالتحديد مخاطرها على الهوية الوطنية وعلى وجود الشخصية الوطنية وقيمها المشتركة وأشكال تمظهرها الملموس بدلا من الانشطارات التي تمزق ولا توحّد.. ثم ما قيمة هوية العصبية وضيق الأفق حيثما لا تجد لها ظهيرا يسندها أمام القوى الأخرى في عالم يسود فيه الأقوى ومنطقه على الضعيف وفلسفته الظلامية التي أوجدته طارئا على زمنه وعرضا من أعراضه السلبية المريضة...

إنَّ أصابع أجنبية إقليمية ودولية يهمها أنْ يكون العراق وشخصيته أو هويته الوطنية عرضة للتفتت والتمزق والتشظي لكي يسهل عليها اختراقه ومعالجة فئاته وقواه ومكوناته الوطنية بما ينسجم مع رغباتها وأهوائها ولن ينفع بعد السماح لمثل هذه التدخلات أنْ نكتشف الحقيقة بعد استفحال المرض فينا إذ السماح للعصبية أنْ تتمكن منا لا يمكن إزالتها بعد ذاك إلا بتعقيدات وخسائر مضاعفة..

لذا صار لزاما على العراقي أنْ يقدِّم تشخيصه لهويته الوطنية على كلِّ ما عداها من خصوصيات وألا يوغل في عصبية لفئة أو طائفة أو مذهب أو دين أو قومية أو أيّ تصنيف خصوصي آخر؛ إذ الإخلاص لفئة عراقية يقتضي إيجاد الهوية الوطنية القوية الراسخة المتجذرة بعدها يمكن لكل العراقيين أنْ يجدوا فرصهم الكافية الوافية للحياة على وفق ما يريدون ويرون ويرغبون وبخلافه لن يجد طرف منّا فرصة ولو صغيرة للحياة عندما نترك هويتنا الوطنية ضعيفة وننصرف للتشاحن أو التسابق لاقتسام العراق بين عصبيات معصرنة ولكنها ستظل على الرغم من كل عصرنتها ضيقة الأفق تشل التعاطي مع وجودنا القويم الصحيح المتين الموفق...

ومما أرى في كتابات بعض رموز مكونات العصبية العراقية ميلها إلى التعرض للآخر من منطلق عصبيته والتقاطع معه وتسطيح الأمور لصالح هوية العصبية على حساب الهوية الوطنية ويفاخر كثرة منهم ويسلون السيوف لحرب طاحنة بين شيعي وسني وبين عربي وكردي أو كردي وتركماني أو كلدوآشوري وغيره وهلم جرا...

فهل مآ ل الهوية بعد ذاك التناضل السلبي المريض إلا الضياع والاضمحلال لصالح قوى أخرى تفكك بلادنا ومجتمعنا وهويتنا وتشظيها لتجعل منها كيانات هزيلة تابعة لا تضمن لفرد حق إلا حيثما خضع للقوة الفئوية الضالة.  فلم يبرهن التاريخ على ما سوى الظلم والضيم والاستلاب عندما يبدأ بمساندة العصبيات والانغلاق الفكري والعزل العنصري على أي منطق كان!

ومن عجب أنْ يجد لدى إنسان عاقل هوى مَن يجذبه إلى هلاكه وهلاك أبنائه فداء لمبادئ الخديعة والتضليل التي خُدِع بها أئمة أطهار عندما قبلوا بيعة جماعة وجاؤوا إليهم فقُتِلوا على أيديهم.. فلا يقبلنَّ عراقي تكرار الخديعة وليدرس بما يملك من عقل تلك الأباطيل المسماة خصوصية طائفية أو غيرها على حساب هويته الوطنية العراقية التي بها يعزُّ العراقي ويرتقي سلم عصره اليوم وغدا وليضمننَّ لأبنائه ذياك المجد بدلا من الشرذمة والضياع في أحضان مَن يضمر للعراقي الذل بتفتيته وإضعافه وهلاكه.. 

 

 

خاص بالكاتب العراقي   www.iraqiwriter.com

ألواح سومرية معاصرة      www.geocities.com/modern_somerian_slates

 

 

1