حاجزَي الخوفِ والانفلاتِ

بــيـن

المركزيةِ المطلقةِ  وفوضى العنفِ والمراهقةِ السياسية

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  02 \ 09

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

قبعَ في ظلِّ المركزيةِ المطلقةِ للسلطةِ الدكتاتورية وضع عام من الهلعِ وسطوةِ الخوفِ من الملاحقةِ والعقوباتِ شاملةِ السطوةِ والسلطةِ واستلابُ ليس حقوق البشرِ وحدَها بل طبائعَهم الإنسانية العادية. وفي ظلِّ جوِّ  الإرهابِ المشحون بأنواعِ التهديد من أبسطِهِ حتى أعقده, وفي جوِِّ من توقـّعِ أو ترقـّبِ العقوبةِ العمياء يسودُ لا الخوف والتردد حسب بل تسليم رقاب البشر  بالكامل بصورة تعيدُ إلى الذهن عصورَ العبودية بشكلها البشع.

تلك الصورة لا تعني أنَّ بعض العبيد لم يثوروا عبر تنظيم أنفسهم وترتيب أشكال الاحتجاج والتمرد؛ لكنَّنا ندري أنَّ مثل هكذا تنظيمات لم تتعدَ في الحجم بضع نفرات في تكتلات صغيرة محاصرة بأنواع المتابعات والملاحقات والعقوبات ومن ثمَّ فهي شبه مقطوعة عن جمهورها الحقيقي من جهة التنظيم وحشد قوى الفعل والحركة وتنفيذ  برامج التغيير.

ولكنَّنا لا نعدم رؤية بعض تلك التنظيمات السياسية المعاصرة بأشكالها وأيديولوجياتها وبرامجها السياسية التي لم تنقطع عن التأثير في جمهورها عبر وسائل الصلات السرية من توظيف المنشورات والصحف والأدبيات والإذاعات وغيرها. وهو ما كان له أثر إذكاء روح التمرد والثورة على الضيم والاستلاب الشاملين مما وقع على الناس عامة..

ومن الطبيعي أنْ تولـِّـدَ حالات التضاغط بين طرفي الصراع وكماشتيهما لدى الجماهير الواسعة ردود فعل  مختلفة فهي في ظل سطوة المركزية المطلقة تبدي شكلا من التظاهر بالاستسلام والخنوع؛ فيما تضطر لإضمار ما يعتمل في الصدور من غليان وحنق وحقد, يدعوه بعضهم الحقد المقدس تعميقا لقيمته الروحية ولتعزيز تمكنه من دواخل الناس لاستثماره في اللحظة المناسبة من الاصطدام بين الطرفين..

إذن ففي ظل الدكتاتورية ومركزيتها المطلقة ترى حالة من الاستقرار والهدوء المظهري أو الطافي على السطح.. وتسير أو تجري الأمور بتهادي وكأنْ لا شئ من الصراع  يحتدم تحت السطح. وتصوِّر قوى السلطة الأمور على أنَّها حالة من الرضى الجماهيري ولكنَّها لا تستطيع تسميته الرضى بأحوال الاستلاب والاستغلال. وإنَّما تضفي عليه عبر لغة التفكير الأسطوري (الديني في بعض أوجهه)  وآليته "البيانية", نقول: تضفي عليه إسقاط حب الناس لمركز السلطان (الدكتاتور الطاغية) فليس من حبّ يصل درجة القدسية وتسليم الرقبة وملكية أرواح البشر ومصائرهم من دون تلك القدسية التي تضفى على العلاقة بين الحاكم والمحكوم...

من هنا تأتي صفة الشمولية وإطلاق اليد اللامتناهي لطرف وسلطته, ومن هنا يتمّ إخفاء التناقض والصراع والتعتيم على عمليات الاصطدام والتناضل بين النقيضين, فيبدو الوضع على ما يطفو من وداعة وسكينة فيما آلام الناس وأحزانها والفتك بحيواتهم وجرائم إبادتهم والتعامل الوحشي الهمجي لا يبدو منه إلا أنين مكبوت مكتوم وصراخ صمت أخرس!!!

تلك هي صورة من المشهد الملتهب بلظى دكتاتورية الطاغية وأفعالها الإجرامية بحق الإنسانية وشعب العراق بالتحديد وهي صورة من وسط الحرائق المشتعلة والغليان الفائر, لكنَّها صورة ظلَّت مشوشة بفعل الدخان الأسود الذي لفَّ الحياة العراقية وطواها بعيداَ َ خلف عتمته وسطوتها ليقدِّمَ صورة بديلة شوهاء للطاغية وحاشيته والقصور والخدور...

اليوم لدينا الصورة واضحة المعالم حيث ينقشع الدخان الأسود ولكنَّ الغليان الذي في الصدور ينطلق ويطلق العنان معه لكلّ حالات الفوران والتمرد وأشكال الحقد وروح الانتقام التي بقيت مضمرة بالإكراه, مخفية بسلطة العنف والمصادرة.. ولأنَّ القوة المسيطرة تدافع عن سلطتها المهزومة فإنَّها تظل ممتلكة لعناصر فعل في صراعها وهي عناصر في ظل الهزيمة شبه منتهية أو في حكم المَيـْـتة غير أنَّ خطورتها تكمن في شعار عليَّ وعلى أعدائي حيث الطبيعة العدوانية المعادية للقيم الإنسانية تـُبرِز مخالبها لآخر مرة قبل إخلاء الساحة نهائيا وهي تحاول استثمار ما غرزته من تخلف وجهل وتراجع ومحو لفعل الموضوعية والعقلانية, إذ لم يتمّ تحييد العقل ومنطقه حسب بل جرى في ظل الاستباحة المطلقة الشاملة للإنسان وحياته وقف كلّ منطق المعقول ولم يتبق َّ إلا منطق اللامعقول في ظل السحق اللامحدود..

هنا تندفع القوة الطاردة ضد المركزية التي دام شدّها طويلا وانفرط أخيرا بهزيمتها وفي لحظة كسر علاقة التجاذب بين الطرفين حيث وصل الجذب من كل طرف باتجاهه حتى أشدّه ما جعل الانفلات هائلا عظيم الاندفاع.  فوجدنا أنفسنا فيما ضد المركزية المطلقة [للدكتاتورية] أيّ في لامركزية هائلة [للتحرر من سلطة الأولى واستباحتها] وبعض آثار ذلك التحرر انفلاتي تدميري لا يمكن السيطرة عليه ولا حتى وضعه تحت سيطرة منطق سليم بعينه...

وفي التطبيق السياسي تجد الجماهير الشعبية نفسها أمام حقائق التمرد [المطلق] على كل القيم الماضوية ومن تلك القيم الأحزاب والقوى السياسية التقليدية التي يُنظر إليها من زاوية فشلها في تحقيق الحريات طوال زمن بعيد ويضاعف المشكلة في العراق الجديد طريقة التحرر من النظام المطلق التي جاءت بفعل تدخل خارجي حطم فيما حطم لا النظام القديم بل ومعه كثير من الأسس السليمة التي انتمت إلى الناس ومصالحهم..

إنَّ جمهور الناس المنفلت من إسار عبودية قاسية يحمل معه كثيرا من أنفاس تربوية سلبية خطيرة من نمط روح الثأر والانتقام وردود الفعل الفوضوية والتخريب والتدمير في سياق تلك التوصيفات التي يحملها. ومع هذه السمات النفسية المتحوِّلة إلى قيم سلوكية ومفردات عمل حياتية يصادف وجود أمراض الطائفية والتخلف والجهل وتفكك الوحدة الإنسانية للمجتمع مع تمكّن قيم العزلة والفردنة والتمزق الاجتماعي..

 كلّ تلك المفردات تشكل عوامل دفع وتنشيط للانفلات والفوضوية ولردود الفعل السلبية وللحمق الذي تقدِّمه روح المراهقة السياسية لبعض القوى الناهضة الجديدة. ويتسم الوضع بكثرة تلك (القوى) والتنظيمات وصغر حجمها أو تبعثرها وتشرذمها؛ ومع ذلك فهي تظل في جانب منها عملية إيجابية وحركة صحية لمستقبل العمل المنظم في البلاد.

وحيث نركز هنا على جانب الفوضى في الوضع الجديد نشدِّد على الأمراض التي تشهدها الساحة الاجتماعية والسياسية وأرضيتهما الاقتصادية.. إذ تشهد الأوضاع عمليات مافيوية وعصابات منظمة تستغل الوضع  في اللحظة الراهنة حيث الانفلات الأمني الشامل هو الغطاء الفعلي للجريمة في آخر فعالياتها في زمن صار الاتجاه الأعلى شأنا وقوة هو التوجه إلى النظام الديموقراطي التحرري السليم..

ومن الطبيعي في الظرف الانتقالي المؤقت  أنْ نشير إلى عمليات انتقام وثأر وتصفية حسابات سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى الجماعات وبعض التنظيمات التي لا تمتلك خلفية أيديولوجية مناسبة لقيم التحضر والتقدم والتنوير بل تتيح طبيعتها السياسية وطبيعة برامجها فرصا مؤاتية للروح الثأري الانتقامي المشار إليه هنا..

وأخصّ بالذكر في هذا المجال تلك القوى التي ما زالت ترى في وجودها وفي نظرياتها القيمةَ الشموليةَ والحلَّ المطلقَ لكلَّ المفردات الحياتية, بخاصة منها القوى التي تقدِّم نفسَها ممثلة لسلطة [المقدس المطلق] على الأرض, عبر الادعاء بكونها ممثلة للنص الديني المقدس ولكونها صاحبة القراءة الأصح والأعلى لذاك النص المقدس ولسلطة مرجعيته؛ ومن تلك الأحزاب في العراق بعض أحزاب وجماعات التيار الديني أو الإسلام السياسي...

وتتداخل في الإطار روح العنف والثأر والانتقام مع محاولات ونوايا الإصلاح الاجتماعي والسياسي وتوجيه المجتمع بمنطق الوصاية والفوقية والتعالي حيث تلك الجماعات ومرجعياتها تمثل الوصي الجديد.. فبعد وصاية الطاغية وفلسفته تأتي اليوم وصاية ببرقع آخر وفي هذا الموضع تكمن الخطورة التي تتهدد أبناء الشعب حيث قيم التحرر والإصلاح التي يبتغونها تمرّ عبر عمليات تضليلية وشعارات وبراقع المقدّس في حياة الناس..

وتجري عملية محاولة سرقة جديدة وتاريخية أخرى لمطامح الناس. كما جرى في المرة السابقة حيث كانت قيم القومية وبطولات التحرير التاريخية والقضية المركزية وادعاءات تضليلية معروفة هي الذريعة.. واليوم تختفي الذريعة في عباءة مراجع دينية مزعومة تنفـِّـذ برامجها التضليلية باللعب على مشاعر الناس وصلاتهم الوطيدة بمقدساتهم, فيما يمكن فضح تلك الأباطيل والمزاعم والادعاءات التي تكاد تمرّ وتنطلي على بعضهم مستغلة أمراض الجهل والتخلف وتوقف المنطق العقلي لحساب منطق نقيض ومستغلة مواصلة الطرق بمطرقة العنف وإثارة القلاقل ومنع الاستقرار...

من الطبيعي في أجواء كهذه أنْ تسود لغة العنف والاقتتال والتصادم ومن الطبيعي أنْ تسود حالات الفوضى , ففي حالة القراءة الخطأ للوضع وفي حالة غياب المنطق العقلي  تغيب المعالجات الموضوعية وتتخبط قوى طيبة النيات من شبيبة اليوم بخاصة في وضع بين عمق الصلة وقوتها الراسخة بمصالح الناس من جهة وبين خطل البرامج والأفعال التي تستخدمها لمعالجة الوقائع الموجودة في المحيط وفي الظرف القائم بالفعل..

فتدخل البلاد في حالة من الفوضى العارمة التي تشجعها وتنشطها قوى لها مصلحة في إشاعة عدم الاستقرار وتلك الفوضى. وأخطر من ذلك تندس القوى المعادية لمصالح الناس في صفوف التنظيمات الجديدة دافعة إياها باتجاه التوتير أكثر وباتجاه ما يعرقل إعادة  بناء الوطن وإعمار الروح المنهكة المخربة.. وتزداد الأمور تعقيدا مع تواصل مسلسل الانفلات والفوضى والفعاليات الخاطئة.

ويمكن أنْ نذكِّر بمثال تشكيلات تسمي نفسها المقاومة الوطنية وفي أفعالها المندفعة التي لا تمتلك أية أرضية سياسية أو أية خلفية  لمعالجة أوضاع الناس فكل ما تمتلكه هو كونها قوة ترى في أفعالها ما يؤدي إلى إسعاد الناس وتحقيق مصالحهم؟! كيف ومتى يتحقق للناس بعض أحلامهم؟  ليس من إجابة لأنَّهم هنا يدركون عدم امتلاكهم لا لنظرية ولا لرؤية برامجية أو حلول سياسية وهم هنا يزدادون ضراوة في التفاعل مع الآخر حيث يلقون اللوم على السياسي والثقافي وعجز خطابيهما عن مواكبة فعاليتهم وتجييرها وتوظيفها للتقدم نحو الاستقرار!!

إذن بانقشاع المركزية المطلقة خرج من القمقم كمّ هائل من التمردات والاحتجاجات وردود الأفعال المتنوعة المختلفة وكثير منها واقع في إطار من الاندفاع غير المتحكَّم به ما يدخله في فوضوية ورعونة لا يكفي تسميتها بالانفلات وقد يكون البحث عن مصطلح مناسب هنا مهم لتشخيص الحال [وقد يكون مناسبا مؤقتا استخدام مفردة "الانفلاشية" للتعبير عن الظاهرة بخطورة فوضويتها وانفلات عقالها]...

تلك هي حال يتضخم امتلاءَ َ بفوضى العنف بما يعبر عن المراهقة السياسية أو عدم النضج وهي حال من حسن النية أحيانا لكنَّها التخريب وإيذاء الذات وتدمير واقعها المحيط بأفعال لا تنمّ عن عقلانية وموضوعية.. ومن الضروري هنا بمكان التوجه إلى هذه الفئات وتلك التجمعات بسياسة ملائمة تصل إلى أذهانهم وتكون مقنعة جاذبة باتجاه توطين الأنفس على معالم المعالجات الإيجابية البنَّاءة التي تتعاطى مع فلسفة مختلفة لتلك التي تركتها في الأنفس أزمنة الطغيان وفئاتها المتبقية التي تفعِّل في بقايا الحرائق وتعمل على استمرار اشتعالها..

ومن المناسب كذلك العمل على إطفاء نيران الحوارات الملتهبة وتهدئة أجوائها ووضعها في مساراتها العقلانية.. فلا حوار بلا هدوء ولا حوار بلا طمأنينة ولا حوار بلا تبادل ثقة ولا حوار في أجواء التصيـّد والثأر والانتقام ولا منطق وعقلانية وروح إنساني بنّاء بغير كلّ تلك السمات .. وإنّها إذن مسؤولية معقدة وصعبة ولكنّها مسؤولية لا مناص من السير في طريق أداء مفرداتها على الرغم من سلاسة التخريب بمقابل صعوبة البناء؛ فكيف إذا كان الأمر فيما يخصّ تخريب النفس والعقل في مقابل بنائهما!!

أما مَنْ يُطفئ الحرائق ويوقف حركة مشعليها فليس غير تفعيل أكبر في الظرف الراهن لأنشطة منظمات المجتمع المدني كافة على مستوييها الداخلي [داخل المنظمات وبين أعضائها إعدادا لهم وللمنظمات ووقفا للاختراقات ومخاطرها]  والخارجي في صلات تلك المنظمات جماهيريا وفي تأثيرها على المحيط الشعبي .. فمن غير صلات واسعة وطيدة وفاعلة  لا نفع في وجود منظمات عاجزة أو هياكل صماء شكلية تزيد تعقيد الأمور بتعميقها روح اليأس والاحباط أمام تواصل الفشل والتقاعس عن أداء المهمات الملقاة على العاتق في يومنا... 

 

خاص بعراق الغد     www.iraqoftomorrow.org

 

 

 

 

1