بديلنا الراهني

مؤازرة الحكومة وتطوير المجلس والاستعداد لغد أفضل

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  02 \ 09

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

صراع بين قوى العنف والسلام, بين أنصار الموت والدمار والاستغلال من جهة وقوى الحرية والسلم والديموقراطية من جهة أخرى. احتدم بكل الأشكال فبدأته تلك القوى التخريبية بأعمال العنف المسلح بحجة مقاومة الاحتلال ووسَّعت الدائرة وميدان حربها فبدأت تشمل قوى الأمن والشرطة العراقية وهي تستغل ظروفا معقدة باستمرار للتوسع أكثر باتجاه أهدافها الحقيقية. فنجدها اليوم تستهدف كل قوى مجلس الحكم ووزاراته التي ليس من مهمة لها غير أداء الخدمات الإنسانية لمجتمعنا العراقي المبتلى...

إنَّ قوى سياسية بدأت تصطف مع قوى العنف الدموية, وبدأ صوتها يعلو مستغلة تصاعد الحديث عن الانتخابات والشرعية وكعادتها تخلط الأوراق من أجل التضليل والتعتيم على الأهداف الحقيقية من وراء فعالياتها البائسة. ومن أنشطة الخلط تلك التي نشير إليها هنا: التركيز على وهم عدم شرعية المجلس, وتجتاحهم حمى الحرب المشتعلة ضد كل ما يتقدم بشعبنا نحو بناء مؤسساته وتكاملها واستقراره في ظل الانتهاء من استكمال البناء السلمي الديموقراطي للدولة العراقية الجديدة...

من هنا كان الحديث عن الانتخابات سجالا مَرَضيا في بعض أوجهه؛ ليس المقصود من ورائه التوصل لا إلى الانتخابات ولا إلى الديموقراطية ولا إلى شرعية مؤسسات الدولة المنتخبة من الشعب.. وتاريخ تلك القوى التي تتحدث بهذه الطريقة عن الانتخابات معروف تجاه استهتارها بأصوات الناس وبحقوقهم وبمصائرهم فما الذي حصل ليصيروا اليوم ديموقراطيين يبحثون عن الشرعية الانتخابية؟ أحقاَ َ هي ثورة داخلية نظَّـفت أنفسهم وطهَّـرت أرواحهم؟

في الحقيقة لا يمكن للعاقل إلا أنْ يرى في تلك التوجهات تعبيراَ َ عن سياسة  قمصان المصالح الآنية الضيقة؛ يبدلونها كيفما كانت الريح تتجه وكيفما فرضت الظروف نفسها عليهم, بما يصبُّ في الخاتمة في جعبة أهوائهم ورغباتهم ومطامعهم. ولابد هنا لكي لا يُستثار موقف الحوار الجدي الصادق بصدد الانتخابات ولكي لا نسمح لقوى خلط الأوراق من التسلل والتشويه, أنْ نؤكد على حقيقة وجود قوى الشعب الحية النزيهة في تلك المناقشة وذياك الحوار, وهو أمر منتظر منه أنْ يصل إلى الصحيح الصائب من القرارات بهذا الشأن..

إنَّ ما تمَّ التوصل إليه راهنيا يكمن في اللجوء إلى تحكيم قوى دولية في إمكان إجراء انتخابات أم لا؟ وسبق أنْ  تمَّ التحذير من مثل هكذا توجه إذ الأمم المتحدة وكل قوى خارجية يمكنها أنْ تقرأ الأوضاع من منطق التـَّماسّ مع نماذج استقصاء ودراسة وفيما يخص الدراسة والاستقصاء لا يمكن للقراءة الموضوعية المنصفة التي تتمّ في أجواء القلق والارتباك أنْ تأتي بنتائج صائبة دقيقة فيه.

وعليه كان لابد للقوى الوطنية المتحاورة أنْ تواصل اللقاء على أساس من النيات الصادقة التي توفر له [للقاء] التوصل لنتائج إيجابية متفق عليها بما يشبه الاجماع على أقل تقدير.. وليس من المنطقي لقوة وطنية أنْ تصرَّ على تحكيم أممي في مسألة يفترض للقوى الوطنية أنْ تكون هي الأقرب بل هي صاحبة القرار بشأنها. أما أنْ  يكون الحوار قد أجاب على كل تساؤلات طرف بعينه فلا يجد من منفذ لمواصلة الإصرار على موقفه إلا أنْ يلجأ بنا إلى التحكيم الأجنبي فهو إصرار لا يستند إلى منطق وطني أو حكمة حكيم..

ومع ذلك فحيث حضرت وفود قراءة الواقع العراقي ومدى استعداده الأمني وغير الأمني لإجراء الانتخابات فعلينا التوافق على حقيقة أنَّ ما يصدر عن تلك القراءات هي الأخرى ينبغي أنْ تخضع لمراجعة العراقيين أنفسهم لكي يأخذوا منها ما يناسب البلاد والعباد.. بدلا من الوقوع أسرى قراءات وفد من عدد من الشخصيات الأجنبية في شأن يبدو للمراقب عن بعد وكأنَّ العراق والعراقيين عجزوا عن الوصول إلى الحلِّ فيه وهو أمر غير صحيح..

فلقد توافق العراقيون على إعادة بناء مؤسسات دولتهم بمن فيهم قوى ليست حاليا في مجلس الحكم وهي مازالت تحاور بشأن الانتخابات وغيرها من الموضوعات بروح سلمي صحيح. والعراقيون بعامة يسيرون بخطى وطيدة لتطوير تلك المؤسسات على الرغم من كلِّ الثغرات التي صادفتها وستصادفها وهي ثغرات موضوعيا يمكن أنْ تحصل في أيّ بلاد وفي أي ظرف أو في أيِّ شكل آخر من الخيارات غير خيار مجلس الحكم ومؤسساته..

ولن تنتهي النواقص والسلبيات بمجرد خروج القوات الأجنبية كما يزعم بعضهم فيحيل مشكلاتنا بالمطلق إلى مسألة وجود تلك القوات وينسى كلّ معاناة أبناء الشعب الحياتية ويركز همَّه على القتال والعنف المسلّح لا غير.. وحين تحاوره في أمور الناس وحيواتهم يلقي بالمهمات الخطيرة التي ينبغي أنْ تـُقدَّم للناس على كاهل مؤسسات هو يقوم بعرقلة مسيرتها متذرعا بالحديث عن مزاعم الشرعية والمصداقية في أنشطتها..

إنَّ شماعة الشرعية ليست التعويذة السحرية لحلِّ مشكلات دولة كالعراق.. والمبادئ والشعارات والقوانين ليست أعلى صحة مواطن ومصيره وليست أهم من حياته.. إنَّ التصورات والآراء والمشروعات والقوانين والدساتير وما يلحق بها من مصطلحات الشرعية وغيرها إنْ لم تكنْ في خدمة الإنسان ومصالحه يجب وقفها وتغييرها حيثما تطلبت مصالح الناس ومطامحهم..

أما تلك الثغرات التي تتخلل أنشطة اليوم ومؤسسات المرحلة المعقدة التي نمضي بها فلن تنتهي بمجرد إجراء الانتخابات أو إعلان مؤسسات الشرعية الدستورية وتشكيل حكومة منتخبة.. فنحن بمجابهة مشكلات وأمراض تمكَّنت من واقعنا وعشعشت فيه بعد سنين طويلة ممتدة عجاف من تشويهات سلطة الطغيان والفساد. وهذا ليس تيئيسا وتعجيزا ولكنه قراءة واقع نعرف ما سيجابهنا فيه وما ينتظرنا من مهمات جدية صعبة ومعقدة ولكنَّنا نستطيع المعالجة حيثما كانت القرارات مستجيبة لمثل هذا الواقع وللحاجات المباشرة والأولويات الضرورية أو الحتمية في التناول والمعالجة..

هنا فقط يمكن القول إنَّ ما وصلنا إليه في اللحظة الراهنة هو مزيد من توكيد صحة الاتجاه الأول في التأسيس لتشكيلات الحكومة الوطنية وفي تطوير مؤسساتها الموجودة ومعالجة الثغرات فيها بالتدريج وبالمتاح والممكن, والممكن هنا هو ما يعكس مستوى التلاحم الوطني ومستوى الالتزام ببرنامج واقعي صحيح وصائب..

فحيثما استمرت بعض القوى تعمل لمصالحها الحزبية الضيقة وحيثما تصاعدت أعمال التخريب التي تستهدف مؤسسات الدولة وحيثما جابهت حركة المواطن وتعاطيه مع واقعه الجديد مصاعب من نمط استهدافه في أمنه وفي مصالحه وحياته, وحيثما تـَعـَقـَّدَ هذا المسار وحقق تقدما على حساب الحلول الموضوعية, حيثما جرى ذلك كلّه فإنَّ مؤداه هو فشل المشروع الوطني الصادق وتأجيل الحلّ على حساب الاستقرار وراحة الناس؛ وقد ندخل في وضع كارثي مأساوي لم يحصل في تاريخ البشرية من قبل وهو ما استطاعت قوى وطنية بجهودها أنْ تجنّب شعبنا إياه طوال الأشهر المنصرمة...

إنَّ الحل الواقعي اليوم  لايكتفي بتعزيز المؤسسات وتنقيتها, ولا يكتفي بمواصلة التطوير بل يعمل من أجل وضع التهيئة والتطوير والتأسيس للاحق, يعمل على الانتقال النوعي بالوضع من حالة ازدواج السلطات ومشاركة قوات التحالف في توجيه دفة الأوضاع إلى تشكيل حكومة وطنية مستقلة تأخذ على عاتقها إنجاز كلّ المهام اللازمة لوضع اللمسات الأخيرة للمرحلة الانتقالية وإنهاء زمن افتقادنا الاستقرار والوسائل الكفيلة لاحترام صوت المواطن ورؤاه في توجيه سياسة الدولة لمصالحه...

فمن حيث المبدأ انتهت المدة الكافية لإعادة التوازن للوضع العراقي العام من جهة انهيار الأوضاع والمآزق التي جابهت العراقيين منذ لحظة هزيمة الدكتاتور ومؤسساته التي تخلَّت في لحظة من الزمن عن أداء مهمات المجتمع المدني ونحن نعرف السبب الكامن  وراء ذلك متمثلا في عسكرة مهماتها وتركزها على خدمة الدكتاتور وليس أيِّ ِ من مصالح الشعب...

  فيما نحن أمام مهمات إعادة الحياة لمؤسسات المجتمع المدني لكي تأخذ دورها الكامل في توجيه الحياة العامة في البلاد. ولكي يكون القرار بوساطتها باسم الشعب ومصالحه ومطامحه العادلة المشروعة. فهل تأتي هذه الأمور من مواجهات مسلحة وعنف دموي ومن اصطدامات واحتكاكات سلبية بين أطراف الوجود الوطني؟

في الحقيقة لا يمكن استبعاد احتمالات التعامل بقوة وحزم مع بعض الظواهر المرَضية في الحياة العراقية الجديدة.. ولكنَّ ذلك لا يعني البتة الدخول في دوامة الحرب والعنف وبحار الدم والاقتتال.. وعلى القوى الوطنية والشخصيات القيادية بالتحديد أنْ تلتزم بعهد تجاه الشعب جوهره مزيد من ضبط النفس تجاه الاحتكاكات المتوقعة وبعض الاصطدامات التي تعبر عن مخلفات الماضي من جهة وعن تطلع من قوى دخيلة أو مشوهة لتأزيم الوضع لحساباتها الخاصة المعادية لتطلعات الناس..

إذن نحن أمام بديل التعامل مع أفضل الممكنات عبر دبلوماسية هادئة من جهة وعبر مزيد من الضغط على قوات التحالف من خلال القنوات السلمية المناسبة سواء بتوظيف مواقف الدول الأوروبية ومصالحها ومواقف دول كبرى أو مؤثرة أخرى ومنظمات دولية وإقليمية كالأمم المتحدة بطلب مزيد من تعاظم دورها ليس في المشاركة بالقرار بقدر ما هو الدفع لعودة السلطة للعراقيين أنفسهم بالكامل.

ولابد لنا من استثمار الوضع الداخلي وغليانه ومن استعداد قوى وطنية للتحول بأشكال العمل ضد قوات التحالف لكي تكون أداة من أدوات عملنا من أجل الغد الذي نتطلع إليه حرا مستقلا.. وهي حقيقة إذا ما تمَّ تجاهلها من قوة وطنية أو دولية فستصادف المرحلة التالية عقبات خطيرة تجابه الجميع من أبناء الوطن وقبلهم من قوات التحالف..

ولاستكمال الصورة فالبديل يكمن في تعزيز عمل اللجان والهيئات المختصة من أجل إقرار مواثيق وعهود وطنية تخص عمل الحكومة الوطنية الانتقالية وضوابط الإدارة ومهمات التأسيس للمجلس الوطني الاستشاري وهيأة صياغة الدستور بصيغته التي ستـُدفـَع للاستفتاء الشعبي العام والتحضير لهذا الاستفتاء بمساعدات دولية وإشراف وطني حقيقي واسع التمثيل يشمل كلّ الأطياف العراقية من دون استثناءات ووصايات من أية مرجعية كانت..

على أنَّ مثل هكذا أمور لن تتمّ بشكلها المناسب المقبول حيثما تركنا الميدان مفتوحا لشخصيات محددة بعضها ليس من العراقيين ولكنّه يشكل مرجعية فكرية أو دينية أو سياسية لقوى عراقية وبعامة هنا لا ينبغي إسقاط سلطة مضافة وشرعنة تدخل الشخصيات الأفراد مهما كان نوع مرجعيتهم بما يجعلهم يعرقلون مسارات الحلول الموضوعية التي يختارها الناس بأنفسهم.. بما أقصد هنا معالجة دور المرجعيات بحجمها الحقيقي وليس بحجم الإسقاطات التي يراها أو يفترضها بعضهم فيها من تضخيم مؤداه [سلبي] أكثر منه [إيجابيا]...

مشروعنا البديل هو في عملنا الواقعي الموجود على الأرض وليس الموجود في أذهان وخيالات وأوهام ومزاعم.. فكلّ تلك الرؤى أتعبت العراق وأنهكت العراقيين وبعثرت مفردات حياتهم بعيدا عن مصالحهم الحقيقية. ولن يوقف المسيرة ـ وإنْ عرقلها ـ  كلُّ تلك الأفعال السلبية لقوى التخريب ولن يوقفها حتى قوة مصالح إقليمية وأصابع أجنبية أيّاَ َ كان مصدرها فلقد اندفع مارد الحضارة العراقية وقوة موضوعية العقل ومنطقه عند العراقيين وهم يغذون السير إلى أمام بغير رجعة إلى وراء  حيث مواجع الماضي وأوصابه..

بديلنا الوطني [فقط] بحاجة للتفعيل والتنشيط وتشذيب عوامل العرقلة وقطع الطريق على قوى الردة والتراجع وعلى قوى العنف والتخريب ومعاداة مصالح العراق والعراقيين.. فهلا سارعنا أكثر لوقف إضاعة الوقت في تفاصيل أو في أمور ليست من مهمات المرحلة الراهنة.. وهلا سارعنا إلى العمل الجاد الفاعل كل بجهده المناسب وفي موضعه بما يعيدنا إلى حيث موقعنا الحقيقي من حياة مستقرة سليمة صحيحة ......

خاص بصوت العراق         www.sotaliraq.com

 

 

1