قطاع التربية والتعليم

الجدوى الاقتصادية الستراتيجية بين المشكلات والحلول؟!!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

              2004\  02 \ 09

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

بين الفينة والأخرى يخرج أساتذة العلم والمعرفة وبناة الحضارة في تظاهرة وجلة تتحدث عن الحاجات الأساسية لحيواتهم وحيوات أبنائهم وعوائلهم, ومن الطبيعي أنْ تكون مسألة الأجور المتدنية والضائقة المالية الخانقة التي يوضعون فيها بخاصة في الظروف الراهنة في مقدمة المطالب والحاجات. وقد أثارت مظاهرة أساتذة الجامعات قبيل مدة ردود فعل واسعة في الساحة العراقية لما للموقف الشعبي من هؤلاء الأفاضل الذين ينهضون بمهمات جليلة, من انعكاسات على حجم التأييد والدعم وأثره على الجهات المسؤولة مثلما حفزت تساؤت جدية بشأن جدوى دعم هذا القطاع ومردود ذلك في الظرف الاقتصادي القائم...

وإذ يعرف المخطِّط العراقي كون دعم هذا القطاع لا يأتي بمردوده الاقتصادي بشكل مباشر, فإنَّه في الوقت ذاته يجد في مردود عملية التعليم أهمية خطيرة وإنْ كانت ستأتي بعد مديات زمنية بعيدة وبشكل غير مباشر. فمن غير التعليم لا يمكن الاستجابة لأي عملية تحريك وتوجيه وإدارة لمفصل اقتصادي أو انتاجي صناعي أو زراعي أو ما شابه.. فالعامل البشري من الأهمية بمكان بخاصة في ظروف التطورات التكنولوجية حيث صار كلّ شئ يدور على وفق إمكانات علمية متقدمة. وإلا فإنَّ إغفال هذا العامل سيترك البلاد في حالة من التخلف  التكنولوجي بما يمنع من ملاحقة التطورات العلمية التكنولوجية ويبعد العملية عن التنافس في السوق العالمي وحتى المحلي في أجواء فتح الحدود وتخفيض التعريفات الجمركية ...

ولن يقف بعد ذلك الأمر عند عدم التواصل مع التطورات وضعف القدرة على المنافسة بل سيكون لعدم إعداد الكادر البشري أثره في إرباك الفعالية الاقتصادية والحياتية العامة في البلاد  الأمر الذي  ينهكها ويستمر في عملية تآكل وهزال حتى تأتي لحظة الانهيار الكبير مرة واحدة  بسبب الفارق الكبير والبون الشاسع المتولّد بين عالمين مختلفين ...

ولايمكن لحلول ترقيعية من نمط الاستعانة بالأيدي الأجنبية أنْ تحل المشكلة حيث ستجد البلاد نفسها أمام بطالة خطيرة لا يمكن لها معالجتها بسبب ضعف الإعداد.. هذا فضلا عما للعملية التربوية المرافقة للتعليم  في المدارس من أهمية على صُعُد التنشئة وتقويم الأخلاق وغرس القيم الإيجابية السامية من جهة التربية المدنية الضرورية في تعامل الفرد مع مؤسسات الدولة العصرية المتحضرة ومعرفته حقوقه من واجباته تجاه المجتمع وكيفية التعامل مع محيطه, هذا إلى جانب أهمية صلة المواطن بتاريخه وأصوله وقيمه الإنسانية من اعتقاد وفلسفة وفكر وسلوك.. وتلك جميعها مما لا يمكن استيرادها ولا يمكن التعويل فيها على جهة غير التربية والتعليم الوطنيين ومؤسساتهما فمردودهما الواقعي الحقيقي لايقف عند قيم الفضيلة والسلوك الإنساني ولكنّه يدخل في عمق التعامل مع التكنولوجيا انطلاقا من فلسفة المجتمع وتصوراته وليس على وفق ما تأتي من مصادرها الخارجية..

إذن فالقضية لا تقف في بعدها الاقتصادي على إحصاءات كمية انتاجية بقدر ما سيكون إضفاء خصوصية للتعامل مع التكنولوجيا تتعلق بطبيعة التركيب الاجتماعي وهويته الحضارية المعروفة .. وإلا فإنّنا سنجابه مشكلات اقتصادية جمة بشأن كيفية التعامل مع الآلة الجديدة وإدارتها.. وهذا ما نعالجه في هذه الكلمات .. وبالعودة إلى الرئيس في معالجتنا سنجد التعليم أساسا جوهريا في إعداد الكادر من جوانب حرفية مهنية ومن جهة قدرته على دمج التكنولوجي مع قيم المجتمع وتوجهاته. ومن غير مراكز الدراسات والبحوث لا يمكن التوصل إلى أفضل ما يرتجى من نتائج..

وعليه فتخصيصات قطاع التعليم هي واحدة من عمليات بناء الركائز الاقتصادية الكبرى والمحورية وهي من أبرز تلك الركائز إذ أنَّ شق الطرق وبناء الجسور ومحطات الطاقة والسدود والقنوات هي ركائز ليس لها مردود مباشر على المدى القصير ولكنها لازمة حتمية لتوفير قاعدة النجاح على المديين المتوسط والبعيد.. والتعليم هكذا يكون في مردوده البعيد من جهة وفي إضافات خطيرة تتعلق بخصوصية إعداد الكادر البشري وأهمية التفاصيل الملحقة بإعداده ودورها في التأثير على رسم توجهات الخطط الاقتصادية وتعميق فرص نجاحها..

و عراقياَ َ جابه التعليم انهيارا وشرخا  لايمكن معالجته في ظرف سنة أو سنوات معدودة فلقد تسرب من المدارس ما لايقل عن 40% من طلبتها وظل الآخرون في حالة من الإهمال حيث لم تكن المناهج تُستكمَل سنويا فضلا عن تجيير المدرسة لمصالح الدكتاتور السابق ونظامه.. وانشغل الموظفون الذين سماهم النظام الهيأة التعليمية بأمور لا علاقة لها بالدراسة والعلم وهم أنفسهم لم يكونوا مؤهلين لاحتلال موقع التدريسي فكيف ومَن سيتخرج من وراء هؤلاء؟؟

ولم تجر العملية التعليمية بكاملها على وفق أي أساس تربوي أو ضبط بحسب أعراف التعليم ومن ذلك سير الامتحانات والاختبارات اللازمة لتقويم تحصيل الطلبة ووصل هذا الأمر بشكل أكثر من خطير على مستوى الجامعة إذ تخرج في الجامعة حتى من مستويات الماجستير والدكتوراه أناس لا علاقة لهم بالعلم فكان هذا قاعدة الخراب الذي يفرض على الدولة العراقية الجديدة مهمة تصحيحه جوهريا ومن الأساس..

وطاول التخريبُ المنتظر معالجته الأبنيةَ التي أغفلها النظام والتي تهدَّمت في الحروب الكارثية الأخيرة والمختبرات وموادها التي ظلت محظورة لأسباب تتعلق بالعلاقات بين الحكومة العراقية السابقة ومحيطها الدولي.. هذا غير منع دخول المصادر العلمية الحديثة من الوصول إلى البلاد وقطع سبل التعاون العلمي. كلّ ذلك سيحتاج إلى قائمة عريضة طويلة من الرصيد المالي والتخصيصات اللازمة ...

ومن الصحيح أنْ يكون العراق بين خيارين التلكؤ في رصد التخصيصات الباهضة والتركيز على أمور أخرى ووسائل من نمط استقدام كوادر أجنبية... أو التخصيص المناسب, على ما له من حجم كبير, حيث يمكن  لدعم قطاع التربية والتعليم الاستناد إلى معونات اليونسكو من جهة والدول المانحة والصديقة وأقربها الدول العربية المجاورة فهي تمتلك أفضلية التماسّ المباشر والمشترك في مستهدفات التعليم مع العراقيين فضلا عن أمور تتعلق بالدعم المادي والسياسي لتوجهات الدولة العراقية الجديدة من محيطها..

ومؤقتا يمكن تخصيص مبالغ مناسبة لاستقدام عشرات ألوف الكوادر العلمية العراقية الموجودة في المهاجر وهو أمر ممكن ويعود بالنفع على تلك الكوادر وقبلها على الوطن والشعب سواء من جهة المردود المادي المختزل في الكوادر الجاهزة وتوفيرها فرص التعامل المباشر مع أحدث العلوم والتقنيات أم في خلق الصلات المناسبة التي تدعم توجهات المجتمع العراقي المتطلع للتغيير والتقدم...

إنَّ واقعية الاستجابة السريعة لمطالب أساتذة الجامعات الموجودين حاليا بمجابهة مع الظروف المعقدة والحياتية الصعبة, تظل مهمة أكثر من إنسانية في تلبيتها حاجات مباشرة لقطاع مهم من أبناء شعبنا. فلقد أُغفِلوا طويلا وتمَّ تحميلهم عبء المطاردات وويلات المتضايقات السلطوية وأوصاب حياة مريرة. ولكي يستطيع شخص أداء بحوثه العلمية العالية لابد أنْ يتفرّغ لها وأنْ تتوافر له فرص التفكير بعدم الانشغال بمطالب مادية مالية بحتة تفرضها حالة تدني أجور قطاع التربية والتعليم ومنهم أساتذة الجامعات الذين لا تصل أجورهم إلأى أدنى أجر في الدول المجاورة فما بالك إذا ما قارنتها بدول العالم المتقدمة؟!

وسيكون أكثر من معيب أنْ نُكرِه علماءنا على العمل ليلا في مصالح خدمية رخيصة مهينة ومتعبة لنطلب منهم نهارا أداء بحوثهم العلمية وواجباتهم التعليمية تجاه مجتمع لا يستجيب لأبسط مطالبهم الإنسانية.. ومعالجة مشكلة الأجور من أول مهمات التخصيصات الكبيرة المنتظرة لمعالجة كثير من المشكلات التي ذكرناها والتي لم نمرّ عليها لخروجها عن مادتنا هذه..

ومن الضروري التأكّد من كون المردود الاقتصادي  المباشر ليس هو ما يوجب وضع تخصيص مالي في موضع بل لابد من نظرة شاملة تقرأ جملة أوضاع البلاد وما يمكنها فعله اليوم وما لايمكنها.. ولا يمكن للحكومة أو الجهات المسؤولة أنْ تتردد في أمر معالجة حاجات القطاع المادية لأنَّ الفرصة متاحة في ضوء إكان استقدام الاستثمارات الأجنبية والإقليمية ورفدها للقطاع التعليمي بالممكن ...

أما على صعيد دراسة جدوى الاستثمارات فعلى الجهات العراقية بالتحديد ومنها قطاعات البحوث في الجامعات العراقية أنْ تقدم دراساتها التي توضّح الثقل المميَّز للمجتمع العراقي في الانتساب للتعليم والإفادة منه, بما يعني دعوة صريحة للمستثمر بخاصة العربي في هذا القطاع, سواء كان الاستثمار في إدامة الموجود والقيام بالمشترك الموفور مباشرة أم في افتتاح مؤسسات تعليمية جديدة جامعة أو معهدا أو مؤسسة تدريبية وهكذا ...

ولابد للمستثمر أنْ يفكر في الدخول الفوري المباشر وعدم الانتظار لما لمسألة الوقت من أهمية تنافسية ومن أهمية في المردود اللاحق المنتظر. ولعلَّ بعض الجامعات الإقليمية المعروفة يمكنها أنْ تفتح فصولا وأقساما ويمكن تبادل الخبرات بخاصة لما للخبرة العلمية العراقية من كفاءة معلومة... وهكذا فيما يخص خطوط تحريك القطاع ومعالجة أموره كافة ولكننا ركزنا هنا على الجدوى الاقتصادية وبعض ما يعترض القطاع من مصاعب كمشكلات توافر الأبنية والمواد اللازمة ولعلّ أعمق الجروح المؤثرة إنسانيا هي تلك المتعلقة بأجور أساتذة الجامعات والباحثين في شؤون العلم والمعرفة كافة.. ولنتذكر أنَّ الأمر لن يقف عند مسألة اساتذة التكنولوجيا فمجتمعنا في مستنقع أزمات كبيرة خطيرة تحتاج لرأي العلماء وحلول الباحثين الدارسين.. فهل يمكن الحصول على الجدوى الحقيقية لقطاع التعليم  بغيرتحقيق مصالح الأساتذة والباحثين و الاستجابة لحاجاتهم الأولية الضرورية؟؟؟ 

 

خاص بإيلاف      www.elaph.com

 

 

1