الخلط بين السلطتين الروحية والدنيوية!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  02 \ 11

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

من الطبيعي في عالمنا الإنساني أنْ نجد حالات من الامتلاء الروحي والبحث الدائب عمّا يوفر ذلك. ولقد اطمأن بعض الناس إلى اختيارهم الديني بوصفه قيمة روحية تثير السكينة في أنفسهم وتستدعي قيم الفضيلة مانحة التفسير المناسب كلُّ ُ حسب رؤيته واعتقاده...

ولعلَّ  مبالغة غير طبيعية بكيفية الإيمان والاعتقاد لدى شخص  ممّا يجعله يندفع أحيانا في طريق التشدد  ومن ثمَّ التطرف والغلو والمغالاة حتى يحيد عن طريق الصواب تجاه علاقاته بالآخرين أو تجاه اتخاذ القرارات الحياتية الصحيحة المناسبة. ومن الأمور التي تأتي ضمن سياق المغالاة أبعاد تخص العصبية الدينية ومنها الطائفية والتشدد في التفكير المذهبي إلى حدّ تكفير الاجتهادات المغايرة الأخرى عدا اجتهاداته الخاصة...

وينبني على مثل هذا التصور مغالاة في قراءة واقع الحياة الإنسانية حتى يتحول التابع لطائفة أو مذهب برؤاه نحو تفاصيل اعتقادية ليس لها علاقة مباشرة بالمبادئ والقواعد الفقهية لمذهبه وديانته, وإنَّما تتعلق بسطوة المشاعر والانفعالات العائدة لآلية تفكير المتشدِّدين فقط. بمعنى سيطرة الميول والأهواء على توجهات الشخص ومنطق تفكيره..

هنا يكون التحول من منطق المعقول إلى منطق اللامعقول ومن ثمَّ الخلط في قراءة الأمور المحيطة. وأختار لموضوعي هذا الخلط الذي ينفتح عند المتشدّد بين السلطتين الروحية الدينية والمدنية الدنيوية. أما الكيفية التي يحصل بها هذا الأمر فيعود إلى تلخيص مرجع بعينه  فقه مذهب أو طائفة, وبالنظر إلى مغالاة واضحة في الاعتقاد بسلطة المرجع يمنح ذلك فرصا للقبول بتدخله بكل الشؤون الخاصة والعامة للفرد التابع للمذهب المعين...

إنَّ حقيقة كهذه ليست هي المشكلة في الأمر ولكنَّ المشكلة تكمن في سطوة الروحي الديني على الدنيوي المدني من تفاصيل الحياة اليومية.. ومصادرة كلّ قيم الحياة البشرية لصالح قيم ماورائية كهنوتية.. وفي حين رفضت بعض الديانات التفرغ للعبادة والمعابد وأعطت للحياة قيمة كبيرة كما يقول الحديث النبوي الشريف "عامل يعمل خير من ألف عابد" نجد مَن لا يكتفي بتنسكه ورهبنته بل يريد فرض تصوراته هذه على الآخرين بفرض طقوسه وشعائره على قيم الحياة عبر مصادرة واستلاب لمفرداتها بخلط المعالجات وسبل التناول..

إنَّ القول بسلطة الديني على الدنيوي أمر يوهم أو يوقع في مطب أبعد من المغالاة والكهنوتية وهي إنْ صحت على صعيد حق الفرد في أنْ يختار لنفسه طريقة عيشه وما يعتقد به فهي لا تصح بالمرة عندما تدخل إطار فرضها على الآخرين بـعَدِّهِم أتباع ملزمين بتنفيذ تعاليم دين على وفق رؤية مذهبية وليس على وفق رؤية مذهبية أخرى..

المشكلة هنا تكمن في كون ما يخص الديني أمر اعتقادي روحاني يخصّ الفرد مباشرة وهو يمتلك حق الدعوة لاعتقاده ولكنه لا يملك حق فرضها على الآخر؛ وإلا فغدا سيأتينا شخص يؤمن بتفسير بعض الآيات على وفق مبدأ الغلو ليأمرنا بأعمال انتحارية أو بالعنف الدموي والاقتتال: فهل نتبعه؟

المشكلة حيث زهد بعضهم بالدنيا حدّ التصوّف والرهبنة فيرى في مفردات الحياة البشرية مجرد عبث أو هوامش وأوساخ مادية تافهة ينبغي لتطهيرها أنْ تخضع للمرجع الديني.. ومن الخلط أيضا الاعتقاد بشمولية النصِّ الديني لكل شئ في الحياة وهم يفسرون كلَّ شئ بكون كل فعل وكل واقعة وكل حركة مقررة سلفا ومكتوبة وليس للإنسان خيار فيها "الجبرية ممثلة لهذه الرؤية", وينبني على ذلك أنْ تتبع أمور الحياة البشرية للديني ومن ثمَّ لحكم ممثل الدين وهو المرجع الإمام المنزّه عن الخطأ البشري!

ويبدأ بعد الخلط بين السلطتين الروحية والدينية من جهة والدنيوية البشرية من جهة أخرى, يبدأ فعل المصادرة والاستلاب وتمرير ما يُراد تمريره تحت مظلة الديني المقدس الذي لا يُناقش إلا من كافر مارق حقَّ عليه القتل ومصادرة حياته حتى لا يتجرأ غيره ويناقش في أمر من أمور حقوقه الإنسانية...

إنَّ الخلط يأتي كما نلاحظ عندما يرى تابع لمذهب أنَّ مرجعه يمكنه التدخل في شؤون الحياة كافة فهو عارف شامل المعرفة في كلِّ شئ ويستبدله فيضع المرجع محل الطبيب وعالم النفس وعالم الاجتماع وعالم الأدب وعالم السياسة واذكرْ ما تريد من العلماء والعلوم فهو "الكلي القدرة شاملها" ...

وهنا يتعدى الأمر مفهوم الخلط ليتحول أكثر فأكثر باتجاه مغالاة من أنواع جديدة أخرى , ولا أمل يُرتجى من وراء أمراض التخلف والجهل حيث يسطو على العقول ميول وأهواء مريضة من الانفعالات التي عشعشت بكثرة تكرارها واستقرارها في بعض العقول حتى تصبح جرثومتها من الخطر بما ينبغي وضع ضوابط وقف تأثيراته البعيدة...

والحلّ هنا يكمن في الفصل بين الروحي الديني والدنيوي البشري بما يكفل إعادة لقائهما بطريقة قويمة صحيحة وصائبة وبما يكفل ديمومة مسار الحياة الإنسانية وحركته الدقيقة. ويضمن بقاء الطابع البشري البحت من دون إسقاطات قدسوية تصادر الطابع الإنساني وتسلبه قيمه...

إنَّ هذا الفصل لايتجاوز على حق الديني ولا يتقاطع معه بل هو في صميمه يعدّ جوهرا صائبا عندما يمنع المساس بحق أي طرف في الاختيار وفي العيش بالطريقة التي يراها لحياته .. فالوجود الحر للإنسان منذ ولادته حتى مماته, الحر بكل شئ هو الحقيقة الوحيدة التي نكتشفها قاسما مشتركا بين أغلب الرؤى الموضوعية الموجودة في حياة البشرية. طبعا باستثناء رؤى التشدد والتطرف فهي خارج القياس والمناقشة ليس برغبتنا بل لأنها هي ذاتها ترفض السماح بمناقشة ولو من أطراف او أذيال موضوع بعينه..

وحتى تتوقف حالات الخلط والمغالاة يمكن أنْ يدور جدل موضوعي وآخر غير ذلك لكنَّ مَن سينتصر هو إرادة الحياة والإنسان الحر ومنطقه القويم الصائب..

 

 

خاص بالكاتب العراقي      www.iraqiwriter.com

 

1