إدارة الدولة العراقية الجديدة والمرجعية الدينية

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  02 \ 11

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

غادر زمن ضيم الدكتاتور وطاغوته الذي تفرَّد بإدارة الدولة على هواه وعلى وفق رغباته ونزعاته المَرَضية... وانتهى العهد الذي تـُدار به  مؤسسات الدولة بروح فردي وعلى وفق قوانين المزاج والكيفيات الطارئة التي لا تعود إلى قانون ولا تلتزم بمبدأ. ويعمل العراقيون اليوم على التأسيس لدولة القانون والعمل الجمعي المؤسساتي, حيث سيكون لكلِّ عراقي الحق في الإدلاء برأيه في الشأن العام إذا ما جاء ذلك منسجماَ َ مع توافقات يتواضع عليها المجتمع في دستور أو قانون أساس يقرّه ويضعه قيد التنفيذ والعمل...

ويصبح بعد ذلك من الصحيح أنْ يتعايش الناس برؤاهم المختلفة المتنوعة وبأطيافهم المتعددة وبتعددية تصوراتهم الحياتية وبمعتقداتهم كافة, يصبحون  قادرين على معالجة شؤونهم بروح سلمي متحضر وبأدوات تمتنع على المزايدات وعلى سطوة طرف على حصة أسد من السلطة فيحرم أطراف أخرى منها لأيِّ سبب كان. إذ الديموقراطية المنتظرة أو نظام الحكم الذي حلَّ محل الدكتاتورية والفردية الطاغية يسمح بل يفرض مشاركة الجميع ومنع التمييز بينهم على أساس أحجامهم النسبية, فلا صغير وكبير ولكن هناك صواب وخطأ أو غلط تجري عملية إصلاحه وتقويمه بمنطق عقلي وبتنظيم مدني متحضّر...

وحتى يصل مجتمعنا إلى مرحلة الاستقرار المؤسساتي القانوني فإنَّنا سنمرّ بفعاليات انتقالية بعضها سيكون من الصعوبة والتعقيد بمكان. ومن تلك الأمور محاولات تنافسية بعضها تناحري تصطرع فيه قوى من أجل تعزيز مواقعها في جهاز الدولة وفرض إرادتها وفلسفتها ومفرداتها البرامجية على عموم الدولة. وأبرز تلك المحاولات ما سُميَّ العودة للمرجعيات الدينية واستشارتها أو الاستئناس برأيها وبتصوراتها ...

ولكنَّ المشكلة الحقيقية لا تكمن في الطبيعة الاستشارية مع كلّ المواطنين العراقيين على حد سواء. وسيكون كلّ له دوره بحجم فاعليته وصواب رؤاه وتوافقها وتعبيرها عن أكبر نسبة من شعبية.. أو بدقة من تعبيرها عن تطلعات الناس واعتقاداتهم وطموحاتهم. إنَّما المشكلة في التحول باتجاه الاستحواذ على السلطة والاستئثار بقدر أكبر منها وفرض الوجود الخاص لفئة بعينها على البقية..

فنحن نرى بعضا من الفئات السياسية بخاصة مجموعات الإسلام السياسي تعتقد بنفسها أو ترى في وجودها ممثلة ليس للتيار الديني سياسيا حسب بل للدين نفسه ومن ثمَّ لنصِّه المقدس ومن بعدِهِ  تمثيل السماء على الأرض عبر قراءة التيار المعني الخاصة... ومن هذا المنطلق يرى هؤلاء أحقيتهم في فرض رؤاهم كونها تمثل حلولا مقدسة تنتمي إلى الذات الإلهية عبر قراءتهم وتعبيرهم أو تمثيلهم حسبما يزعمون...

ولكي يؤكدون مصداقية القدسية التي تمثلها برامجهم فإنَّهم يختارون وسائل عدة ومن أبرزها اليوم حالة إسقاط القدسية على بعض الشخصيات التي تؤمُّ الناس في طقوسهم التعبدية أو شخصيات تمثل المراجع الفقهية في شؤون العبادة والدين وقراءة رؤى (العلوم) الفقهية أو الدينية وبعد ذلك يجري تعميد قدستيهم لاعتماد قدسية كلماتهم وخطبهم وبرامجهم وأقوالهم وبرامجهم في شؤون الحياة العامة وليس في الدين وحده..

وتذهب اليوم قوى معينة لتكريس حالة سلطة المرجعية الدينية في الحياة السياسية للدولة وكأننا نحيا في إيران أو أفغانستان وكأن العراق الكبير بلا متخصصين في الدبلوماسية وفي السياسة والاقتصاد وإدارة الشؤون العامة وكأنَّ العراق خلا من كلِّ هؤلاء ليبقى مصيره معلّقا بكلمة تنطلق من حنجرة أو لسان شخص بعينه..

وإذا كنّا نحترم المواطن العراقي وروح المواطـَنـَة العراقية ونعمل على ضمان وصول أصوات الجميع على قدم المساواة للتواضع على برامجنا المقبلة وتحديد مساراتنا القادمة.. فإنَّنا في الوقت نفسه لا يمكن أنْ نقبل فرض أمر ولاية فقيه ومرجعية دينية كائنة من تكون. لأنَّنا حتى في شأن الدين نجد أنفسنا في مذاهب شتى و بعضنا لا يعترف للمرجعية على وفق مذهبِ ِ بعينه موضعا في مذهبه, فكيف بنا في حيواتنا العامة وحيوات أناس آخرين لهم دياناتهم واعتقاداتهم الخاصة...

إنَّ من حق كل [عراقي] أنْ يدلي برأيه وأنْ نتوقف عند تصوراته مناقشة وعلاجا وتناولا حتى نصل معه إلى توافق مناسب للجميع؛ ولكنَّنا لا يمكن أنْ نوقف مساراتنا بناءَ َ على تدخل مرجعية أجنبية يأتمر بها بعض العراقيين لأسباب مذهبية تقبل التأويل السياسي بل أثرها مباشرة يصب في السياسي أكثر منه في الديني كما يحصل اليوم من شخوص بعينهم...

ومن ثمَّ فليس لنا أنْ نكون ملزمين بسياسة طرف بالفرض والإكراه. وما يلزمنا هو توافق على ما يكون قاسما مشتركا بين الجميع ومشتركا يمكن أنْ يستظل به كلُّ طرف ويمارس رؤاه وتصوراته من دون أنْ يكون في ممارسته تجاوزا على الآخر. وأول ما يقف بوجهنا هنا هو فرض مذهب وبمرجعية أجنبية على قانون العراق الأساس .. فهل يصح هذا؟!!!

العراق للعراقيين والعراق دولة مؤسسات مدنية متحضِّرة والعراق ابن عصره وحضارته التاريخية وجذوره البعيدة منذ سومر وآشور , منذ أوروك وأور وأكد وبابل ونينوى , منذ أورنمو وحمورابي وحتى أحدث مشرّع وقاضِ ِ عراقي يحمل بين جوانحه عدالة إنسان الحضارة العراقية الأصيلة ومشعلها التنويري الذي لا يقبل بظلم..

ومن الظلم أنْ نوقف العراق على فئة دون أخرى, ومن الظلم أنْ نختزل علماءنا وفقهاءنا ومفكرينا وساستنا في شخص فقيه إمام أو خليفة كما اُختـُزِلوا في الدكتاتور من قبل, فكلّ هذه مسميات تختزل عمليا الشعب والناس والجماعة في فرد!!  ولماذا نختزل المجموع في فرد؟ في وقت لايسمح قانون دنيوي أو ديني بالتصويت بالتخويل!

وفي وقت ليس لي أو لأحد اعتراض على مَن يريد وضع عقله [الذي وُهِب إياه وكُرِّم به حتى يُسأل يوما عن تصرفاته بمسؤوليته الدينية والدنيوية ولا يُسأل أحد سواه  يوم لا ينفع مال ولا بنون] جانبا ليفكر عنه إنسان آخر ويقرر عنه فرد آخر؛في الوقت ذاته  لا يمكنني أنْ أسمح لطرف أنْ يفرض رؤيته تلك عليَّ أو على الناس بالابتزاز السياسي أو الديني أو المذهبي أو غيره...

ثم ما دلالة عالم فقيه أو مرجع ديني لنختزل في رأيه كل الساسة والعلماء والمفكرين وليفكر ويقرر عنهم وعنّا؟ وما معرفته في علوم السياسة والقانون والاجتماع وبقية علوم الإنسان وحياته؟ وهل يوجد شخص موسوعي يجمع اليوم كلَّ العلوم في شخصه؟ فإنْ وُجِد فهل يمكن أنْ يلمَّ بأهواء ورغبات وطموحات وأهداف وبرامج وتصورات وفلسفات كل الملايين التي يضمها بلد كالعراق؟ وفي اعتقادي وحسبي أنْ أقول إنَّ هذا لم يدعيه لا نبي ولا ولي ولا مصلح اجتماعي ولا مفكر من قبل ومن بعد ولكننا نجد محاورينا اليوم استكمالا لعصر الدكتاتور الطاغية [الزاهر] يسخرون من العقل والفكر والحكمة ليقولوا ما يشاؤون من شبيه هذا الادعاء.. فهل نصدق من يسخر منّا وبنا؟!!

أيها العراقي العالم الفقيه المفكر المجرب, لقد طال وامتد كثيرا أكثر مما ينبغي زمن منعونا من التفكير واتخاذ القرار وصنع حياتنا كما ينبغي أنْ نحياها إنسانية بكامل حقوق البشر لا الحشر! وليس بعد اليوم مَن يستطيع اللعب على العقول ويختزلنا في ذاته المقدسة المعصومة .. وأنت أيها العراقي وأنا لا نسمح بإهانة جديدة تلحق بكرامتنا الإنسانية وليس لأجنبي أنْ يتحكم فينا وفي قراراتنا لأنَّه مرجع سياسي وفطحل في الدبلوماسية أو لأنَّه يزعم كونه مرجعا دينيا أو مرجعا لأي شئ ..

لك ولي الحق في القرار وفي أنْ نفكر ونحيا أحرارا كما ولدتنا أمهاتنا ولتكن تلك المقولة بين الأضلع "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" ولتكن حرية الكلمة مقدمة تأسيسية للديموقراطية فلا تعطِ كلمتك وصوتك لإنسان ينوب عنك. يمكن للمرجع أنْ يشور وينصح ويعظ ويفتي ولنا أنْ نأخذ أو لا نأخذ بحسب ما يدلنا العقل والحكمة والتجربة..

حياتنا حرة.. حياتنا ديموقراطية تعددية أساسها المساواة والعدل والحرية, فلماذا نحرم أنفسنا من الحرية ومن المساواة ومن العدل ونمنحها لشخص آخر؟ إنَّ كامل الاحترام والإجلال يمكن منحه للشخصيات المعظَّمة ولكنَّ التعظيم والاجلال لا يمكنه أنْ يكون استلابا للحريات وللعقول وكلما تعمَّقت حالة الاحترام والتقدير للمرجعيات عظمت حرياتنا واستقلاليتنا وليس العكس .. أي ليس من الاحترام أنْ يستعبدنا ويذلنا وينتهكنا وينتهك كرامتنا مرجع لأنَّ الانتهاك بخلاف التكريم وليس لعبد أنْ يجلَّ شخصا أو ينصفه أو يقدّره؛ وعليه فالعلاقة مع المرجعيات ليست علاقة عبودية واستلاب ومن غير المسموح في عراق الغد أنْ نجد إنسانا يستلب إنسانا حقا أو موقعا أو شيئا لأي سبب كان..

ولابد من إعادة قراءة العلاقات الاجتماعية الإنسانية ومنع العلاقات التقليدية التي تنتقص من مكانة الإنسان وتثلب كرامته ووجوده و تستلب حقوقه.. فنحن بصدد إعلان دولة المواطن الحر والمواطنين المتساوين وكاملي الحقوق والأهلية .. بصدد إعلان دولة المؤسسات المدنية التي لا سلطة تعلو على سلطة القانون فيها .. لا دولة الكهنوت الثيوقراطية المستبدة.....

من هذا المنطلق كان علينا تجنيب عراقنا تكريس حالة ولاية الفقيه على الطريقة الإيرانية ومرة أخرى أؤكد على أنْ يعود المواطنين جميعا إلى مؤسسات الدولة وليس أنْ تذهب مؤسسات الدولة لمواطن ما مهما بلغ شأوه ومكانته ومرجعيته لأنَّ ذلك يكرس نظاما يعود بالدولة العراقية إلى الوراء باتجاه مجاهل رفضها متنورو كل الأزمنة فكيف بنا نعود اليوم لتلك الزوايا المعتمة من تاريخنا؟!!!

   

 

خاص بالحوار المتمدن           www.rezgar.com

 

 

1