التكفير  سلاح  خطير لا ينبغي التساهل فيه!!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  02 \ 19

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

عاشت الحياة البشرية لحظات تاريخية متنوعة عبر عصورها المتعاقبة منذ ولادة مجتمع المدينة حتى يومنا. وكان من تلك اللحظات ما مرَّ عصيباَ َ معقداَ َ حتى أنَّ البشرية دفعت ثمن تلك اللحظات غالياَ َ من نمط الضحايا التي قُدِّمت أو الخسائر الهائلة التي راحت هدراَ َ. ولقد كان من تلك اللحظات ما يعود إلى تطبيق رؤى هذا الطرف أو ذاك من مفسرّي الفلسفات الوضعية أو النصوص الدينية. وكثرما وُجـِد مَنْ يفسِّر النصَّ الديني على وفق مصالحه أو تصورات تخدم مآربه.. بخلاف حقيقة تلك النصوص من خدمتها الوضع الإنساني السليم...

وهكذا سنجد عبر تاريخنا حالات من التشدّد والتطرف في معالجة قضية أو أخرى على وفق منطق هذا المفسِّر أو ذاك أو على وفق رؤية هذه القراءة أو غيرها ولكنَّها حيثما وقعت أسيرة مناهج متشدِّدة جاءت قاسية تضع الناس في مآزق ومطبات كارثية.. ومن الطبيعي أنْ نسجل مآسِ ِ كثيرة ناجمة عن التعاطي مع التطرف...

وعلى سبيل المثال عناصر صاروا اليوم جماعات وإنْ صغـُر حجمها إلا أنَّها خطيرة الشأن بسبب من مقدار العنف وسيول الدم الذي يهرق قرباناَ َ لتلك القراءات المتطرفة. وأبسط أمور هؤلاء جملتهم المعهودة "ما أنزل الله بها من سلطان فيـُـنزلوا قراءاتهم وتصوراتهم ورؤاهم لتكون السيف الذي يستنزل السلطان!!؟" وهكذا فكلّ مَنْ لا يتفق معهم مكفـَّر.. وفعل التكفير هو الفعل الوحيد الذي ينسجم مع فكرهم إنَّهم جماعة ليس لها من مهمة إلا التعاطي مع القراءات الأخرى ومصادرتها حيثما كانت متعارضة مع خصوصيتهم وهويتهم الضيقة السلبية بل الإجرامية..

لأنَّ الواحد منهم لا يقرأ النصَّ ولا يعمل على تفسيره فمهمته محصورة في قراءة مَنْ يقرأ النصّ ومصادرة أيِّ رؤية متفتحة صائبة ولكنها في حقيقة أمرها وجوهره متعارضة مع ستراتيجهم في مصادرة الناس ما يدفع للتكفير.. ومن المناسب هنا الإشارة إلى قوى لها قراءاتها المتشددة ولكنَّها ليست من القوى التكفيرية لأنَّها تخشى في فلسفتها أنْ تخطئ بحق مجتهد فتتجنّب التعاطي مع فلسفة التكفير ولكنَّها مع تشددها تميل للاجتهاد وللحوار والمجادلة عسى أنْ تصل إلى نتيجة مع الآخر..

هنا فقط ينبغي التأكيد على أهمية الفرز والتمييز بين قوى التكفير وهي في الغالب قوى متأسلمة وقوى صاحبة قرار سياسي بحت لا علاقة جدية صحيحة مع الدين وقراءة نصِّهِ وبين قوى متشددة ولكنها صاحبة قراءة واجتهاد وتفكير ديني ما يعني الحاجة للقاء والمناقشة والحوار للوصول إلى نتيجة مناسبة صائبة ...

أما تشخيصنا وتحديدنا قوى التكفير الفوضوية المنفلتة من عقالها فيأتي على رأسها جهلة أدعياء لا يجدون لهم مكان أو مكانة في مجتمع التحضر والجدل المعرفي من أيِّ مستوى كان. وهؤلاء يدخلون مجال الدين والتمذهب واللجوء إلى الطائفية بمعناها الضيق متمسحين بادعاء الدفاع عن حقوق مجموعة ضد أخرى.. وألاعيب من هذا النمط فقط هي التي يمكنها عبرها أنْ تجد موطئ قدم لها, لما للسلطة الروحية من سطوة وتأثير في الناس وبجمهور واسع من بسطائهم بالتحديد...

ومن جماعات التكفير قوى العصابات المنظمة التي تلتجئ إلى عناصر ذات سلطان أكبر من سلطة الدولة المدنية لمصادرة شخصية لا يستطيعون مصادرة قوتها وسلطتها في الحياة السياسية والاجتماعية ما يدفع لاستخدام فكرة التكفير بوصفها الوصفة الناجعة بهذا الشأن.. وكثرما كان من هذه الجماعات عصابات المخدرات والأسلحة والتهريب بأشكاله..

أما القسم الآخر من عناصر التكفير فهي شخصيات حازت على شهادات في تخصص ما وهي لم تبلغ ما يحقق مآربها في الظهور والشهرة لا في التخصص ولا في الميادين الاجتماعية والسياسية. ومثل هؤلاء نجدهم اليوم أغرتهم حالة الاستسهال في دخول ميدان السياسة وكتابة المقال اليومي بخاصة منه السجالي الذي يكسب ضجيجا وعجيجا ما يقدم الشهرة المرضية التي يطمعون في تحقيقها وصعود نجم أسمائهم عبرها...

والمشكلة التي تساعد هؤلاء جميعا هي حالة التخلف وأمراضه  التي يندحر مجتمع التمدن والتحضر خلف سواتره [سواتر التخلف] وسدوده الضخمة التي تفصل المجتمع عن رؤية الصائب الصحيح.. ويضيع الناس في دوامة الأسطوري والسطحي والطقوسي اللاهوتي الذي يخلق العتمة المناسبة لتمرير تلك الفتاوى المدمِّرة لنور الفكر ومصداق التعاطي مع الأديان ورؤاها المتفتحة لا المتشددة التي تتخذ طريق التكفير كيفما أرادت سياسة قوى أشرنا إليها للتو..

ولا نمتلك حلا أمام هذه الهجمة الظلامية الرعناء إلا بمزيد من المعرفة وبمزيد من التنوير والتفاعل بين أبناء الوطن الواحد حيث يدعم الشخص أخاه في معرفة الحقيقة بطريق الحوار والجدل الموضوعيين وليس بطريق الإكراه والعنف والمصادرة والمنع والحظر وتاج كلّ ذلك التكفير...

كما ينبغي أنْ يتحمل المواطن مسؤولية عدم السماح لشخصية أنْ تتحكم فيه وبرؤاه وأنْ تجذبه لمصيدة الاعتداء على أخيه المواطن عبر بوابة التكفير التي تدعي عناصر كشفناها للتو ولابد له من أنْ يرى الحياة في وجوده عبر احترام وجود الآخر وإلا فكيف يعطي شخص لنفسه حقا ويسلبه من غيره؟! وكيف يكون شخص صاحب حق في التكفير بمعنى الإفتاء في قضية وليس هو  بفقيه ولا دارس شريعة ولا حتى بحافظ نصِّ ِ وكلّ ما يملكه شهادة في تخصص رياضي مثلا أو أحيائي أو معرفي! أيسمح شخص لنفسه بالإفتاء أو بالدخول على الشريعة والفقه وخلط أحكام السياسة بأحكام الشرع وهو يقول عن نفسه إنه عالم في شأن معرفي؟؟!!!

يحصل هذا اليوم من كلّ من هبَّ ودب وصار يمكنه وضع اسمه بين كتاب المقال اليومي حتى صار لقبه محللا سياسيا وسيظهر غدا على الشاشات عالما عارفا في كلّ شئ.. وكاتب المقال الدعي هذا هو الذي يفتي بتكفير علماء السياسة لأنَّهم يدعون لعلمانية في الحكم أو في كتابة دستور أو فقرة وليس من دعوتهم ما يرمي في التعاطي مع الدين والمذهب.. ولا يدري بالمناسبة هذا الكويتب أسماء عدة مقصودة هنا]  أنَّه يكفـِّر متخصصا في بابه وهو فوق تخصصه رجل يؤدي كلّ طقوس العبادة وقد عاد للتو من حجِّهِ بيت الله ولكنه لم يقرأ بعد مقال تكفيره حتى يُفاجأ بجاهل ينفـِّذ "الحد" فيه وعليه!!

مَن منّا الكافر بنعمة ربّه؟ مَن ينصِّب نفسه في موضع الإفتاء وهو "جاهل" في جميع الأحوال سواء كان جاهلا من أبناء الشوارع وصادفت له عمامة يعتمرها ويجلس في صدر جامع أو كويتب عُرف اسمه قريبا على نعمة الإنترنت التي انداح فيها "الخليط والمخلوط" أو حتى عالم الفيزياء الذي يسمح لنفسه أنْ يرى في الشرع والنص الديني ما يمكنه أنْ يقول فيه القول الفصل وأنْ يفتي وهو لا يعرف الناسخ من المنسوخ؟!!

وبعد, فقد قرأت [على سبيل المثال لا الحصر] قبيل أيام مَن يكفـِّر العلمانية والعلمانيين وكأنَّ فعلته من السهولة بحيث تمضي في مقال!!  ولا يمكن أنْ تمرَّ مسألة التعاطي مع حالات الفتاوى والافتاء بهذه العرضية والهامشية فغدا ستصنع لنا مشاكل لها أول ولا تنتهي بآخر ..

 وعلى المرجعيات كافة أنْ تقول كلمتها أقصد المرجعيات المؤهلة الصحيحة القويمة.. حيث نجد مسؤولية تلك المرجعيات في مثل هذه المواضع حيث الحاجة الموضوعية ترى أنْ تنحصر الفتاوى وإلا كانت سلاحا تدميريا في مجتمع تنفلت فيه الضوابط ويتسيّب الشارع متخذا سبل الاصطدام والاحتدام لغة وهو أمر لابد من وقفه اليوم. ومَن لم يقم بواجبه يكون حيث أعداء الشعب ومصالحه وأعداء الوطن .. وفيهم يتخذ الشعب وقواه الوطنية الغيورة موقفا من الفضح والعزل ..

ولأولئك الذين يكتبون الفتاوى نصيحة للتروي فيما يلعبون فيه من نار. فليس محظورا مناقشة.. وحتى ليكونوا من أصحاب مصادرة رؤى الآخر ولكن ينبغي ألا يصل الأمر لتوظيف الموت والقتل وإباحة الدم... فالتكفير أمر معروفة توابعه فإنْ كانوا يقصدون الدم.. فليس بعد ذلك إلا حيث عرف الشعب طريقه وكان لزاما تجنيبنا مشكلات كتلك التي يبثها هؤلاء وبعض المواقع عندما تتساهل في نشر المواد فتنشر مادة تكفيرية..

وسؤالي الذي أختم به: هل سنقبل من مواقعنا التساهل مع نشر مواد تكفيرية تشجع وتحض على القتل بغير وجه حق وهل من وجه حق في القتل على وفق فتوى جاهل؟ وهل ستحكمنا من الآن فصاعدا فتاوى الجهلة؟ وعلى المعنيين أنْ يجيبوا عملا وواقعا مع تساؤلي سواء من جهات النشر أم من جهات الشريعة والفتاوى...

 

خاص بعراق الغدwww.iraqoftomorrow.org   

1