تناقضات المرحلة وتأثيراتها على العملة العراقية

وانعكاسات ذلك على حياة المواطن وحاجاته وعلى البورصتين المحلية والإقليمية

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ مقيم في هولندا

              2004\  02 \  17

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

في ضوءِ تغيّر الوضعِ في العراقِ صدرَتْ قرارات دولية تبدأُ مرحلةَ َ جديدةَ َ من التعاملِ معَهُ بعيداَ َ عن ظروفِ الحصارِ وأزماتِ ِ ناجمةِ ِ عن توقفِ الدورةِ الاقتصاديةِ من جهةِ ِ وعن محدوديةِ عائداتِ البترول ومشروطيةِ التعامل بذلك المردود فضلاَ َ عن قصرِ نظر السياساتِ الاقتصادية والسياسية التي أدَّتْ إلى إدخالِ العراقِ في اختناقاتِ ِ إنسانية جوهريةِ ِ كبيرة وخطيرةِ الآثارِ على شعبهِ وعلى مستقبلهِ ...

وبالتركيز على وجه واحد من تلك المشكلات نجدُ العملة العراقية التي كانت يوماَ َ من القوةِ بما يعادلُ كلّ دينار عراقي واحد لأكثر من ثلاثة دولارات قد وصلـَتْ في ظروفِ اشتدادِ الأزمات إلى وضعِ ِ صار فيه الدولار الواحد يعادل أكثر من ثلاثة آلاف دينار.. وهذه الأرقام لا تعود إلى الحروبِ الخاسرة التي دخلها النظامُ البائد وحدها بل إلى جملةِ سياساته المعروفة بتهورها ولا عقلانيتها..

 أما اليوم فالعراق في حالةِ ِ من مسارين: مسار انتهاء النظام القديم وفلسفته مع صدور قرارات دولية تؤكد على عملية إعادة البلاد إلى الحضيرة الدولية والعمل على تأهيل اقتصادِهِ وتنشيط الدورةِ الاقتصادية المتوقفة وتفعيلها.. وكلّ ذلك يدفعُ باتجاهِ تعزيز موقفِ العملة العراقية. وقراءة بسيطة توضح ذلك ففي الأيام الأخيرة  تحسَّن سعرُ الصرفِ وانتقلَ من ألفي دينار للدولار الواحد إلى (1350) دينار  ثم إلى (1000) للدولار بنسبة ارتفاع تعادل حوالي 50%  وهو ما أثار جملة تعليقات المتابعين الاقتصاديين في الأيام القليلة الماضية...

ويُتوقـَّع تحسن الدينار أكثر لجملة من الإجراءات تتعلق بالسياسات المالية الداخلية الجديدة من نمط توافر عملة الدولار في السوق العراقية وضخها بشكل كبير وإلى عدد من القرارات المتعلقة بالتشغيل والمردودات الضريبية والجمركية هذا فضلا عن تداول الدينار العراقي بطبعته الجديدة التي وفرت اطمئنانا ومن ثمَّ استقرارا لسعر الصرف.. وممّا دعم اتجاهَ التحسن الإيجابي تداولُ الدينار العراقي في أسواق الدول المجاورة بخاصة منها الدول الخليجية لأمورِ ِ استثمارية كما تمَّ تداوله في السوق المصرية وعدد من الأسواق الأخرى..

ولكن في مقابل كلِّ ذلك نجدُ ظروفاَ َ مغايرة تتقاطع مع مسار تحسن الدينار وتضفي عليه مشكلات التضخم وضعف القدرة الشرائية الأمر الذي ينعكس بآثاره السلبية السيئة على المواطن العراقي الواقع أصلاَ َ في مآزق انقطاع موارده أو مصادر عيشه بسبب اتساع البطالة وانتفاء دفع أجور كثير من الفئات الوظيفية المستحقة لمدة شهور متعاقبة.. ويزيد المأساة تأزّماَ َ ارتفاعُ أسعار المواد ومضاربات التجار سواء بمواد البناء و المواد الداخلة في أعمال انتاجية أم بالمواد الاستهلاكية الخاصة بيوميات الإنسان العادي في ظل غياب سيطرة قوانين مستقرة في الحياة العامة...

إنَّ ذلك سيضير حالة التحسن النسبي المؤقت أو الآني للعملة العراقية (الدينار), وقد يوقف هذا التحسن ويعود به القهقري.. لذا كان من المناسب عدم التعويل في تفاؤل السوق الاقتصادي على الاستجابات الإيجابية سريعة التقلبات المتعلّقة بالوضع السياسي وبالقرارات الدبلوماسية الدولية المرتبطة بالوضع العراقي.. فذلك مما يُوهنُ ثبات التقدّم وتحسّن تدريجي يُعوَّل عليه فيما لو اتجهت معالجة أزمة العملة والتضخم عبر قرارات اقتصادية ثابتة ..

وأول هذه القرارات المنتظرة لصنع التغيير الإيجابي المستقر يتعلق بتوفير سياسة جديدة للبنك المركزي العراقي بخصوص استقلاليته واعتماده القراءات الاقتصادية بدلا من السياسية والتبعية للحكومة, وسيجلب هذا واقعية في التعاطي مع أجواء السوق وقوانينه وفي الوقت نفسه يدفع باتجاه ضبط التوجهات الاقتصادية بموازنات ملموسة ثابتة وغير خاضعة للتقلبات السياسية الطارئة..

من جهة أخرى ينبغي أنْ نتذكر كون العملة الجديدة التي جاءت بقرار يستجيب للوضع السياسي الجديد وما نجم عنه من تحسّن بالعودة إلى   الثقة التي توليها مثل هكذا توجهات اقتصادية موضوعية بالوضع العام.. ولكنّ التوجه المعني توقف [مرحليا] عند الأخذ بنظر الاعتبار سعر العملة المتداولة في السوق العراقي (دينار صدام) وهو سعر مختلِف عن سعره (الدينار السويسري كما يسمونه أو الأصلي) في منطقة كردستان.. وهو السعر الذي يذكـِّرُنا بقوة العملة العراقية مثلما يذكـّرنا بأمر ازدواج قيمة العملة بالإحالة إلى طبيعة القرار السياسي من جهة وطبيعة السياسة الاقتصادية من جهة أخرى..

بمعنى إمكان تدارس الاختصاصيين للسعر في ضوء متغيرات الوضع عندما تنطلق عمليات إعادة الإعمار. فبغير ثبات قيمة العملة في حينه سيكون المردود سلبيا خطيرا؛ بخاصة إذا ما جرى تعامل كلي أو جزئي أو بالتحويل مع العملات الأخرى, حيث سيوفر هذا فرصاَ َ سهلة لعمليات المضاربة والتهريب والتخزين للعملة وإعادة الضخ في ضوء مصالح فئات طارئة تؤثر بعنف وتخلق هزات كبيرة سرعان ما ستواجه الاقتصاد العراقي وحركة العملة في سوق البورصة المحلية وغيرها...

وما يجنِّب الهزات هو سيطرة جدية وسياسة واضحة وشفافية للبنك المركزي, مع قرار يحدد [أسقف] زمنية لتداول العملة وتحديد إمكان التغيير بين العملة في سعرها في مرحلة والعملة ذاتها [الدينار] بسعر المرحلة التالية.. أو بإيجاد آلية مناسبة لمثل هذه الإشكالية الفنية في القيمة وفي طبيعة حركة بورصة العملات مثل التعامل مع الاستثمارات الخارجية بعملة أجنبية (كالدولار واليورو) أو (بالوحدة الدولية للعملات) بما يمنع استنزاف جديد للاقتصاد عبر أخذ الدينار بسعر اليوم وإعادته بسعر اليوم التالي.. وبما يجعل تلك الفعالية وسيلة لتفريغ البلد من ثرواته بدلا من حاجته الماسة جدا إلى مراكمة الدينار الواحد في ظروفه الأزموية القائمة..

فإذا نحن انتقلنا إلى مردود تحسن قيمة العملة سواء كان ذلك بناء على عودة رصيدها الحقيقي من وقف تدهور الانتاج أو من عودة البترول إلى وضع مناسب أو مقبول في جذب المردود ومن تفاؤل (مبرَّر وحذر) لإمكان انطلاق فعاليات إعادة الإعمار وما أكّد ذاك التفاؤل من مؤتمرات استشارية معقودة في المحيط الإقليمي.. نقول إذا انتقلنا إلى المردود على المواطن العراقي فسنجد أنَّه بين أمرين:  الأول: تمثله حالة ثبات أسعار السلع وبقاء قيمة الدينار الشرائية تراوح في موضعها مع دوران دخل الفرد حول ذاته ويعكس هذا عدم شعور المواطن بالمتغيرات التي أشرنا إليها بشكل سريع ومباشر.. ولهذا فإنَّ ردود الفعل الشعبية لا تكاد تحسّ جديا بالانعكاسات الإيجابية آنيا.. في حين يمثل الأمر الثاني: رؤية  الاقتصاديين في أنْ يجدوا بمتغيرات وضع العملة متنفـَّساَ َ وبوادر لمستقبل مختلف وأنْ يؤسِّسوا على الإيجابيات الآنية ويتحولوا بها إلى متغيرات ثابتة مستقرة ..

ومن الطبيعي أنْ يشكل هذا أرضية حساسة ستظل قوى الاستثمار بخاصة الإقليمية المحيطة تتابعها عن كثب لما لها من أهمية في قراءة مردود مشاريعهم ومن الثقة بالوضع بما يكفي للخطوة التالية التي لا تقبل المغامرة حيث نعلم سمة الرأسمال في خوفه أو تردده من الدخول في مغامرات أو عمليات غير محسوبة العواقب..

وعليه فإنَّ التقدّم في وضع العملة يمكن عدّه أكيدا وراسخا الأمر الذي ينعكس بآثار إيجابية؛ صحيح أنَّها غير مباشرة وليست فورية اليوم ولكنَّها أكيدة وهي تؤسس لغد قريب جدا في تحولات القدرة الشرائية للعملة وفي العودة بها إلى نسب حيوية متقدمة بالقياس إلى سابق عهدها.. وهنا سيكون النجاح الذي يلمسه وينتظره المواطن العراقي مع أهمية احتفاظ السوق الداخلية بتوازناتها بعيدا عن ملاحقة ابتلاع التطورات الإيجابية مثلا عبر زيادة الأسعار وما إلى ذلك..

فكلما وجد المواطن تقدما في القدرة الشرائية لعملته مقابل ثبات أسعار المواد أو الحاجات الحياتية فسيعني ذلك تقدما في وضعه المعاشي واستقراره وتوجهه إلى أعمال المشاركة الفاعلة في الحياة العامة وفي عودة دورة الحياة الاقتصادية وغير الاقتصادية إلى مستوياتها الإيجابية الإنسانية في تلبية متطلبات الفرد العراقي وأسرته ..

ومثلما يتابع المواطن العراقي موضوع العملة العراقية من جهة القدرة الشرائية وانعكاسات ذلك على حياته؛ سيتابع المستثمر العالمي والإقليمي بشكل أكبر حالة تقلبات تلك العملة ومتغيرات أوضاعها في السوقين المحلية والعالمية وستخضع لمراقبة دقيقة منهما. حيث ستؤثر أوضاع بورصة الدينار على سلة العملات الخليجية بالتحديد التي تعمل على الإفلات من التأثيرات السلبية العالمية لمتغيرات العملات عبر توجهها نحو جملة الإجراءات منها مثلا العملة الموحّدة. ولذا كانت تلك المتابعة واقعة في جوهر اهتمام اقتصاديي المنطقة لعوامل تداخل الأوضاع ومن ثمَّ لأهمية دعم استقرار البورصات واستقرار مسار العملات هنا ومنها الدينار العراقي...

ولنا في بعض المفردات الواردة في مادة مقالنا هذا عودة للتفصيل والمعالجة.. ولمتابعة التغييرات المنتظرة والمتوقعة في إطاره الاقتصادي وفي انعكاساته على حياة المواطن العراقي المأزومة راهنيا والمتجددة المتطورة مستقبليا.. وفي الانعكاسات الأشمل على الحياة العامة وعلى أوضاع التبادلات المحلية والإقليمية...

 

خاص بإيلاف الاقتصاد    www.elaph.com

 

 

 

 

1