التطهير العنصري الواقع والمخاطر!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  02 \27

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

نتابع منذ انهيار سلطة الدكتاتورية وظهور ثغرات جلية في مسألة إقامة السلطة الوطنية البديلة, نتابع أخبار حالات الاختراق التي حصلت للميدان العراقي حيث الأبواب مشرعة على أوسع مصاريعها.. وليست المشكلة في استقبال ضيوف العراق ما حصل مرات عديدة ولملايين الشغيلة والمفكرين والعلماء من دون أنْ يتحسس العراقيون من ذلك.

ولكنَّ المشكلة اليوم في كون زوار البلاد بغير (أحم ولا دستور) يسرحون ويمرحون فيه ويمارسون مخططاتهم بالكيفية التي نشهد منها التقتيل وإجرام التفجيرات والتخريب والتدمير بكل مؤسسات البلاد ومبانيه وبناسه الآمنين!! فهاهم أوباش الزمن المظلم من الانتحاريين ومن مخططي التفجيرات عن بُعد ومن القتلة والسوقة والرعاع يبيحون لأنفسهم كلَّ شئ إلا احترام قيم السلام والأمن والحياة الإنسانية الكريمة...

وغير هؤلاء الذين يحملون مصالح الغرباء ودول بعيدة وقريبة, نجد ساسة من المرضى العراقيين المصابين بداء التشدد والتطرف والعدائية وأمراض الولع بروائح الدم والبارود. وهم وإنْ كانوا أقلية إلا أنَّ هذه الأقلية تكفي في الظروف الراهنة لتنشط بفاعلية مستغلة الثغرات الأمنية وغيرها أرضية لممارستها الخطيرة المعادية لمطامح الشعب الذي خرج لتوه من نيران الدمار وطغيان الدكتاتورية...

ونختار هنا مفردة من مفردات تلك السياسات وهي مفردة تشطير العراق وفرض التقسيم بوصفه أمرا واقعا عبر عدد من الإجراءات.. ومن أخطر تلك الإجراءات عمليات مطاردة المواطنين العراقيين من المسيحيين الآمنين في مدن العراق موطنهم الأصلي الذي بنوه عبر قرون من الزمن البعيد.. وهم يتهددون ويتوعدون الصابئة وغيرهم في خطة واضحة من أجل ترحيلهم عن مدنهم ومحاصرتهم في مواقع وكانتونات يسهل بعدها تطبيق مخططاتهم السياسية وما يختفي وراء ما يعلنون...

فعلى سبيل المثال بدأت عمليات تهديد المسيحيين ومطاردتهم في مصادر عيشهم وفي مساكنهم وأبنائهم, بدأت بعمليات الاغتيال والقتل الفردية ولكنَّها سرعان ما تكشّفت عن حقيقتها مع اتساع نطاق الممارسات الإجرامية وتعاور بعض الأصوات معها التي حاولت التخفيف من حجم الجريمة وتبريرها بأمور وذرائع واهية من أجل مماطلة ومطاولة تمرِّر الأهداف البعيدة. [ومن قوى الغطاء السياسي الإعلامي بقايا البعث الصدامي وقوى الدم المتشددة المتطرفة من إسلامويين مزعومين وجهات موجودة في بعض دول الجوار...] ..

نحن أمام محاولة ترحيل المسيحيين من مدينة البصرة ومن المدن الجنوبية كافة التي يسميها بعضهم [المدن الشيعية] ويصبغونها بالإسلامية!! واليوم تبدأ المحاولة مع المسيحي والصابئي المندائي وغدا مع المسلمين أنفسهم من أهل السنّة.. ومن الطبيعي أنْ نجد المحاولات تلك تعمل على النهوض بفعاليات التطهير العنصري للمدن وإخلائها من الطيف العراقي التقليدي الذي يمتد عبر تاريخه البعيد حيث تعايش أهل البلاد سويا من دون أية مشكلة...

إنَّ عمليات التطهير الدينية والقومية والطائفية هي محاولات تعمل على تكريس التقسيم بوضوح. وهي خلف ذلك لا تكتفي بالتقسيم وتطهير المدن بل تتجه إلى مستهدفاتها النهائية منذ اللحظة, حيث تتسيّد بأفكارها وتعمل على فرض قيمها وتصوراتها على الجميع بقوة الهراوة والرصاصة وسكاكين الغدر وطلاسم التضليل...

إنَّ جريمة مطاردة المسيحيين اليوم لا تجد ما يبررها إلا بكونها معادية لمصالح الوطن والشعب ووحدتهما. وهي جريمة تستهدف تماسك الجهود من أجل البناء والإعمار. لذا كان من الضروري الوقوف بصلابة وبروح المسؤولية العظيمة أمامها ووقفها نهائيا اليوم قبل الغد لأنّها إذا ما استمرت فإنَّها ستقترب من تحقيق أهدافها في العزل العنصري..

فغدا عندما تكون المدن العراقية قائمة على أساس توزيع ديموغرافي قومي ديني طائفي فإنَّنا لن نستطيع عندها معالجة واقع التقسيم وما ينشأ عنه من توترات واصطدامات كارثية بعيدة التأثير على مستقبلنا .. وكان من الضروري على كل عراقي شريف أنْ يتذكر مهامه ومسؤولياته تجاه نفسه وتجاه وطنه وشعبه.

إذ ينبغي له ألا يكون رصاصة التمزيق والغدر والإجرام بحق ليس المسيحي والصابئي والسنّي والشيعي النبيل بل بحق العراق والعراقيين كافة وبحق نفسه عندما يأتي الدور ويتخذ المجرمون قرار مواصلة الجريمة بحق أهدافهم الجديدة المتمثلة فيه إلا إذا كان واحدا من أولئك المجرمين عندها سيأتي دوره حيث يشتبك المجرمون فيما بينهم في نهاية المطاف لتصفية الحسابات الأخيرة...

وليسأل كل فرد منّا نفسه لماذا يختار طريق الجريمة هذا؟ ولماذا يقبل أنْ يندرج اسمه في قائمة المجرمين؟ في قائمة خدمة غرباء على الوطن.. وكيف يكون له أنْ يتبع مرجعية سياسية أو دينية من خارج حدود الوطن ولماذا يحصل ذلك؟ أهو بالفعل من الخواء بحيث يحتاج إلى مرجعية من خارج أو من داخل الوطن؟ ولماذا يسمح بمصادرة رؤاه وتصورته؟ ولماذا يعطي صوته لشخص من البشر مثله يمكن أنْ يخطئ أو يصيب؟ ولماذا لا يناقش ويحاور ويكتشف قبل أنْ يقوم بمهمة قد تضعه في تلك القوائم المشبوهة المعادية لمصالح الشعب وحتى مصالحه الخاصة في لحظة ليست ببعيدة؟؟!!!

أما الجريمة السادرة في غيِّ التطهير فهي جريمة واضحة للعيان في مستهدفاتها. وأما الضالعون فيها فهم في جلّ وجودهم من الغرباء الأعاجم. بمعنى ما الذي يجعل عراقي آمن يحترم نفسه يسمح بادراج اسمه في مخطط تخريب العراق؟ وأما الذين تستهدفهم الجريمة فهم أبناء البلاد الأصليون من أخوة الدم والحياة أبا عن جد. فما بال بعضهم ينحرفون نحو الجريمة الكارثة؟

نحن بصدد حقيقة لابد بعدَ فضحها من البحث عن وسائل الحل.. ومن أدوات التوصل إلى الحل مؤتمرات وتظاهرات جماهيرية واسعة يشارك فيها كل الطيف العراقي بوصف الجميع مستهدفين بالجريمة تلك. ولابد من أنْ يوضع يوم عراقي ودولي ضد التطهير الجريمة وعلى القوى السياسية والدينية كافة والشخصيات الوطنية المسؤولة أنْ تعلن بوضوح موقفها من جرائم التطهير وبالتحديد تـُدِينها وتنخرط في نشاط مكافحتها ووقفها نهائيا ..

وللحكومة الوطنية أنْ تضع من أولوياتها المحافظة على التوزيع الديموغرافي القائم والموجود منذ مئات وآلاف السنين. ومن الطبيعي أنْ نستذكر كون مثل هذا التطهير قد يجري ليس بوساطة جرائم القتل وإنّما بوسائل أخرى ومنها حملات تتذرع أو تخصّ محاولة استعادة الأوضاع التي قامت قبيل عهد الدكتاتورية التي عملت على خلخلة الأوضاع لدواعي أخطر من سياسية محدودة...

ومن الطبيعي أن نعالج في مقال متصل بهذه الحقائق ما ينبغي للعراقيي المسيحي القيام به من أنشطة من جهة التوحد ولمِّ الشمل والتعاضد وتغليب التعاون والتنسيق بدلا من اختلافات جزئية ومرحلية هي أدعى للتأجيل في ظروف المخاطر التي تتهدد بلادنا ما يدعوهم إلى تحمل المسؤولية وعدم الاكتفاء بانتظار أشكال التضامن والأنشطة من أطياف المجتمع العراقي الأخرى لتحل المشاكل فجميع الجهود مطلوبة ووقفة جدية فاعلة لمسيحيي العراق جزءا من كل الطيف العراقي سيكون لها الأثر الصحيح والموفق في الحصول على النتيجة الصائبة..

ومؤتمرات عاجلة مهمتها مناقشة مخاطر التطهير الديني مطلوبة اليوم ومطلوب الإشارة بوضوح إلى كل من يساهم في الجريمة حتى لو كان من أحزاب كبيرة معروفة أو موجودة في الحياة السياسية والإدارية للدولة. فلا يمكن التفكير بإعفاء أية جهة من مسؤوليتها بل من الإدانة إذا ما سكتت عن المساهمة في وقف الجريمة.. فالسكوت عن مثل هكذا مخاطر كارثية تتهددنا جميعا أمر يعني المشاركة في توفير أرضيات إيغاله أكثر في الطعن بالوجود العراقي الحضاري التاريخي المعروف..

ومن ناحية الحلول فكثيرة هي أرضيات متوافرة من أجل الدفع بها نحو واقعنا الجديد ومن ذلك تشكيلات الأحزاب العراقية ومَن تضمهم من مختلف الأطياف وتشكيلات منظمات المجتمع المدني كافة بخاصة هنا عندما نتذكر منظمة جدية ينتظر منها الكثير كمنظمة المجتمع المدني وحقوق العراقيين وهي تضم في عضويتها مختلف الأطياف ويمكن لها أنْ تكون صاحبة المبادرة للدعوة لمؤتمر وطني بالخصوص أو لمؤتمر داخل المنظمة لتدارس هذه المشكلة الخطيرة ولتبدأ تلك المنظمة وغيرها مشاريع فورية للعمل الجاد من أجل وأد الجريمة في مهدها قبل أنْ تتحول لكارثة وطنية كبرى.. فتشكل مع مفردات أخرى مقدمات لتمزيق العراق وخلق مكامن الضعف والتشرذم والانهيار التام...

فهلا أخذنا الأمر على محمل جديته وخطورته ونهضنا بما يُنتظر منّا جميعا؟؟؟

 

خاص بعراق الغد    www.iraqoftomorrow.com

 

1