مسؤولية التيارات السياسية ودورها الراهني؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  03 \ 01

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

عنق الزجاجة, شدّ وتوتر وعذابات أخرى.. كلّ شئ مقبول في الحوار الديموقراطي طالما بقي في إطار من احترام الرأي الآخر والامتناع عن المصادرة أو الابتزاز في فرض الآراء والتصورات واستصدار القرارات والقوانين والأحكام. أما قراءة تجربة مجلس الحكم منذ ولادته حتى يومنا فتشير إلى كل المتناقضات فهو ضرورة لا مناص منها أو هو الصيغة التي لم يكن منها بد.. ولقد أثبتت توفيقا يتناسب والظروف المعقدة المحيطة به على الرغم من كل التعقيدات التي جوبه بها....

أما أسباب النجاح فتعود إلى وحدة المسار وروح التماسك والتنسيق ودبلوماسية الاحتكام للمواقف المعتدلة غير المتشنجة فضلا عن مصداقية العودة للتشاور مع القوى السياسية الممثَّلة في المجلس واعتماد القراءات البرامجية المدروسة بالاستناد إلى خبراء ومتخصصين بدلا من عنف الاحتكاكات بين الزعامات واصطدام الرؤى الشخصية والنزعات الفردية المريضة...

وأمّا الاخفاقات فكانت كثيرا ما تعود إلى حالات التشدد والتطرف والتصلب بخاصة عندما لا تتم العودة إلى جدل البرامج وحوار الرؤى والمفاهيم من أجل تقديم المدارسة الأفضل, أي عندما يكون تقديم نظام الحصة وقسمة الصلاحيات بالأحجام والقيم النسبية المرتبطة بحجم ادعاءات القوى التمثيلي للشارع السياسي العراقي أو بالدقة للطيف العراقي الطائفي قبل غيره...

وحيثما عاد الجدل لإشكالية الموقف بين اختيار دستور توافقي يجمع الكافة أو دستور يرى بعضهم أنَّه يستند إلى مفهوم حكم الأغلبية وحيثما عاد الجدل لإشكالية الدين والدولة ومن ثمَّ مذهب الأكثرية وبشكل أدق وحسب قراءة الطروحات الموجودة إلى حكم الطائفة والتعصب لمفاهيم طائفية ضيقة تستلب المجتمع حريته في الخيار الديموقراطي, حيثما كان كل ذلك كان الاختلاف والاحتكاك والاخفاق..

ومثال الوضع الأخير محاولة تمرير قرار 137 الذي جوبه برفض شعبي عارم وبموقف صلب وواضح من جمهور النساء العراقيات فأُوقِف, على أنَّ معركة الديموقراطية والحرية لم تنتهِ بعد. فما زالت محاولات فرض ذاك القرار قائمة بطرق الابتزاز والمساومة بين التيارات والقوى داخل المجلس.. وهذا مجرد مثل وليس هدف هذه القراءة...

لأنَّنا اليوم بصدد قضية خطيرة وآنية أخرى, وبالتحديد أمام قضية قانون إدارة الدولة في المرحلة الانتقالية فنحن أمام مسؤولية وطنية عليا تترتب على جميع التيارات السياسية العراقية المشاركة في المجلس والموجودة خارجه.. إذ سيكون على تلك القوى البحث بموضوعية في تلمس القواسم المشتركة التي تهمّ تسيير أوضاع الإدارة خلال مرحلة بعينها ومن المعلوم أنَّ هذه المرحلة هي بداية تحضيرية تتطلب عددا من الشروط المفترضة فيها...

ففي مرحلة التأسيس ينبغي ألا يكون لقوة بعينها الغلبة, فلا أكثرية ولا أقلية.. إذ لا يوجد ما يشير إلى النسبة والتناسب لا في إحصاء ولا في اختيار حر سابق. وإذا وُجِد إحصاء للتوزيع الديموغرافي للسكان ولطبيعة التوزيع بين الطوائف والأديان والقوميات فإنَّه كان قراءة في ظروف سلبية سابقة عليها كثير من المؤشرات والاعتراضات كما أنَّ ذلك الإحصاء لا يوجد على صعيد القراءة السياسية: فلِمَنْ سيصوت كل مكوِّن من مكونات الشعب العراقي؟ وكيف ستكون نتائج التوزيع السياسي للأحزاب؟ هذا كله اليوم في علم الغيب ولا أحد من حقه أنْ يحكم بأنَّه يمثل الأكثرية بشكل مسبق مختزلا أصوات الناس في رؤته وقراره وإحصائه! هذا فضلا عن عدم وجود ما يسجل التناسبات بشكل صحيح ودقيق لعدم توافر أجهزة ومؤسسات مناسبة للقراءة المعنية...

وعليه فإنَّ جميع القوى مسؤولة عن قرارها اليوم في التعاطي مع هذه الحقائق من جهة منع المساومات وأعمال الابتزاز أو لنقل التخلي عن سياسة الضغط ولوي الأذرع لتحقيق مواطئ أقدام سلفا لصالح هذه الفئة أو تلك... ومن الطبيعي أنْ ينتظر الشعب قيام الإدارة العراقية بتوفير أجواء الاستفتاءات والانتخابات التأسيسية اللازمة المخطط لها والمدروسة بجدية وموضوعية وعقلانية...

إنَّ تحالفات من نمط تنسيق كل مجموعة أحزاب مع بعضها شئ منتظر ومتوقع ولكنَّ الشعب العراقي ينتظر ذلك من أجل أنْ تقوم تلك التيارات بقراءة قواسمها المشتركة من جهة ووقف حالات التشرذم والتفتت والتقسيمات الهزيلة التي لا تستطيع معالجة المهام الكبرى التي تجابه الجميع اليوم. كما ينتظر من التيارات أنْ توفر أرضية التفاهم والتعاون على الحدود الدنيا أو القواسم المقبولة من الأطراف كافة..

وعدا ذلك ستكون ممارسة أية جهة ليست مضرة بالطرف المقابل الذي يضطر للتراجع عن تصوراته أمام ضغوط وتهديدات ناسفة وتدميرية بل ستضر بالشعب بعموم فئاته وحتى بالطرف الذي فرض هدفا أو معالجة من معالجاته على الآخرين بسلطة مناورات سياسية قاسية..

وعليه كان من الأجدى باستمرار للتيارات السياسية الموجودة في الساحة الوطنية العراقية اليوم بخاصة منها الموجودة في إدارة الدولة ومجلس الحكم أنْ ترتقي إلى مستوى المسؤولية وتتصدى بمعالجاتها للمعضلات بطريقة الحوار والتفاهم وتبادل الرؤى وتأجيل الفئوي وقطع الطريق على كل قيمة تنتقص من الديموقراطية التي ما زالت لم تولد بعد مؤسساتيا في بلادنا...

وعلى جميع القوى التفكير بحاجة الوطن إلى إدارة وحدة وطنية بين جميع التيارات ومن المؤكد أنْ تكون إدارة الوحدة الوطنية إدارة إنقاذ وستقوم مسؤولياتها على معالجة طوارئ كما تتطلبه حالة إعادة الإعمار في العراق اليوم وفي الغد القريب. وليس بخافِ ِ على القيادات السياسية المخاطر التي تتهدد بلادنا وشعبنا من وراء مرحلة الفوضى واللا استقرار التي نعيشها وما يمكن أنْ تجلبه سياسة ليّ الأذرع من مزيد من الاضطراب...

وعليه فإنَّ التقدير الحقيقي الذي يبحث فيه شعبنا ويتطلع إليه هو درجة الاستجابة الإيجابية من قبل التيارات السياسية لمهمات التأسيس للعدالة والمساواة وللإخاء الوطني ولتقديم روح المواطـَنـَة على الهويات الفئوية أو الحزبية الضيقة.. ومن هنا أيضا كان علينا جميعا متابعة مواقف التيارات السياسية وأنْ نضغط على القيادات الحزبية من القاعدة للتلاؤم مع التوجهات والممارسات الديموقراطية ..

فلقد ولَّى زمن ترك التحكّم بالقرار وبتحديد المصير بيد فرد يمثل جهة أو بيد حفنة من القادة. فحقَّ على جمهور أعضاء  التيار السياسي أنْ يقوموا بأداء مهماتهم بالتأكيد على تقديم مصالح الوطن والشعب أولا  فيما يكون العمل على تحقيق الأهداف الخاصة عن طريق الإقناع والحوار..

أما الجهة التي يرى أعضاؤها أو قياداتها أنَّ فرض رؤاهم من فوق من حيث أوجدتهم ظروف بعينها اليوم في إدارة الدولة تحت أية ذريعة فإنَّهم لا يمكن أنْ يستقيموا مسبقا مع العمل الديموقراطي الذي يتأسس على التسامح والحوار واحترام الآخر والامتناع عن الابتزاز والضغط وعن التصيّد في المياه العكرة..

ولا نضع هنا أمثلة فهي واضحة ومكشوفة ولكنّنا نؤكد على ذياك النزوع لتصدر القيادة والاستحواذ على موقع الصدارة والإدارة بل على التأسيس لتشريع البلاد الذي يشمل الجميع على أساس المواطنة والمساواة على وفق منطق هذه الفئة أو تلك بحسب صراعات تحتدم بصورة لا تمت لآلية العمل الديموقراطي المؤسساتي...

ومثل هذه الاحتدامات سيكون لها نتائج كارثية غير محمودة العواقب إذا ما أفلحت قوة في فرض رؤيتها على الأخرى بطرق غير ديموقراطية. وإذا ما تمَّ استباق الزمن وصودر الدستور الثابت بفقرة تمنح جهة ما مسمى الأغلبية وجرى التشريع على وفق منطق الفائز في معركة المصادرة والمماحكة والضغط السلبي, فإنّ ما ينجم عن ذلك ليس سوى التأسيس لعدم الاستقرار ولهزات وزلازل سياسية واجتماعية واقتصادية ومن المحتمل أنْ ندخل في دوامات خطيرة ليس مستبعدا منها الحرب الأهلية التي لا يوجد عراقي واحد معها اليوم...

ولا عجب أنْ تكون تيارات سياسية بعينها هي المتشددة وهي صاحبة الحديث عن المظالم والمظلومية وعن الأغلبية المهضومة ولكن سيكون من العجب أنْ تصدر قرارات تأسيسية تستجيب لضغوط من تلك الجهات. إذ ينبغي للقوى السياسية العراقية صاحبة الدراية ألا توافق على التأسيس على وفق منطق معوج أو فيه من الثغرات ما يعرض مستقبل العراق لمثل هذه المزالق الخطيرة..

وسيكون الإصرار على التأسيس الديموقراطي القائم على العدل والمساواة أمر واجب على التيارات الوطنية حتى لو فقدنا مزيدا من الوقت. فسيكون جهد مضاعف ومضاف أنفع من استعجال من أجل استصدار قرار في سقفه الزمني. فالسقف الزمني هو مصلحة العراق ومستقبله وليس أي قيمة أخرى.

وسنحصل من هذا التوجه على منع حالات التشرذم والتشظي والتمزق وسنحصل على تخفيف التوتر وغلواء بعضهم وننزع فتيل تفجرات أخطر من أي تفجير يهم بعضهم أنْ يهدد به. وهنا لابد من تذكير أصحاب دعوات العصيان والاحتكاكات والرفض السلبي والتشدد أنَّ المرحلة الراهنة لا تستوعب كل هذه الممارسات وأنَّ العراق ينتظر من كل قواه الشريفة النبيلة أنْ تتعاطى مع الظرف بروح مسؤول يتجه بالبلاد نحو الاستقرار ونحو قطع أشواط ضبط الأوضاع والتحول مباشرة إلى مرحلة تهم كل العراقيين وليس من الصائب تأجيلها أكثر. إنَّها مرحلة انطلاق صفارة العمل والبناء...

تلك إذن المهمة الجوهرية المنتظرة من مؤسسات المجتمع المدني والتيارات السياسية بالذات حيث يُنتظر منها اللمّ والتوحيد والتعاضد والتعاون والتنسيق وتخفيف التوترات والخروج من سياسة عنق الزجاجة أو القنينة المضغوطة والتحول بالوضع نحو آلية العمل الديموقراطي وأنْ تكون تلك التيارات مدارس للعمل السياسي الحر القائم على التفاعل والاحترام والإقناع بدلا من تعريضنا لمزيد من مشكلات امتد زمنها وطال كثيرا في حياة شعبنا..

 

عراق الغد    www.iraqoftomorrow.org

 

 

1