استقلال حقيقي أم شعاراتية [تحرير] زائفة؟!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلِّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

1-4

[مؤسسات الدولة القمعية وانهيارها]

 

                                رؤية هذه المداخلة: "إنَّ المهمة العاجلة  للعراقيين اليوم هي في توجههم إلى معطيات استقلال حقيقي يقوم بالأساس ويركِّز بشكل مباشر على إعادة بناء الدولة ومؤسساتها تلبية للحاجات الضرورية الملحّة وبما لايشارك هذه المهمة في اللحظة القائمة أية تداخلات معيقة أخرى تتعارض مع خطورة عملية البناء الوليدة. وسيكون كلّ ما عدا مجريات هذه العملية التاريخية  هو مما يقع في مزايدات لا تدرك وقائع الأمور الكارثية في بلادنا مستندة إلى شعاراتية [تحرير] زائفة هي أولاَ َ  تمثل الغطاء الرسمي الذرائعي لجرائم  تُرتَكَب بحق شعبنا وثانياَ َ تُعَدّ مساهمة خطيرة في حرف توجهاتنا بعيداَ َ عن إعادة البناء  الحقيقية الصادقة التي تمَّ  وقفها من النظام السابق ويتمّ تخريبها عبر أنشطة بقاياه الإجرامية. ولا يتعارض هذا مع سعينا بالكيفيات التي يراها شعبنا وفي الوقت المناسب لإنهاء وجود قوات الاحتلال الأجنبية ..."

 

 

                                بُعَيْدَ انهيار النظام الدكتاتوري مباشرة ظهر في الساحة العراقية كثير من المتغيِّرات والمستجدات, ولعلَّ  جلّ ما يحصل اليوم ناجم عن الآثار السلبية الخطيرة لوقف مؤسسات الدولة وتعطيلها أو رحيلها عن واجهة الحدث والمسؤولية تجاه مجتمع مدني مركَّب يتألف مما لايقل عن خمس وعشرين مليون نسمة.. ولم يقف الأمر عند إخلاء القوات المسلحة الميدان بشكل مطلق؟ فذلك أمر مسوَّغ بكون تلك القوات لم تقاتل دفاعاَ َ عن البلاد وكانت مجنَّدة دوماَ َ لحماية الدكتاتور ونظامه, وفي هذه المعركة بالذات تركت الميدان لأنَّ زمن الدكتاتور انتهى وولَّى؛ ولم يعُدْ يسطيع قهرها على الانتحار في سبيله, لقد أراد جلّ هذه القوات العودة لخدمة الشعب والدفاع عن البلاد في ظل ظروف مختلفة عن زمن الحكم بالحديد والنار.. وهم بانتظار قيادة سياسية تحقق مثل هذا الأمل أو تلك الرغبة بعيداَ َ عن المهام التي طالما أُكرِهتْ على فعلها بالضد من مصالح شعبنا وبانتظار قيام مؤسسة عسكرية تقف مهامها على عمليات حماية صائبة للبلاد وسيادتها وعلى المشاركة الجدية في بناء الوطن وتلبية حاجات الشعب.

                                 ولكن, ليس هذا ديدن موضوعنا بل هو يركِّز على إشكالية الانهيار التام لمؤسسات دولة لم تكن من الدول المتخلّفة وإنَّما كانت باستمرار في حالة من التطور الحضاري الذي أُعيق وتمَّ تكتيف تقدمِهِ مع تسلُّم الطاغية السلطة في البلاد.. فمنذ تلك اللحظة عاد إلى الذاكرة الجمعية لشعبنا ذاك الانفصال بين مؤسسات الدولة من جهة ومصالحه وأهدافه وطموحاته من جهة أخرى عندما كانت تلك المؤسسات في القرنين التاسع عشر والعشرين  تخدم مصالح الحاكم المستغِل (العثماني, الإنجليزي, ثم أفندية القصر والطبقات المستغِلّة).

                               إنَّ مثل هذه الحقيقة هي جوهر ذلك النفور الخطير تجاه تلك المؤسسات التي تشكل عماد الحياة المدنية والتي لا مناص من توافرها في الدولة المعاصرة!؟ ولابد هنا من التذكير بعوامل خطيرة أخرى لخراب الدولة ومؤسساتها: تلك هي أنشطة وفعاليات بقايا النظام المهزوم التي عملت على الإجهاز النهائي على تلك المؤسسات في خطة منها للقول: إنَّ بلادنا ما زالت بحاجة لهم ومن أجل العودة عبر بوابة عدم فسح المجال للبديل الحقيقي لكي يظهر في ظل ظروف طبيعية مغايرة لزمن الحكم الأسْوَد.. هذا فضلا عن تأثيرات وعوامل متنوعة أخرى.

                              وبناء على مثل هكذا أرضية يمكن القول: إنَّ تلك القوى التي تسطو على الشارع العراقي ليس منذ انهيار نظام الجريمة بل منذ استبقت أجهزته الدموية الإجرامية لحظة السقوط فتهيَّأت لخطوات تدميرية [أعقبت مرحلة السقوط] إذ أطلقوا سراح القَتَلَة المجرمين واللصوص وكل العناصر التي راحوا اليوم يستفيدون من وجودها فيجهّزونها في عصابات مأجورة لإشاعة عدم الاستقرار والاضطرابات الأمنية وإقلاق المواطن المُتعَب أصلا من سنوات عِجاف معقدة صعبة, ومواصلة الطَّرق على أعصابه المُجهَدة. إنَّ هذه الحقيقة يراها أبسط أبناء شعبنا اليوم بشكل مفضوح  سافر .. فليس تفجير أنابيب مياه الشرب ولا ما تبقى من أجهزة الاتصالات والهواتف ومصادر الطاقة ومحطات الوقود المختلفة هي مستهْدَفاتهم الوحيدة, فحتى المستشفيات وتجهيزات الدفاع المدني وحماية أرواح المواطنين هي في صميم أهدافهم التخريبية ناهيك عن أنابيب البترول ومواقع الثروة الوطنية المادية والروحية الثقافية.

                             إنَّ مأساتنا اليوم بانهيار الدولة ومؤسساتها يُراد لها أنْ تكون كرصاصة الرحمة التي أعقبت سنوات الاحتضار زمن السنوات العِجاف.. لكنَّ الشعوب لا تموت ونحن لن نسمحَ لتلك الرصاصة أنْ تخطف منّا الحياة .. فهاهو الدكتاتور الذي حلم بالبقاء في سدة طغيانه وكرسي سلطة الموت إلى الأبد, هاهو يرحل إلى الأبد؛ وقريباَ َ ستكون مؤسسات دولة الشعب هي التي تحاكم كلَّ جرائمه.

                             إنَّنا نعرف جيدا ونملك الخبرات الكافية والمتطورة لإدارة مؤسسات من دونها لاتسير حياة شعب ولا دولة؛ إذ من المستحيل بغير مؤسسات دولة لأيّ عجلة اقتصاد أنْ تدور؟ وإلا فكيف سيأكل الناس؟!  هل  ستمطر السماء لهم خبزاَ َ وعسلاَ َ .. كلا طبعاَ َ, فإذا وقفت الأسواق والشركات والدوائر الحكومية وغيرها فلن نرى حياة طبيعية بل ستمتلئ سماؤنا نحيباَ َ وصراخاَ َ وسنتسمَّع إلى أنين احتضار شعب بأكمله..

 

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان    

                     2003\ 10 \  08

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

Website :   www.geocities.com/Modern_Somerian_Slates

 

 

 

 

 

 

 

1