أهمية الصوت الانتخابي والمشاركة الجماهيرية الواسعة

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  03 \16

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

العمليةُ الديموقراطيةُ تجري بأركانِها تامةَ َ فتكونُ موفقةَ َ ناجحة, فإنْ اختفى أحد تلك الأركان اختلَّت العملية وفقدت مصداقية نجاحها وإنْ خرجت بزعم هذه النتيجة أو تلك. ومن تلك الأركان التي ينبغي أنْ تـُعتمَد بخاصة في العملية الانتخابية, تظل مشاركة الجمهور تمتلك أهميتها الخاصة من بين كل بقية الأركان. فبغير استيفاء المشاركة الفاعلة لا أهمية للنتائج بل لا يمكن الاعتراف بتصويت بين طرفين أو أكثر لا يحصل مجموع تلك الأطراف على نسبة النصف مضافا لها عامل الترجيح والأكثرية...

والمسألة لا تتعلق بمجرد حسابات رقمية بسيطة بقدر ما تتعلق بموقف الجمهور من العملية ومن المشاركين فيها. إذ سيكون عدم المشاركة تصويتا لصالح جهة أخرى لا تشارك في العملية نفسها. وإلا فإنَّ موقفا سلبيا من المشاركة سيعني سلبية في العلاقة مع جهاز الإدارة التي ستقرر أمورا مصيرية كثيرة ولن تكتفي بإدارة  تلك الشؤون التفصيلية في مجريات الحياة اليومية..

ومن أجل ضمان أفضل علاقة إيجابية بنَّاءة ومؤثرة في الإدارة المنتخبة, ومن أجل توجيه تلك الإدارة نحو برامج تصب في خدمة جمهور الشعب المصوِّت, لابد من أجل ذلك أنْ يشارك أوسع جمهور في عملية التصويت من جهة وأنْ تتمَّ عملية الاختيار والانتخاب على وفق معايير دقيقة وقراءة متمعنة في طبيعة ممثلي الإدارة المنتخبة وفي توجهاتهم وبرامجهم...

إذ أنَّ انتخابا لا يأخذ بعين الاعتبار مسائل من نمط تطابق البرامج مع مصالح الجمهور من جهة ولا يأخذ بعين الاعتبار مسائل من نمط حقيقة التزام القوة المعنية بالبرامج التي تقدمها لجمهورها, فإنَّه سيجري سريعا استغلال الموقف بالضد من مصالح المصوِّتين وسيتم تجاوزهم من أجل مصالح ضيقة تتعارض مع خدمتهم وتوفير حاجاتهم الضرورية...

فإذا تجاوزنا معالجة مسائل البرنامج الانتخابي لمقالة أخرى وتناولنا تأثير الصوت الانتخابي على مسار العملية الانتخابية فمن الضروري أنْ نشير إلى حقيقة مهمة وخطيرة تتمثل في دور الصوت الانتخابي في إخضاع المرشح لمطالبه. فحيثما استجاب المرشح لمصالحه أعطاه صوته وحيثما اختلف معها منع عنه صوته.

ولكنَّ هذا لا يؤثر في المرشح طالما وجد عزوفا عن التصويت إذ أنَّه سوف يرى في قوته المالية ومن ثم الدعائية ودرجة التأثير في الجمهور الموجّه بسلطة المال أو الدعاية (البروباغندا) المزيفة أو التضليل والخداع أو بوسائل الضغط والابتزاز ومن ذلك الضغط النفسي الذي يتعرض له الناخب بخصوص توفير فرص العمل أو مصادر العيش أو الأمن والأمان والاستقرار [تهديد أمن الناخب كما في حالات البلطجة]...

 كما توجد اليوم في عراقنا وسائل تضليل وابتزاز من نمط دور بعض أدعياء المرجعية الدينية [ولا أقول هنا المرجعيات الصالحة الصادقة] في الضغط السلبي كما يحصل بأعمال ابتزاز وبلطجة من شبان يتزيّون بزي الميليشيات المدافعة عن تطبيق شرائع ما أنزل الله بها من سلطان!؟ ولكنه مجرد ادعاء وتضليل للتخفي ولصنع الأقنعة والمظلات المناسبة لتمرير سياسات بعينها... 

وهكذا فإنَّ الموقف يمكن أنْ ينقلب فبدلا من تأثير صوت الناخب نشهد تأثير ابتزاز المرشح للناخب! في وقت سيكون من الصحيح توفير أجواء الأمن وحقوق الأفراد في الحياة المستقرة ما يمنع عنهم التعرض لأيِّ نوع من الابتزاز. ولكن من الصحيح أكثر وأدق وأسلم سيكون على الناخب أنْ يعلن بوعي تام قبل يوم التصويت بأنَّه سيمنح صوته للبرنامج الأكثر قربا منه وللذي يثق بتنفيذِهِ ما يـَعـِدُ بهِ وتلك ثقة لا تأتي إلا من مصداقية عُرِفت عبر تاريخ مشهود للقوة المعنية ...

وما سيشير إلى هذه الحقيقة هي حضور الناخب جلسات المرشحين والمشاركة في المناقشات التي ستدور بصدد البرامج بالتحديد والوسائل التي ستضمن وتكفل التنفيذ؛ وعليه في تلك المناقشات أنْ يبدي رأيه بوضوح وصراحة وقوة أو حسم وحزم. ولكلِّ ناخب حقه في الاعتراض داخل جلسات المناقشات بروح ديموقراطي سلمي وأنْ يكشف الزيف والرياء والخداع من الحقيقة والصدق والثقة...

إنَّ الصوت الانتخابي يظل الحارس الأمين لمصالح الشعب وعامة الناس وسيكون دَيـْنا في عنق كل صوت يبيع نفسه أو يستسهل التعاطي مع حالة مضرة بالحياة العامة وبمستقبل الشعب. ومن تلك الحالات موافقة صوت على التعاطي مع الطائفي أو القبلي أو أيّ من أشكال التعصب على حساب الكفاءة والصلاحية ومصداقية البرامج وتحقيقها لإرادة الناس...

فكل صوت سيقف مع مرشح أضعف وأسوأ على حساب الأفضل لمجرد كونه من طائفته أو من قبيلته أو من مجموعة يتعصب لها بالمعنى الضيق السلبي والمرضي  للتعصب, سيكون معادِ ِ حتى لمصالحه هو نفسه. وسيضع لبنة في هدم التجربة الديموقراطية من جهة والأنكى من ذلك دوره في هدم بلادنا وحضارتنا وحاضرنا ومستقبلنا.

فهل منّا مَنْ سيرضى التعامل مع السلبي المرضي الخطير ويقبل بوضع جرثومة أو فيروسا أو يصب الزيت في حريق يصيب أهله لمجرد تلبية نوازع الميول المرضية التعصبية؟ هل منّا مَنْ سيقف مع أخيه الذي لم يتعلم أو يدرس ولم يفك حرفا ضد جاره الذي سيعمل على مساعدة أخيه في التعلم وعلى دعم ما يخدم بناء حياة الناس مرفهة رغيدة؟

إنَّ التأكد من إعداد الصوت الانتخابي وشحذ همته ومروءته ومصداقيته لكي يوضع حيث ينبغي ولكي يؤخذ بتأثيره الإيجابي, أمر لابد أنْ يتمَّ اليوم قبل الغد.. فليس لنا متسع من الوقت لكي نضيعه. وإلى أولئك الذين يطالبون بانتخابات حرة نزيهة وعادلة تنقذ البلاد عليهم أنْ يهبوا من أجل الإعداد الكافي النزيه لها.

وأول عمليات الإعداد لا يكتفي بتهيئة المستلزمات التقنية والبشرية وآليات الإحصاء.. بل ينبغي الإصرار على توعية الجمهور بمصالحه وبأهمية صوته وبأهمية تعاطيه مع الكفاءة والنزاهة وفضح الزيف والتضليل والابتزاز.. وهي عمليات طالما خرّبت أفضل البلدان توجها إلى ممارسة الحق الانتخابي...

ونحن هنا لا يخامرنا شك من محاولات المتعجلين لانتخابات مبكرة في ظل سطوة عصابات الشوارع ولصوص الليل وسماسرة بيع البشر وشرائهم والمتاجرة بهم  ومن ثمَّ سيكون جد طبيعي أنْ يتاجروا بأصواتهم ويزيِّفوا الحقائق.. لا يخامرنا شك في الدوافع المعادية لمصالح الشعب والوطن وفي محاولة سرقة النتائج بإمضاء الناس أنفسهم!!!

لذا كان إعداد الصوت الانتخابي مهمة عظيمة الشأن وهي تعتمد على توطيد العلاقة بين مؤسسات المجتمع المدني وجمهور الشعب الناخب, الذي يحتاج وضوح الرؤية ومعالم الطريق. ومن ذلك أهمية أو خطورة تعزيز العلاقة بين الأحزاب السياسية الوطنية وجمهورها الذي تصب برامج تلك الأحزاب في خدمته. فحيثما توطدت العلاقة بين الحزب السياسي وجمهوره تصاعدت إرادة الناخب وهمته وأهم من ذلك وعيه في الاختيار وتقرير الأفضل وتقديمه أو تزكيته...

ولا يجوز هنا التعاطي مع حالة الهوجاء الانفعالية والتعاطي مع مشاعر التعاطف التي تلعب عليها قوى تستغل طقوس الناس وعباداتهم ومقدساتهم لتمرير عناصرها؛ تلك العناصر الجاهلة في كل شئ إلا في ابتزاز الناس وفي التضليل وفي تزييف الحقائق وفي اللعب على مشاعرهم لجذبهم نحو مآربهم وإبعاد الناس عن الاختيار الذي يفضح ألاعيبهم وما يخفون من استغلال للناس...

لا يجوز للصوت العراقي النزيه للصوت العراقي المعروف بإبائه وكبريائه وشيمته ومنطقه العقلي وفكره التنويري أنْ يقف اليوم بعد كل تضحياته ليشد من أزر قوى استغلاله ومصادرته ومصادرة حقوقه وابتزازه. لايجوز له أنْ يغفل أبناء الوطن من العلماء والمفكرين والساسة والمتنورين ليمنح صوته لجهلة لا تقبل بتوظيفهم حتى مؤسسات دولة وُجِدت في بلادنا قبل ألف عام, نظرا لبلادتهم وخطل أفكارهم؛ وكل ما يملكون هو ابتزاز مشاعر الناس باسم الله على الأرض أو باسم الأئمة الأطهار والقادة العظام وباسم حب أهل البيت, وما هم من كلِّ ذلك إلا مرائين مدعين مزيفين..

فيما إذا دقق الناخب وصاحب الصوت الأعلى والأشرف في الأمر فسيجد ويكتشف الدَّعيَّ المزيف من الصادق الأمين؟ وسيجد في الكفاءة صاحبة البرنامج الذي يخدمه ويخدم أبناءه أفضلية في منح صوته وفي التأثير على الساسة الجدد ومن ثمَّ في صياغة إدارة جديدة هي في خدمته لا في خدمة مَن يغشه ويخدعه ويحاول أنْ يسرقه نهارا جهارا...

والإدارة في عصرنا لا يمكنها أنْ تمر من منافذ الجهلة ولا حتى الساسة المتمرسين في أحابيل الكلم وليس في غيرها من شؤون الإدارة والدولة. فالإدارة فن وعلم لابد له من أناس متخصصين ومن خبراء على درجة من المعرفة. وعلى أصوات حكمائنا من رجال العراق الكبار ومن شبيبته العاقلة الممتحنة في سوح النضال, عليهم جميعا أنْ يوجهوا بأهمية اتخاذ المرشح الكفء المميز المحنك الخبير وألا يتقدم غير هؤلاء الخبراء لمال يملكون أو وجاهة قبلية أو طائفية أو غيرها فنحن نريد بناء دولتنا الجديدة على أفضل مقاييس العلم والمعرفة ..

فلقد كان آباؤنا بالأمس يفضلون التلميذ القارئ النجيب المتعلم على الجاهل فلا ننسى ولا نغفلنَّ صحة الرأي ورجاحته ونحن أهل عقل وحكمة.. ولا نغلِّبنَّ أصوات القلوب والمشاعر على أصوات العقول والحكمة... وتلك هي مسألة الصوت الانتخابي الذي يؤثر ويوجه مسار المرشحين باتجاه ما يريد من صحة الرأي ومطابقته لمصالحه وليس لغير ذلك...

ولن ينجح الصوت الانتخابي في التعبير عن نفسه ولا في التأثير مالم يكن بالوعي الكافي وبالمعرفة وبالتحرر من كل أشكال التبعية لمشاعر أو عواطف مرضية على حساب رجاحة الاختيار وصحته.. من هنا كان لزاما اليوم على مثقفي العراق العمل بجدية في الوصول إلى هذا الناخب لكي يضعوا بين يديه ما يفيده في تبيِّن معالم الاختيار وكيفياته... بالتعريف بمسائل الانتخابات وآلياتها ومفردات المشاركة وكيفياتها وبكل معطيات تفاصيلها...

ومن الضروري هنا التوكيد على مسائل التجريب والقيام بأعمال مساعدة توضيحية للناخب العراقي وهو يقبل على حياة جديدة بكل معالمها.. وقد يكون من ذلك مساهمة الصحف اليومية والأسبوعية ومواقع الإنترنت وغيرها من وسائل الإعلام بما ينهض بهذه المفردة بجدية مناسبة..

وسؤال هنا على سبيل المثال لا أكثر: هل لفضائيتنا أو إذاعتنا العراقية أنْ تطلب من أيّ كان من متخصصينا لتقديم برنامج يومي أو أسبوعي حول مثل هذه الإشكالية المعرفية؟؟؟ والسؤال نفسه أقدمه لمواقع الإنترنت لكي تقدم دراسات بهذا الشأن بقلم أو أقلام خبرائنا للتعريف بالعملية الانتخابية وأنظمتها ولإعداد ناخبنا لليوم المنتظر...

وليتزامن هذا الفعل التعريفي الضروري مع فعل المناقشات السياسية الدائرة في قمة الهرم بصدد حسم أمور تسلّـُم السلطة وإنجاز مناقشة الدستور وصياغته وتقديمه للاستفتاء.. أما انتظار بغير طائل فسيوقعنا في مشكلات عديدة, حيث نؤسس لتجربتنا على أرضية واهية....

ومن الملاحظات يمكن الحديث عن تجربة ديموقراطية تجري على موقع البرلمان العراقي وسيكون مقدار المشاركة وطبيعتها تسجيلا يعكس الاهتمام بالتأثير على توجيه مسارات العمل الديموقراطي بخاصة أنَّ تلك التجربة تعكس مشاركة أناس من الوعي بما يكفي لمناقشة مسألة تحديد موقف من العملية الجارية.. وسنرى مقدار الاستجابة وسيمكن أنْ نخلص منها باستنتاج بحسب المشاركة ونوعها.. وهي مجرد تجربة أولية...