ماذا ينتظر عملية تسلُّم السلطة الوطنية؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  03 \16

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

في غضون برهة من تاريخ البلاد الحديث تكون السيادة الوطنية بين أيدي أبناء الوطن. ولقد تسلَّم العراقيون شؤون بلادهم من قـَبلُ, بُعيد الحرب الكونية الأولى. وعلى الرغم من القيود والمعاهدات التي كبلت السلطة الوطنية وعلى الرغم من ظروف الاستقلال الوطني في حينه, فإنَّ العراقيين أداروا بلادهم بنجاح وبروح دستور عصري دفع بعجلة تطور العراق إلى الأمام وكان لقوى التحرر الوطني العراقي ونضالها المظفر دوره الأكيد في توجيه التطورات الإيجابية وانتزاع انتصارات الشعب لإرادته ولخط تطوره وإشادته صرح التقدم الوطني..

وفي الظرف الراهن حيث تعقدت الأمور وجرت متغيرات وجملة من التعقيدات الكبيرة, تسير المرحلة بخطوات تكتنفها كثير من الملابسات والتداخلات التي تحتاج إلى توضيحِ ِ وإلى استكشاف معالمِ ِ.. فقد ظهرت القوى السياسية بعدد أكبر من عدد محافظات العراق وأقضيته ونواحيه وهي تتشابه في الأطر والمسميات والبرامج وتختلف أحيانا في هامشيات فتجعلها ديدنها الخاص ومهمتها التاريخية البطولية متناسية أو ناسية حاجات الشعب الماسة المباشرة…

وظهر موضوع الدخلاء المتسللين كلصوص الليل الأظلم بل أعتى في مستهدفاتهم وأخطر.. إذ راحوا يعيثون في بلادنا تخريبا وبشعبنا تقتيلا وهم يبتغون الإيقاع بين أبناء الوطن الواحد الذين تعايشوا سلميا طوال دهور وعصور في وحدة راسخة لم تهزها أية ريح صرصر عتية.. إنَّهم يبتغون إشعال الحرب الأهلية لأنهم يدركون أنَّ أفعالهم لن يطول أمدها ولن يستطيعوا الاستمرار فيها إلى مالانهاية بخاصة وحكومة وطنية هي المنتظرة قريبا في مستوى جميع ملفات الحياة العراقية الاقتصادية والسياسية والأمنية…

كما ظهرت ألوان الطائفية ليس من جهة مكونات شعبنا الموحَّدة بل من جهة العصابات رخيصة الأهداف ذات النوازع الشيطانية المعادية لكلِّ مصالح شعبنا العراقي بكلِّ فئاته.. فليس أولئك المتباكين على مصالح الأكثرية المظلومة بالأمس ولا الناحبين على الأقلية التي تكاد تفقد هبيتها وسطوتها وهي الأدرى والأخبر بشؤون السياسة والإدارة ولا المتشكين على مصالح القوميات المتآخية ليس هؤلاء إلا أدعياء مصالح مَنْ يدافعون عنهم ولكنهم في حقيقة الأمر عصابات تستهدف تمزيق الصف الوطني وتخريب نسيجه المتين الناصع وتركه خرقا تعصف بها الريح…

فماذا ينتظرنا بُعيد تسلّم السلطة ومهمات السيادة الوطنية كاملة؟ طبعا الأمر ليس سهلا بسهولة قراءة هذا المقال أو أية دراسة بهذه العجالة. ففي أرض الواقع تتخفى الثعابين بلبوس وأردية ملائكية؛ فتارة باسم المدافع عن حقوق العراقيين وليس لديهم من حقوق العراقيين لا مأكلهم ومشربهم ولا أمنهم وحيواتهم ولا توفير سكن أو مأوى ولا بتوفير خدمة تعليمية أو صحية أو غيرها فلقد جاء الـ [هؤلاء] للدفاع عن أمر واحد هو حق الانتقام من الأميركان..

وفي هذا يغفل الدخلاء وعي شعبنا ويتغافلون عن روحه المستقل الذي لا يخضع لسلطة غير سلطته وإرادته وهويته الوطنية بل يتمادون ليصوروه متخاذلا وقد جاء [أبطال] تحريره من أفغانستان ودول من خلف الحدود! وفي حقيقة الأمر ليس لهؤلاء من شأن باستقلال العراق وسيادته وحريته بقدر ما يستهدفون بقاءه ممزقا مخربا مدمرا لا يُسمح له بإعادة إعمار ما خربته سنوات الجمر العتية لضيم الدكتاتور وحروبه وظلمه وعسفه…

ولهذا يستقتلون على التوحد بين قواهم الدخيلة وقوى النظام المقبور من مخلفاته وتركته الوبائية المرضية الخطيرة. فما هي مهماتنا المنتظرة؟ ماذا يُراد لنا وماذا يلزمنا؟ إنَّ أسئلة كهذه تستلزم قراءة مَنْ منّا نحن العراقيين سينهض بمسؤولية تسلم السلطة؟ وكيف؟ وتحت أية ظروف؟ وبوساطة أية آلية؟

ولعلَّنا هنا نضع خطوطا عريضة لإجابتنا؛ ما يستلزم مناقشة مستفيضة من قوى شعبنا وهي كفء لهذه المناقشة وذياك الحوار الموضوعي المنتظر أو المرتجى. إذ سيكون ترك موضوع الجدل هذا للخاصة الموجودين في عضوية مجلس الحكم أمر معيب بحق القوى الفاعلة الحية في مجتمعنا بخاصة النخب المثقفة صاحبة الخبرة..

وأول ما ينبغي التوافق عليه هو أهمية توطيد صيغة مجلس الحكم ولكن بأسس جديدة في التعاطي مع العضوية ومع آليات العمل. إذ لا مناص للحكمة من إشارتها إلى إشراك جميع القوى العراقية الوطنية الحية ومن ثمَّ توسيع عضوية المجلس بما يترتب عليه تغيير في آليات العمل..

إنَّ المرحلة القادمة تفترض التعاطي مع عملية التوسع الأفقي والعمودي في إشراك القوى العراقية. ووضع برنامج عمل أما الضوابط فقد انتهت إليها القوى من قانون إدارة الدولة فيما يجري الحوار في السبل التنفيذية الإجرائية وهو الأمر الذي يقتضي مساهمة جميع القوى فيه.

فأما التوسع الأفقي فيقتضي حسب وجهة نظر إلى إشراك فعلي للقوى السياسية الوطنية بحسب حالة وجودها النوعي, بمعنى حسب إمكانات مساهمتها الجدية الفاعلة في مناقشة المشاريع المقدمة وتعاطيها مع الحلول بقدر من التحليلات التي ترتقي إلى مستوى التأثير وإقناع الآخر ببرامجها وتداخلاتها التي تصب في خدمة استقرار البلاد والبدء بإعادة الإعمار.. كما يأخذ هذا التوسع بنظر الاعتبار حسابات التاريخ السياسي والقاعدة الجماهيرية وقراءة محددات المشاركة ديموقراطيا بما لا يتعارض مع مسارات الأغلبية ورؤاها من جهة ولا مع الحلول والبرامج المعروضة للتطبيق...

وعموديا يفترض التعاطي مع حالة الانتخاب والتوافق, إذ يتم التوافق على ترشيحات بشكل ابتدائي أولي ثم يجري التصويت من مجموع المجلس التأسيسي الذي يحيل البرامج إلى خبراء ومتخصصين للصياغة وتقديم ما تنتهي إليه اللجان للاجتماع العام لاتخاذ البرامج المناسبة للمرحلة...

إذن تـُنتخَب الرئاسة بعد التوافق الأولي وهو توافق قد يتجنب عقدة الطائفية وعقدة من أيِّ ديانة ومن أية قومية وما شاكلها؛ إذ العراق أرقى من هذه العقد وليس العراقي من أية طائفة أو دين أو قومية أو أي تقسيم مخترع أو مفتعل أو مستغل موظَّف آخر, ليس ذاك العراقي بمنزل من القمر أو من أفلاك بعيدة المسألة هنا تتعلق بموظف كفء لمهمة يكلفه الدستور والشعب بها ..

وليس من المنطقي أنْ نأتي بمتخلف من قومية أو دين أو مذهب أو طائفة لمجرد أنَّ من يقف وراءه يدعي تمثيل الأغلبية ويدعي من ثمَّ تجسيد برامج تلك الأغلبية في فرض ممثله الفرد ليكون ممثلا عنها رغما عن الجميع وأولهم الفئة نفسها التي لم تدلِ برأي بعد..

 ومن بعد لنتساءل ما علاقتنا بهذه التقسيمات إذا كان الأكفأ هو الذي سينهض بواجبه لمصلحة الجميع؟ وما علاقتنا بفرض شخصية ليس بكفاءة تمنحها أفضلية اختيارنا؟ وإذا كان لدينا الأصوب والأصح والأفضل فلماذا نميل لرؤى التخلف ونستدير بأنفسنا إلى الوراء؟

إنَّ دعاة التقسيمات إياها لا يبتغون مصالح الطائفة أو الجهة التي يزعمون تمثيلها إذ من مصلحة أية جهة أنْ تأتي بالأفضل لإدارة موقع ما في الدولة وأي شخص سيكون محكوما بقوانين وضوابط ومراقبة وطنية تامة كاملة. وما أدرانا إذا كان دعي تمثيل جهة هو بالفعل ينتمي بمبادئه ورؤاه إلى تلك الفئة؟ أفلا يمكن أنْ يكون بانتمائه ممثلا لجهة تعادي الطائفة التي يزعم تمثيلها؟!

ينبغي أنْ نتوافق بعيدا عن دعاة التوزيعات والحصص.. وإلا فإذا سمحنا بتثبيتها دستوريا فإنَّنا نسمح بالتقسيم من جهة! وبالتراجع عن مبادئ الحرية والسلم والديموقراطية! وعن جوهر تلك المبادئ! أي عن المساواة بين فئات الشعب من جهة وبين كل مواطن وآخر! فيما ينبغي ألا يسمح بعلو منزلة جهة على أخرى لأنَّ العراق الحقيقي جهة واحدة شعب واحد وحرية مكوناته في ممارسة خصوصياتها أمر لا يدعو ولا يسمح بتفصيل الأمور على وفق أهواء الأحزاب الطائفية ببرامجها الجرثومية المعادية لمصالح العراق ووحدته الوطنية ولمصالح طوائفه كافة وأولهم الأغلبية..

ليكن ما يكون من لغو ومن برامج مفتعلة قادمة من وراء الحدود أو من تحت باطن مدافن التاريخ في بلادنا. ولكنَّ ما يوافق عليه شعب الحضارة شعب التفكير العلمي الموضوعي ورجاحة منطق العقل والتمدن ليس غير الدستور الذي يساوي بين الجميع ويمنح كل الحريات لفرد فلا تتوقف حرياته حتى تبدأ حريات أخيه, والعراقي الشيعي السني المسيحي الكلداني الآشوري الصابئي الأيزيدي الكردي التركماني العربي هذا العراقي بكل مسمياته جدير بهذه الحرية المنشودة بأوسع قيمها الحضارية...

لذا وجب اليوم قبل الغد الاتساع بتشكيل المجلس التأسيسي من المحافظات والأقضية الرئيسة ذات الوجود النوعي وخصوصية الهوية ويجب ألا يُستبعد منها طرف لأي سبب. كما يجب تمثيل منظمات المجتمع المدني والجامعات والأكاديميات العلمية وألا يتمَّ إغفال الشخصيات الوطنية البارزة في الداخل والخارج.

بعد ذلك سيكون لهذه الجهة استحقاق تسلّم السلطة وتشكيل حكومة وطنية من التكنوقراط والسياسيين. حيث تستلزم المرحلة حاجة ماسة للتكنوقراط لحل مشكلات عويصة على صعيد العمل الوزاري التخصصي البعيد عن تجاذبات المصالح الحزبية الضيقة وليست السياسية. كما أنَّ وجود الساسة في الوزارة تقتضيه مسائل مزاوجة في العمل الإجرائي التنفيذي...

إنَّ استحقاقات الحكومة القادمة لا تأخذ حيزها الجدي الفاعل بغير تحضير مناسب. ولن يكون من ذلك تقديم تنازلات لصالح التأسيس لتقسيم العراق وتشظيه ولصالح نزعات أحزاب التخلف الطائفية. فلم يكن العراق بلدا طائفيا ولن يكون ولن يقبل الشيعي قبل السني بهذا التقسيم ولن يقبل به المسيحي قبل المسلم ولن يقبل به الكردي قبل العربي ولا التركماني قبل الكردي والعربي..

إنَّ العراقي الصميم المحب لخصوصيته وهويته ومكانته بين شعوب العالم لن يقبل بتسمية طائفية هزيلة أيا كانت على حساب عراقيته وعلى حساب قوته الكامنة في تلك الهوية الوطنية ولن يكون الدفاع عن أيِّ ِ من طوائف العراق وقومياته إلا في ظلال العراق الواحد والحكومة الوطنية العراقية الهوية وليست الطائفية ..

فحكومة طائفية تعني إذلال العراق كله بكل أقسامه بكل مكوناته بكل قيمه الحضارية تعني المس بسيادته ووجوده وكينونته تعني البدء بتمزيقه أشلاء ليسهل على الطامعين فيه تحقيق مايريدون. فإذا قرأنا إرادة المواطن الشيعي فسنجدها تصوت لقوة العراق ومنعته وحصانته ضد التقسيم وضد الضعف والهزال والتشظي ومثله كل أقسام العراق وتنوعاته وطيفه الأثني الديني والعرقي والقومي والمذهبي والسياسي..

وسنجد المواطن العراقي الشيعي يصافح المواطن العراقي السني من دون أنْ يسأل من أية طائفة هو لتحقيق تلك المصافحة وسيزور المسيحي المسلم من دون حاجة للسؤال عن ديانته وسيجلس الجامعي الأيزيدي إلى جانب زميله المسلم أو اليهودي أو الصابئي من دون تلك الأسئلة [المتخلفة الرخيصة عندما يتم تجييرها لأهداف وضيعة]...

إذ المذهب والديانة والقومية وغيرها تظل خصوصية تطرز صدر العراق والعراقيين وتضعهم في حالة السمو والتحضر والتعاطي مع هذا التنوع بروح متمدن عقلاني يحترم فيه الجميع بعضهم بعضا ليس لسبب غير كونهم بشرا متساوين في الحقوق والواجبات يجمعهم اسم ينشدون به إعلاء معنى وجودهم هو العراق ولا غير فإنْ تشرذمنا فقدنا احترام الأمم والشعوب والدول وصرنا نهبا لرخيص القوم وليس ذلك مما ينظر إليه عراقي أصيل ولو شزرا...

فإلى استحقاقات تسلم السلطة بعزيمة عراقية, بروح عراقي, بإرادة عراقية, بوجود عراقي تام لا تفصيل فيه إلا مما يزيد كل عراقي قوة ومنعة وحصانة واحتراما وتحقيقا لوجوده ولهويته بوصفه عراقيا وكفى بنا شر الدخلاء والأدعياء ولنصوِّت لوجودنا العراقي الواحد؟!!!!