الصحافة الشيوعية في العراق

سبعة عقود من الكفاح والتفاني في خدمة الشعب والوطن

                            

                           يتذكر التاريخ السياسي الحديث في العراق ذلك الدور الذي لعبته الصحافة الشيوعية في مسار أحداثه.. فمنذ أول عدد  لـِ "كفاح الشعب" الذي صدر في 1935/07/31 توالى صدور عدد كبير من تلك الصحف والدوريات التي أسهمت في مناقشة القضايا الملحة سواء منها ما ارتبط بالأمور المطلبية اليومية للشعب أم تلك التي تصدرت نضالاته الوطنية الكبرى من أجل الاستقلال الناجز وفك الارتباط بالأحلاف العسكرية وتحقيق الديموقراطية في الحياة العامة للبلاد وتوجيه دفة الاقتصاد الوطني لخدمة أبناء الشعب.

                            ومن هذا المنطلق وجد ابن الفراتين نفسه متجها للبحث الدائم عن نسخته من تلك الصحف حتى صارت تنسخ أحيانا باليد في ظروف قاسية من المطاردة البوليسية التي تعرضت لها في محاولة من السلطات لمنع انتشارها ووقف تأثيرها في تكوين الوعي الطبقي والوطني بين قرائها.. ولقد وجد القارئ في تلك الصحف المدافع الأمين عن مُثُل الشعب العراقي وتقاليده الكفاحية ونضاله من أجل استكمال مراحل تطوره السياسي والاجتماعي والاقتصادي. لذا نجد أنَّ أشدّ أنواع المطاردة والعقوبات التي تصل حدّ الإعدام ليس للعاملين في تلك الصحف فحسب بل لكلّ مَنْ  تُضبَط معه نسخة من صحيفة شيوعية, نجد أنَّ كلَّ ذلك لم يمنعها من البقاء والتطور والاتساع في حجم التوزيع. وباتت عملية النشر فيها مقياسا للفخر ونيشانا أو وساما للكتّاب والصحفيين.. ومقياسا لنضج المقال المنشور وموضوعيته وقربه من جماهير الشعب, لما تتمتع به الصحافة الشيوعية من موقع مميّز على المستوى الشعبي من جهة عمق معالجاتها وبُعْد النظر في حلولها للمشكلات وقرب صوتها من البسطاء أو الأكثرية ومن طموحاتهم وتطلعاتهم ومطاليبهم.. هذا فضلا عن تعويلها على القراءات الأكاديمية المتخصصة وعلى الخبرات العالية والدراسات الجدية ضاربة الجذور في أرض الواقع ..

إنَّ مثل هذه الحقيقة يعترف بها العدو قبل الصديق وإنْ كان بطريقة التشويه والتعريض مثل القول بأنَّ الثقافة الشعبية التي تتضمنها هي تزلّف مزيّف لهذه الصحف من الشعب أو تحذلق ونخبوية أو عزلة لما يخص الروح الأكاديمي والاستناد إلى الخبرات المتخصصة, في وقت وجد الشعب فيها تمثيلا للواقع وتجسيدا لخير ما فيه من طاقات التعبير من تراكم المعرفة البشرية..

                          وبتتبع عدد من تلك الصحف يمكن أنْ نتذكر كفاح الشعب التي صدرت العام  1935 بشعارها الطبقي "ياعمال العالم اتحدوا" ثم جريدة الشرارة نهاية عام 1940  فجريدة القاعدة الصادرة مطلع 1943. وهذه الصحف  صدرت في مرحلة التأسيس والصراع القاسي الذي دارت رحاه في ظروف الحرب الكونية الثانية وما تعرض له العراق من مكابدات معقدة آنذاك, فرض خوض أشرس المعارك الطبقية والوطنية على صُعُد الواقع الموضوعي المحيط والداخلي الخاص بمسيرة الحزب الشيوعي العراقي ودوره الجماهيري عبر ما يمثله من ثقل في الحياة السياسية ...

                       وفي مثل تلك التداخلات صدرت أيضا صحف أخرى مثل العمل في العام 1944 و وحدة النضال والنجمة والاتحاد وشورش وجريدة الأساس وجريدة العصبة الناطقة باسم عصبة مكافحة الصهيونية بإشراف المحامي محمد حسين أبو العيس وصدرت الأخيرتان علنيا ثم أغلقتهما السلطات في ظروف الجزر الذي مرّت به لاحقا الحركة الوطنية والثورية في البلاد.. وكذلك في إطار اهتمام الشيوعيين بالثقافة والإعلام صدرت صحف داخلية مثل الإنجاز و مناضل الحزب ونشرات أخرى كما صدر في السجون عدد منها مثل كفاح السجين الثوري عامي 1954\1953 .. وصدرت في العام 1954  جريدة راية الشغيلة تحت شعار سلم وطيد.. وطن حر وشعب سعيد ثم صدرت في 22 تموز1956 جريدة "اتحاد الشعب"  وهي الجريدة التي صدرت بعد ثورة 14 تموز المجيدة بوصفها الجريدة الجماهيرية التي طبعت الحياة الصحفية وأغنتها بتجربة مميّزة عميقة ويذكر هنا [أبو جريدة الذي ترنّمت به الأغنية الوطنية] عبدالجبار وهبي (أبو سعيد) في ميدان قيادة تلك العلامة المشرقة في صحافتنا..

                         ثم يأتي صدور طريق الشعب  سليلة كلّ تلك التجاريب النضالية المعمَّدة بالشهادة من أجل قضية الشعب والوفاء لمهنة لا المتاعب حسب بل دفع الحياة ثمنا للالتزام بشرف الكلمة وقدسية الحقيقة وتقديمها للجمهور العريض والدفاع عن المطالب العادلة المشروعة وتثقيف الإنسان وشحذ وعيه الطبقي الأمر الذي ظل عاملا مهما في العلاقة مع أغلب شرائح الشعب من عمال وفلاحين وطلبة ونساء وشبيبة حتى راحت أغلب الصحف المهنية التخصصية الممثلة لتلك الشرائح تمتاح منها مفردات واسعة لتعزيز مسارها في العلاقة مع الحقيقة والناس.. ذلك أنَّ الصحافة الشيوعية لم تكن حالة عزلة أو تشرنق على الذات واللون الواحد بل قدمت أوسع فسحة للنشر الصحفي لأطياف سياسية وفكرية متنوعة حتى أنَّ بعض الحركات السياسية نشرت مشاريعها وتصوراتها المهمة على صفحات الدوريات الشيوعية لتصبح هذه الدوريات موئلا ديموقراطيا تلتقي فيه الأصوات المتنوعة وتُحْتَضَن أصوات لا تجد لها فرصة النشر إلا ها هنا في الصحف الشيوعية على الرغم من كون تلك الأصوات تقف على شاطئ آخر مختلف, ولكن ديدن هذه الصحف ظل دائما يلبي حاجة مختلف الروافد للنشر الصحفي وللوصول إلى الجمهور في وقت كان ذلك محظورا لغير ممثلي صوت السلطة في المساحة العلنية المسموح بها.. وبهذا لم تلعب الصحافة الشيوعية دورها بحدود دعائية مباشرة تخص إعلانيا الحزب الشيوعي بقدر ما كانت ممارسة حية للثقافة بأعمق معطياتها لإيصال الفكر النيِّر الحر بتنوعاته لجمهور الشعب مشكِّلةَ َ قوة فعل دعمت الوحدة الوطنية العريضة السياسية والاجتماعية. وهذا ما أكسبها عمقها الشعبي وارتباطها بجمهور عريض ليس بحدود سعة الانتشار حسب بل في العلاقة النوعية التي ترشحت بينها وبين  القارئ وبينها وبين كلِّ المدارس الصحفية العراقية الأخرى, كما أنّها لم تحصر موضوعاتها في الإشكالية السياسية المحضة المباشرة بل تناولت تنويعات الحياة اليومية للعراقي ومفرداته اللامتناهية. ألا يشهد على ذلك ما لعبته يومية طريق الشعب وأسبوعية الفكر الجديد ومجلة الثقافة الجديدة التي ما انفكت تواصل مشوارها في الشأن الثقافي ومتغيراته منذ الخمسينات حتى يومنا هذا بكلّ ما لها من موقع واحترام في وسطها وسعة انتشارها لامحليا بل على المستوى العربي عامة .. فلقد ناقشت الثقافة الجديدة محاور تخص الديموقراطية والحريات العامة وأثرهما في الحياة الثقافية مثلما أغتنى القارئ عبرها بتلك الدراسات عن النتاج الإبداعي والمبدعين في حياتهم وفي مغادرتهم (...) عبر ملفات غنية صارت وثائق مهمة في المكتبة العراقية على صعيد الثقافة والمجتمع وهي كذلك السجل أو الوثيقة الموضوعية لتاريخ الحركة الوطنية والثورية في المنظور العام لمسارها وفي جوهر ما قدَّمَته..

                                لقد طاردت الأجهزة البوليسية القمعية هذه الصحف والعاملين فيها, وعملت على مصادرة أجهزة الطباعة ودور النشر وقمع إداراتها ومنع عملها العلني؛ لكنها لم تستطِعْ وقف صدورها ووصولها إلى القارئ في مواعيدها.. كما عملت على تشويه ما يرد فيها وتجهيز الحملات الدعائية المغرضة ضد تلك المنشورات وفي أحيان أخرى عملت بصور شتى على محاصرة إمكانات التوزيع أو الحركة الصحفية ومتابعة الحدث لكنها وصلت دائما للسبق الصحفي الذي ناضلت لوضعه بين يدي القارئ من منظور احترامه وليس من منظور تجاري بحت كما يحصل في مواضع أخرى. وكانت سباقة للوصول إلى القارئ دائما على الرغم من أنواع الحصار الذي تتعرض له وأقرب شاهد هو كونها الصحيفة العراقية الأولى [طريق الشعب] التي تصدر في بغداد بعد سقوط  طاغية العصر ودكتاتور الدم والدمار والموت الذ ي كمَّمَ كلَّ الأصوات إلا أنَّ الصحافة الشيوعية ظلت تصدر وتوزَّع هناك لتتداولها الأيدي بين الجوانح في الخفاء ولتحملها اليوم علامة فخر لانتصار الشعب على مصادري حرياته العامة ومنها الصحفية.

                                    إنَّ الصحفيين العراقيين إذ يحتفلون اليوم بهذه المناسبة ليسجلون بكل فخار واعتزاز تلك المسيرة الحافلة والسجل التاريخي النضالي للصحافة الشيوعية ويشيرون إلى الرصانة والموضوعية التي تمثلت في تجربتها الثرّة الغنية مثلما يسجلون لها دعمها لتنوع الأصوات الوطنية على اختلاف مشاربها من أقصى اليسار إلى أعماق الاتجاهات السياسية والفكرية الأخرى.. وهم يتذكرون بكلّ إجلال شهداءها الذين لم يسقطوا على طريقها بل صاروا المنار الهادي للجيل الجديد وهو يواصل مسيرة العطاء عاقدا العزم على الوفاء الأكيد لمبادئ صحافة حرة نزيهة مدافعة عن قيم الشعب ومبادئه وهي إنْ لم تكن حيادية فإنَّما تنحاز إلى الشعب ومصالحه والإنسان وقضاياه المصيرية ليس غير وإلا فإنَّها كما كانت دائما عنوانا للموضوعية وللدفاع عن الحريات  العامة ولاغرو في ذلك فهي حاملة شعار وطن حر وشعب سعيد. إذن فلنحتفِلْ جميعا في هذا العيد الوطني المجيد وليتحوّل هذا العيد إلى عيد لكلِّ الصحفيين. اليوم نحتفي به سجلا حافلا نتصفح فيه تلك الأسماء النجوم اللامعة أبدا في سمائنا .. وغدا يكون عيدا تنزل فيه الجماهير محتفلة في شوارع بغداد الحضارة , بغداد المنارة ؛ بغداد الأفراح بعد أنْ زالت غمّة الأتراح بلا رجعة وإلى الأبد . مجدا لشهداء صحافة الشعب وخلودا للأسماء النجوم اللامعة في سمائه..  

 

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان    

                     2003\ تموز    

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

Website :   www.geocities.com/Modern_Somerian_Slates