هل يمكن تحقيق الانسجام بين الطائفية والوطنية؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  04 \ 12

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

الطائفية بمصطلح العيش الذي تبدو فيه عملية تقسيمية تشطيرية تتشرنق بروح  العزلة والانفصال وهي ليست التعبير الصحيح عن المذهب الفكري أو الديني الذي عادة ما يظهر لدواعي إيجابية صحيحة تريد تسهيل قراءة الخطاب الأصل؛ بمعنى صحة وجود المذهب وعناصره وخطأ تجميد أو تكلـّس المذهب بالنزعة الطائفية الانفصالية..

 ومن ثمَّ فالطائفية بهذه القراءة لا تتفق مع الروح الوطني الذي يُعنى ـ بخلاف مضمون الطائفية السلبي المرضي ـ بالوحدة والتلاحم والتعاضد, وهي أي الطائفية تتعارض مع تطلعات المذهب وآلية عمله ومستهدفاته لأنَّ المذهب يعمق التقارب والوحدة فيما الطائفية تمزيق وتشتيت, والطائفية بهذا المعنى تتضارب وتتقاطع تماما مع الوطنية.

إنَّ الطائفية في بعض ما سبب ولادتها تشكِّل فعلا من أفعال الحماية التقليدية التي كانت تستجيب في زمن مضى لطبيعة العلاقات الاجتماعية ولمستوى التطور المتدني في المجتمع وبنيته التكوينية الحضارية.. وعليه فهي في مرحلتنا الحاضرة الراهنة تشكل تراجعا سلبيا خطيرا وارتدادا إلى الوراء إلى حيث قيم التخلف والعلاقات الماضوية المندحرة...

فيما الوطنية قيمة تتناغم مع الواقع الراهني القائم وتشكل أساسا للتقدم الإنساني, وليس من الصحيح في عالم يتجه إلى التوحد والاندماج والتكتلات الكبرى أنْ يفكر مجتمع ما بالتفكك والتقسيم والتقزّم والتشظي على أي أساس كان! إذ الصحيح البحث عن أشكال من التوحد والتفاعل الإيجابي لمصلحة الإنسان..

ولا يجد الباحث الموضوعي في الطائفية التقسيمية المريضة مصلحة له ولا لأبناء طائفته ولكنه يجد فيها ما يضر ويؤخر وينتهك مصالح الفرد والجماعة.. بينما سيكون الانفتاح على الآخر والتعاون معه وتقاسم الحياة المشترك في عناصرها الأساس مسارا موضوعيا نافعا للجميع...

فلماذا تنغلق الطائفة على ذاتها؟ ولماذا تنعزل عن الآخر؟ ولماذا تُخضِع نفسها وأفرادها للعزلة والانفصال؟ وما مصلحتها ومصلحة المنتمين إليها في كل ذلك؟    بالعودة إلى مراحل ظهور الطوائف في مستويات حضارية وُجـِدت قبل قرون بعيدة يمكننا الإجابة عن مثل هذه التساؤلات بالقول إنَّ مسألة العزلة التي بحثت عنها طوائف اختصَّت بمهن أو حـِرَف بعينها كان مسوّغها المحافظة على الكيان الخاص في إطار ذاك المجتمع...

أما بخصوص تشكّل الطائفة الدينية التي ترسخت بناء على ظهور مذهب بعينه فتتأسس لاتـّباعـِهِ [خصوصية] الهوية وبتقادم الزمن تتوارث الأجيال مبادئ المذهب ليس بوصفها جزئية تكتمل ببقية المذاهب ومبادئها ورؤاها بل بوصفها حالة من الكلية المستقلة بل المنفصلة عن الأصل بخاصة بعد أنْ تكون مسيرة المذاهب وأتـْباعها قد ابتعدت عن أصول ولادتها ودخلت حلبة من الصراعات التي اختبأت خلفها قوى لا علاقة لها بحقيقة وجود المذاهب وإنَّما يقوم المذهب وبعض زعمائه بتبرير قضايا وإشكالات ذات طبيعة مختلفة عن مهمات المذهب ..

هنا تظهر الطائفة المتشرنقة بخصوصية انعزالية التي ترتبط من جهة التبرير بأصول إيجابية يمكن وصفها بديموقراطية التطور حيث قبول التنوع في ظل الاجتهاد والتفكير المتفتح, ولكنَّها في الحالة الطائفية تكون غادرت كل أشكال التفتح أو تذكر علاقتها بالأصل لأنَّها في حالة من الصراعات الهامشية المريضة والمرضية إنَّها حالة من الانفصال عن الآخر والتقاطع معه بشكل تناحري عادة ما يُبرَّر بالتظلم من اعتداء الآخر وعدوانيته..

وفي مثالنا تلعب القوى الاستغلالية الانتهازية لعبتها التاريخية المعهودة في ألا يلتقي الطرفان وألا يتناقشان وألا يتحاوران لأنَّ ذلك سيفتح آفاق اللقاء والتوحد من جديد بخلاف أهداف الانتهازية من قوى الاستغلال المعادية للجميع. ولأنَّ عصرنا قد تقدم فيه وعي الإنسان واجتاز مراحل بدائيته ولأنَّ العراقي أكثر وعيا من استغفاله, لذا فإنَّ الطائفية تحمل نقيضها اليوم في داخلها حيث يتجه أبناء الطوائف المختلفة إلى الحوار مع الآخر من منطلق اللقاء والتوحد الإنسانيين اللذين يتجهان بهما نحو حياة كلها قواسم مشتركة ...

وعلى هذه الأرضية فقط لاغير يمكن القول بأنَّ العراقي يقدِّم وحدته الوطنية على انتمائه الطائفي على أساس أنَّه يؤمن بالمذهب الذي يساعده على إدراك النص الأول الذي يوحِّده بأخيه من الدين ذاته وبالمشترك الجوهري وبالتنوع في الثانوي وليس الاختلاف ومن ثمَّ فالعراقي يمتنع على السماح للخلاف بأنْ يحتل موقعا بينه وبين أخيه من الدين ذاته وإنْ كان من مذهب آخر وما عادت الطائفة ولا الطائفية ليُسمَح لها بأنْ تلعب دورها السلبي المرضي ولكنَّها تـُحيَّد حيثما تطلبت المعاني الوطنية لهوية المواطن ذلك, فمصلحة المواطن تتحقق عبر هويته الوطنية وحتى منها مصالحه الخاصة بهويته المذهبية لا يمكنها التحقق إلا بعد تمكنه وتقديمه لهويته الوطنية ..

بينما إذا ما قدم الهوية الطائفية وارتكب جريمة التقسيم الانفصالية أو العزلة عن الآخر وجريمة ركوب مسيرة الصراع والتقاطع مع ذياك الآخر فإنَّ ما سيحصل ليس غير التفكك والانهاك الخطير للقوى بما يضر بالجميع ويستلبهم وجودهم ويجعلهم عبيدا لقوى غريبة على وجودهم الإنساني.. ولات حينها ساعة مندم عندما يكون الجميع في مطب العبودية والخضوع للصوص من خلف أسوار الوجود الوطني...

فلا لقاء بين الطائفية والوطنية إلا عندما يقدم المرء منّا هويته الوطنية على المذهبية ـ ولا ذكر هنا للطائفية ـ عندها تتحقق الأهداف المبتغاة والعكس سيعكس الأمور ويضعنا في حضيض الهزيمة...

خاص بصوت العراق