راية العراق وشعاره وعراقنا الجديد

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  05 \ 03

E-MAIL:  tayseer54@maktoob.com

 

قيل في العلم العراقي الجديد كثيرا ولكنَّه لم يبلغ بعد مقدار الأهمية التي ينبغي لأية أمة أن توليه من أهمية لرايتها ولشعارها الوطنيين. بمعنى أدق أنَّه يمكننا القول:ــ ليس صحيحا أنْ نستكثر تلك المعالجات التي اتفق بعضها واختلف الآخر مع تفاصيل العلم الجديد.. وكلا وجهتي النظر وطنيتان  تعكسان بشكل ما هوية مخصوصة حضاريا ثقافيا مثلما تشخصان القيم الجمالية والمعرفية لمنتوج تلك الثقافة وإبداعها ومبدعيها...

وما يخصّ ظهور الراية الجديدة فينبغي التعاطي معها بالاحترام كونها حالة رسمية وهي في الوضع الراهن صارت في حكم التنفيذ والارتفاع باسم العراق ما يعني ضرورة تأطير مناقشاتنا بشكل مبدئي بالاحترام للرمز والاحترام لرؤية من توخى تقديمه؛ والعمل بعد ذلك على التعرف إلى الوسائل التي تسمح بتغيير الرمز بطريقة موضوعية تستجيب للقيم الحضارية والجمالية الإبداعية لفنانينا المعروفين بتميزهم وقدراتهم الإبداعية...

كما لابد من الإشارة إلى كون مجلس الحكم كان أمام مهمة تغيير الراية استجابة لمطالب شعبية قوية. ولكنه في الوقت الذي اجتهد في التغيير لم يكن موفقا حسب عدد من الأصوات وبخلاف ذلك حسب أصوات أخرى.. والمهم بعد ذلك التعاطي مع الحالة بهدوء وموضوعية من منطلقين: الأول يقرأ استفتاء الرأي العام وتوجهاته لتشكيل أرضية مناسبة تُقدَّم للفنانين المتخصصين من بعد حيث المنطلق التالي الذي يأخذ بتصورات المتخصصين والخبراء لكي يجسِّد الفنان عمليا كل تلك الرؤى بوصفها الانعكاس الطبيعي الذي لا مناص من الانتهاء بعده لاستفتاء أخير لأفضل الخيارات المتوافق عليها بأوسع جهات التصويت...

تلك هي التوجهات الفعلية التي تؤكد دخولنا مرحلة الحياة الديموقراطية واحترام الصوت الوطني ورؤية المواطن وحقه في الاختيار والتعبير عن تطلعاته ومستهدفاته. وتلك هي موضوعية الحكمة التي تستند في اتخاذ القرار إلى التخصص والكفاءة والمعرفة العلمية والفنية أو تلك القيم التخصصية التي تعتمد تكليف الشخص المناسب مع الأخذ باعتبارات رؤى المجموعة الوطنية [الشعب] وقراءة ما يعبر عن تاريخه وحاضره بالدقة والصحة المناسبتين..

وفي الوقت الذي لا أمتنع عن التعبير عن قراءتي الخاصة للعلـَم الجديد أجدني مهتما بكل تلك التصورات التي كُتِبت بدوافع شتى سواء منها المعبرة عن تصورات جدية وتعكس قراءات المواطن العراقي لتاريخه الوطني الخاص أم تلك التي تعبر عن تباينات فيها من الخاص السلبي أحيانا ولكنَّه هو الآخر يمكن الإفادة منه من زاوية نظر أخرى...

وهنا لابد من القول بأنَّه من المهم لفنانينا الذين يبحثون عن التعبير الأفضل ألا يقعوا بين زخم المفردات والرموز وتحميل كل شئ من قراءاتهم في موضع الراية الجديدة أو الميل للتركيب المعقد بطريقة الحشو لمفردات التاريخ والحاضر الوطني, وبين حالة التبسيط والاختزال بمفردة تضخـِّم مفردة أو رمزا على حساب الغائب عن الظهور من الرموز كما حصل في فهم معطيات القمر الذي ظهر بارزا بطريقة أثارت حفيظة العراقي العربي المسلم قبل أخوته من القوميات والأديان الأخرى إذ كان ذلك طغيانا واضحا للتناسب التركيبي العراقي من جهة الرمز الطاغي في أدائه وهو بحق رمز عميق الأثر ومثالي في تمامه وتكامله ومن ثم احتمال قراءته بشكل يثير انفصالية في القراءة ونزعة لحرمان الرموز الأخرى من القراءة التكاملية واحتلال الموقع المنتظر والمفترض فيها...

وينبغي أنْ أذكـِّر هنا وإنْ بشكل عابر بعمق رمز القمر في الحضارة العراقية القديمة فهو ليس بالضرورة تعبير عن الإسلام وحده ولكن ظهور المعنى التاريخي للقمر أمر بحاجة لمزيد من المعالجة الفنية الجمالية في الأداء بما يمنحه فرصة إبراز المعاني التاريخية الأخرى المشار إليها من جهة ويعطيه من جهة ثانية فرصة التفاعل والتكامل مع العناصر الفنية الأخرى التي تظهر في الراية...

كما ينبغي لفت النظر إلى ضرورة أنْ يكون التعبير عن مكونات الشعب العراقي ليس من باب إبراز التقسيم والتشطير بل من باب اللمّ والتفاعل والدمج والتوحيد بمعنى تأكيد الوحدة والاندماج بين تلك المكونات كما هو الحال في الحقيقة وليس كما هو الحال مع عدد من القوى المعادية لوحدة العراق ومسيرته التاريخية الراسخة في تفاعل مكوناته وتعايشهم الحضاري في التكامل والتعاضد والتعاون... كما إنَّ الراية ليست تأسيسا للوحدة بل هو انعكاس لها وتمثيل أكيد وطيد لتلك الوحدة بكل مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والتاريخية وباية معطيات أخرى...

إذن دعونا لا نتوقف عند قراءة الموجود من جهة حسابات سياسية حزبية ضيقة كما يرى بعضنا هذه الحقيقة من جهة سياسة المقايضة بين أطراف المجلس حيث حالة "لكم الشعار ولنا الراية" وكأن القضية محاصصة مِلـْكية [امتلاك] شئ أو آخر وتوزيع تركة!

وهي ليست على أية حال مسابقة رخيصة على المستوى الفني تمَّ فيها اختزال فنانينا أو استبعادهم أو الإطاحة برؤوس كبارهم لحساب آخر.. فنحن على المستوى السياسي ندرك ألا عودة لمن يرى في نفسه الإرادة العليا المطلقة في الحياة العراقية لا فردا ولا المجلس بكل من فيه من قوانا الوطنية المخلصة التي نبادلها الاحترام والتقدير.

ونحن على مستوى الشخوص يوضعون في مواضعهم المناسبة نبدأ عهد التنافس الإيجابي البنـَّاء لاحتلال الموقع المناسب بالمادة التي نقدمها مناسِبة لخيار المجموع ومن ثمَّ نعترف للمتقدِّم فينا بحق فوزه بالتوافق الناجم عن تلك القراءة الجماعية والمتخصصة أيضا...

إنَّ درس الراية درس مهم ومفيد جدا في قراءة تقدمنا للممارسة الديموقراطية في بلادنا في مرحلة الحريات والديموقراطية والتقدم الاجتماعي والسلم. وعليه فلنا أنْ نقترح في الإطار ضرورة التعاطي مع الراهن والتقدم بثبات نحو المعالجة لكل ما ابتدأنا به في عهد مجلس الحكم معالجة جدية موضوعية وعلى وفق منهج دستوري قويم يأخذ بمنطق الحريات والخيارات المفتوحة التي لا تنتهي إلا على صحيح الاتفاق الجماعي والمتخصص...

وعلى وفق ذلك فإنَّه يمكننا التنبيه وتقديم القراءات الضرورية للمشاريع المقدّمة لكي لا تأخذ في الوعي الجمعي العام مسارات من مثل عملية المشابهة التي وقعت بين العلمين الجديد والإسرائيلي فيما يمكن مساءلة الفنان الذي قدم النموذج ومنه نتعرف إلى احتمال خطل رؤية المشابهة وامتناعها, ولكن المفردات وكيفية استخدامها أو توظيفها مع عدم وجود الإعلان الكافي عن رؤية صاحب المشروع هو ما سمح للرؤى العامة وغير التخصصية أنْ تأخذ المنحى الذي أخذته في لحظات تاريخية مأزومة وفيها كثير من الانفعال والتأثر...

ومن هنا يمكن النصح بضرورة تجنب إبراز الرموز الدينية أو المذهبية لما فيها من إثارة غير مناسبة في ظروف العراق التاريخية القائمة, وهي ظروف معروف مَن يحاول استغلالها سلبا وتمرير تصورات تقسيم العراق وتقطيع أوصاله وتقاسم التركة بين قوى إقليمية ومحلية ليس بينها جهة وطنية صميم. فلِمَ لا نطلب تقديم النموذج الذي يعزف على وتر الوحدة الوطنية تاريخيا وفي حاضر التنوع والتعددية التي تبدو من خلال الوحدة.. أو كما يقول المصطلح الجمالي التنوع في الوحدة بما يعكس العراق التعددي الفديرالي الموحَّد...

هذه أمور ممكنة الظهور بترميز لوني مناسب فلدينا الزرقة ومياه العراق من رافدين وأهوار وبحيرات وخليجنا الجميل والشط الذي يميز وحدة الرافدين الخالدين.. ولدينا لقب أرض السواد لتلك السمة الزراعية وكثافة الغابات فيها حتى تصير الخضرة لونا وطنيا ولدينا النخلة والسنبلة رمزان لطالما ظهرا في رايات حضارات وادي الرافدين المتعاقبة ومنهما اللونان الأصفر الذهبي والجوزي.. كما لدينا صحارينا وشمسها الساطعة شمس حضارة عشرة آلاف عام من الإبداع.. ولدينا زقورتنا التاريخية أصل حضارتنا حتى أنَّ الحضارة الإسلامية أخذت الملوية بطراز الزقورة شكلا ولم تتخلَّ عن التاريخ والجذور الحضارية التي لم تكن إسلامية طوال أكثر من ثمانية آلاف عام ..

وحضارتنا تظل في منبعها حضارة طينية وهو ما يؤكد اللون البني أو الجوزي, ولنا من حاضرنا اتجاهنا للتعددية في حياتنا بدءا من مكونات مجتمعنا العراقي من قوميات وأديان ومذاهب وتيارات وهنا أؤكد على حقيقة التنوع والتعددية وليس على مسميات ذياك التنوع ولكن مما يمكن الإشارة إليه وجود الجبل مثلما هو وجود السهل والصحراء... يمكن إذن اتخاذ قراءات عديدة ويمكن الإفادة من كثير من الأمور أرضية لما نبتغيه في رايتنا وللفنان وحده أنْ يختار ويمزج ما يعبر عن أمر بشكل لا يظهر الاستثناء والاختزال وبشكل ينفع ويوفق بين تطلعات مجموع الجمهور وإراداتهم ورغباتهم وذائقتهم الجمالية...

باختصار فموضوع العلـَم سيظل موضوعا مثيرا للجدل وعدم التوافق حتى أنَّه شهد ما ظهر من إساءة أو استخدام التهجم والمعالجات غير الموضوعية بسبب من تطرف بعض المعالجات وردود فعلها غير الصائبة.. ومن هنا لابد من تهدئة الحوار والتأكيد على حق العراقيين في التعبير عن إراداتهم وتنوعهم وغنى رؤاهم وتصوراتهم تعبيرا تاما وشاملا لا يستثني طرفا منهم وأنْ تتم عمليات إنجاز مثل تلك الشؤون الوطنية العامة إنجازا يوظف كل الجهود ويوحدها ويُفاعِل بين أطراف الاختصاص من جهة وبين الرؤى الشعبية العامة وتطلعاتها..

وبانتظار قيام الجمعية الوطنية المنتخبة لابد من التأكيد على احترام رايتنا الرسمية وشعارنا والتعامل معه من هذه الرؤية حتى نستقر على ما يرضي جميع الأطراف ويعبر عنهم بمصداقية وجمالية ترتقي للمستوى الحضاري السامي لشعب الحضارات شعب وادي الرافدين الممثل اليوم في العربي والكردي والتركماني وفي الكلداني والآشوري والسرياني وفي المسيحي والمسلم والصابئي والأيزيدي وفي كل تلك المكونات التي تمثل الجذور التاريخية لشعبنا والعمق الحضاري لوجودنا الراهني ويومنا القائم ولمستقبلنا الذي نتطلع إليه.. كما أننا بانتظار نهوض الجهات التخصصية بمهامها وعدم تجاوزها كما هو حال وزارة الثقافة والجمعيات والاتحادات والبرلمان الثقافي العراقي لأعضائه من داخل العراق وخارجه وهم النخبة المتخصصة التي ينبغي الركون لرأيها في مثل هذه الإشكالية الوطنية ..

ومن المعلوم هنا فإنَّ أغلب الرؤى صبـَّت وتصب في إطار التوافق على إبراز الرافدين وإنْ بأشكال اختلفت فماذا لو عالجنا المسألة من جهة العودة إلى مجموعة واسعة من الاقتراحات ومجموعة واسعة من تاريخنا التعبيري للرايات التي مرت ببلادنا طبعا مع استجابة لإرادة الشارع العراقي في استبعادِ ِ  لكل تلك الرايات التي عبرت عن الدم والحروب ومآثر الموت وسواد المآسي التي مرّت بنا بمعنى إبراز الوجه الجديد بعيدا عن ذاك الماضي المرير قريبا من الوجه الجديد وجه السلم والحريات والديموقراطية والتعددية...

المقترح المقبول اليوم يتمثل في عدم استعجال تداول النموذج الجديد والسير في طريق مراجعة المشروع من فنانينا ومتخصصينا وعرض تصورات الشارع العراقي عامة ومن ثمَّ الاستقرار على نتيجة نهائية يقرها البرلمان الثقافي العراقي في مؤتمره الوطني الأول ومن ثمَّ تُعرض على الجمعية الوطنية العراقية لإقرارها النهائي والتعامل بها بطريقة موضوعية رصينة وغير مستعجلة..

 

خاص بعراق الغد  www.iraqoftomorrow.org