الإنسان العراقي وسنوات الجمر

سنوات الانتظار ولحظة استعادة ما تبقى من العمر؟!!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  05 \ 10

E-MAIL:  tayseer54@maktoob.com

 

عُدَّ نظام الطاغية المهزوم من أعتى النُظُم التي لم تكتفِ بإرهاب الإنسان وإرعابه بل راحت تدفنه حيا مع آلاف من أبناء جلدته في أفران الأرض التي كانت تغلي بمحرقة ذاك الطاغية السادي وأوباشه فيما سُميَّ باسمِ ِ لم يرتقِ لحجم الجريمة "المقابر الجماعية"! وحتى هذه التسمية المقابرية  لم ترُقْ لبعض العربان والغربان الناعقة بحمد ناهب الزرع والضرع ومقسِّم أرزاق العراقي المستهان برمقِ ِ من بقية حياة إنسانية له! وهكذا فهؤلاء لم يعترفوا بعد بوجود ولو مقيبرة صغيرة لضحية من ضحايا سنوات الجمر؟!!

اليوم غاب طاغية الأمس كما غاب من قبله عتاة آخرون؛ ولكننا ما زلنا نتيجة سنوات طويلة من الضيم والاستلاب والدمار نجابه بقايا الجريمة ورذيلتها في عصابات تتكاثر بالتبرعم كطفيليات وفيروسات بعدد مهول [مرعب كالعادة] محاولة التهام ما يمكن التهامه من هذي الأرض الخصبة المعطاء... إنهم كلهيب نار في عاصفة ريح  صيفية وسط غاب كثيف أتى على اليابس وها هو يفعـِّل سرعة نهمه والتهامه, لأنَّه إنْ توقف لحظة يدري أنَّه مقضي عليه بمعاول مكافحة النيران و إطفائها..

اليوم ينظر الإنسان العراقي خلفه قليلا محاذرا من تلك النيران اللاهبة فيجد سنوات بل عقود طويلة مرَّت ثقيلة وتكاد تنتهي ليبدأ زمن فعله لا انتظاره! غير أنَّ قوى الدمار والموت ما زالت لم تنتهِ بعد من حياتنا ولم تمنحه الفكاك من إسار عبودية تخريبهم وتقتيلهم.. كيف ذاك وساديتهم متأصلة فيهم لا يحيون من دونها ولا يتغيرون عنها أبدا كما كانت أزلا معهم هم ديدان الموت وعث الحياة الإنسانية وخرابها؟!

سنوات وعقود من الانتظار والتعطل والتبطل توقف فيها كلّ شئ إنساني فضيل ولم يكن فيها غير حروب متوالية متعاقبة؛ حروب مطحنتها الإنسان العراقي العادي ونتيجتها صبَّت في خزائن الطاغية وموائده الدموية.. سنوات طوال من الانتظار لمناضلة الذات من أجل يوم يتحرر فيه ذياك الإنسان العراقي البسيط  من الانتظار ليوم الانفلات من حروب الموت وحتى من حروب الحرية والانعتاق المفروضة عليه..

سنوات الانتظار التي يكاد يؤذ َن برحيلها إلى غير رجعة ولكنّها تتمسَّك بأهداب البقاء في أذيال زمن العنف السقيم زمن التفجيرات وعمليات الاختطاف والاغتصاب وجرائم القتل بالجملة ومشاهد تعذيب الأطفال والنساء والشيوخ بسادية مقيتة..

سنوات من انتظار أنْ تنتهي كل تلك الجرائم البشعة بحق إنسان العراق السومري الصابر آلاف من سنوات الشدّة.. ألا تكفي كل تلك السنوات من الألم والبؤس والتعذيب؟  ألا تنتهي سنوات يتزايد استشراس أفاعيها المجنونة وذئابها المسعورة يوما فآخر؟!

سنوات من انتظار لحظة رحيل الباغي الذي دارت عليه الدوائر من غير أنْ ترحل معه مخالبه الذئبية المسمومة.. وصراخ لم يعد أخرسا ولم يعد في فراغ..  فعنف اللحظة يكثـِّفُ آلام كل سنوات الانتظار التي انصرم منها لبـّـُها ولكن بقايا قشرة مدعوكة بالسم القاتل مازال يعوي لحظة النزع الأخير من حياة السادية والساديين..

سنوات من الانتظار سرقوا فيها أعمار ذياك الإنسان العراقي الطيب عبر أزمانه .. سنوات من الانتظار سرقوا فيها زهرة شباب الإنسان فمن كان صبيا أو شابا يوم تسـلـَّم الطاغية الموبوء مفاتيح الحياة في بلاد النماء والحياة فاجتثَّ اليانع والريان صار اليوم شيخا محدودب الظهر من أحمال زمن الانتظار والحروب من أجل الانعتاق من حروب الدمار وغيرها...

ألا يكفي أيها الأوباش أنْ تتركوا هذا الإنسان العراقي الجميل يستعيد لنفسه إنسانيته فيما تبقى من حياته؟ ألا يكفيكم ما امتصصتم من دماه؟ ألا يكفيكم سنوات الانتظار التي ركنتموه فيها على رفوف النسيان وصمت مقابركم التي صنعتموها؟ ألا يكفي ما سرقمتم من عمره؟

ألا يكفي أنَّكم استعبدتم فيه زمنه الحقيقي؟ وألا يكفي ما سرقتم من عمره جوهره زمن شبابه وربيعه؟ ألا يكفي ما ابتليتموه من مرير الأحمال وقاتل الأثقال؟ ألا يكفي ما انتهكتم منه وما استلبتم؟

أيّ هذا العراقي العظيم بحجم آلامه وتحمّـله فلتكن اللحظة لحظة خلاصك الأبدي واستعادتك حياتك ومجدك وصحتك وشيئا من بقية عمر للإنسان وكريم حياته! أيّ هذا الإنسان العراقي الكبير بقلبه المتخم عذابا فلتكن اللحظة لحظة انعتاقك من كل ما مرَّ من عذابات ولترجع إليك حياتك المركونة على رفوف النسيان والانتظارات الأزلية ولكنها بإرادة صلبة لن تكون أبدية! أيّ هذا الإنسان العراقي الرائع الجميل فلتكن هذه اللحظة لحظة الحب والجمال والروعة لأجمل ما تبقى من أيام العمر...

لا تتركهم ساديّي الزمن الموبوء أيها العراقي العزيز يسرقون منك ما تبقى من لحظات ويركونك مرة أخرى على مصاطب الانتظار لقد انتهى عهد الانتظار إلى الأبد وبدأ عهد امتلاك كل لحظات عمرك الجديد المديد السعيد... إنتهت سنوات الجمر.. انتهت سنوات اهمالك والانتظار انتهت سنوات سرقتك سرقة أعوام عمرك الجميل انتهى زمن الوباء والانتظار وبدأ زمن النماء والعمار...

خاص بالكاتب العراقي www.iraqiwriter.com