سيادة القانون على الجميع

وذرائعية التعامل مع أصحاب السوابق

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  05 \ 07

E-MAIL:  tayseer54@maktoob.com

 

في أية دولة متحضرة وحتى غير المتحضرة وفي أية جماعة لابد من التوافق على أسس وقواعد للعيش المشترك, وعلى قانون ينظم مبادئ العمل بين اعضاء المجموعة أو أبناء الشعب في بلد ما. ومن الطبيعي أنْ يسود القانون الجميع وأنْ يتعاملوا معه من باب الاحترام كونه يمثل وسيلتهم لاحترام الذات ولاحترام الآخر الذي يعني فيما يعنيه القبول للآخر بحقوقه بمقدار قبوله بحقوق المجموع وتعامله إيجابيا معهم..

كما سنجد من الطبيعي أنْ يكون خرق فرد للقانون مؤداه محاسبة متوافـَق عليها في إطار القانون نفسه فيما يمكن تسميته بقانون العقوبات أو لائحة حماية حقوق المجموع من الاعتداء الفردي أو الجمعي عليها.. ولا يمكن بحال من الأحوال استثناء طرف من المحاسبة في حال خرق القواعد والقوانين. لأنَّ الاستثناء يولد التمييز وهذا الأخير سيمنح فرصا لاختلال التوازن والانتقاص من العدالة والمساواة التي يفترضها التوافق على قانون مشترك لدولة أو جماعة...

وفي عراقنا الجديد توافق الجميع رفض الدكتاتورية وطغيانها الدموي الذي حرق الأخضر واليابس واجمعت الأطراف الوطنية المخلصة للشعب على العيش في ظل نظام ديموقراطي يحترم فيه جميع ابناء الشعب وحقوقهم على قدم المساواة بين الجميع ومن دون اي تمييز أو تقديم لمواطن على آخر لأية حجة أو ذريعة فقد انتهى زمن المصادرة والاستلاب وزمن التحكم وفرض السلطة بالإكراه وزمن تفرد شخص أو جماعة أو جهة أو مرجعية من أي نوع كانت بالحياة العامة...

ولم يعد لجهة أنْ تزعم لنفسها بأنَّها ممثلة شمولية أو كلية أو لأغلبية فتستلب الأقلية أو لقدسية من اي نوع فتستلب أطرافا أخرى من حقوقها في الحياة الحرة الكريمة في ظلال ذرائعية تزعمها هذه الجهة أو ذاك الطرف... كما يحصل اليوم من تشكيل بعض مراهقي السياسة لقوات مسلحة أو عصابات منظمة ومجموعات العنف الدموي ليصادروا بها الحياة السلمية المنتظرة ويفرضوا بقوة البلطجة أنفسهم على الشارع بوصفهم حسب مزاعمهم أوصياء القدسية الإلهية على الأرض..

فراحت جماعة مثل جماعة مقتدى التي لبست لبوس أو قناع الانتماء للمدرسة الصدرية وتذرعت بخيارات طائفية وزعمت الدفاع عن مصالح طائفة أو جماعة وهي أبعد ما يكون عن الدفاع عن مصالح إنسانية... إذ راحت هذه الجماعة تطارد الفتيات في الشوارع بادّعائها أنَّهن خاطئات لابد من هدايتهن وعملت على اغتيال أئمة ومراجع دينية وسياسية مثيرة الفتن وعدم الاستقرار...

ولأنَّ تلك الجماعة الآثمة تدرك الظرف الخاص للعراق الجديد وتعرف الملابسات الراهنة بما يجعلها تتخيل أنَّها أقوى من القانون وأعلى من أنْ تـُعاقب فقد تمادت في أفعالها الإجرامية ولم تكتفِ بالتهديد لحيوات المواطنين بل صادرت تلك الحيوات ولنقرأ مثلا اغتيالات المسيحيين والسنّة في البصرة ومطاردة الفتيات وحتى اختطافهن في وضح النهار في أبرز المدن العراقية العاصمة بغداد والبصرة وغيرهما.. كما عملت على تشكيل جيش جهارا نهارا وتعلن أنَّه هو جيش العراق الوحيد وأنَّ قواتها هي المؤتمرة بوزارة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" مكفـِّرة كل الآخرين...

وغير هذه القوة توجد عصابات أخرى من الطيف نفسه وتحتمي بعضوية السلطة الجديدة أو تحتمي كما أشرنا بادعاءات تمثيلها للتيار الديني من هذه الطائفة أو تلك وهي تغطي بمثل تلك الأقنعة أفعال إجرامية تعتدي على القانون وقبله على الناس ومصالحهم الجوهرية. هذا غير مسائل من نمط السمسرة لبعض الأطراف الإقليمية أو الدولية ببعض الشؤون العراقية الخطيرة كمنح الجنسية لأجانب [بخاصة من إيران] وهو ما لم يعد بخافِ ِ على أحد ومنح هويات عراقية للتجول لعناصر ليس من شغل شاغل لها في البلاد غير التخريب والتدمير والتقتيل...

فهل يعتقد طرف من الأطراف بأنَّ الحياة يمكن أنْ تستقيم بوجود استثناءات لشخصية تدعي مرجعيتها السياسية وقيادتها للبلاد لمجرد انتسابها لعائلة ذات تاريخ تحترمه قوى عراقية واسعة؟! وهل سيكون لشخص أنْ يحكم العراق لمجرد أنَّه صحا من نومه فوجد أنَّه القائد الملهم الجديد للبلاد والعباد؟ وفي سَورة غضبه ممن يعترضه يطيح برؤوس أينعت وحان لسيفه الباغي أنْ يفصلها عن الجسد كما حصل مع عميد كلية العلوم الذي فصل [مجرمون؟!] رأسه عن جسده بعد أنْ منع أدعياء التديّن من استغلال الحرم الجامعي لمآربهم وحاول منع ترويعهم الطلبة بحجة حزنهم بعاشوراء..

ثم لماذا الترويع للطلبة والطالبات بخاصة في الجامعات؟ ولماذا إعدام الأساتذة وأحكام الجلد والموت بحق العلماء بالذات؟ ولماذا حرق المكتبات ومعاهد العلم؟ ولماذا الاعتداء على الصحف الديموقراطية وعلى موزعيها؟ ولماذا تفجير مقرات نقابات الصحفيين والفنانين؟ ولماذا الاعتداء على مدارس الفن والجمال؟ أسئلة لا تعد ولا تُحصى في جرائم كلها تختبئ خلف قناع الدين والتدين وكأن الأحزاب التي تسمي نفسها إسلامية هي قدر العراقيين الذي لا مناص من حكمه الجائر الجديد الذي يصادر كل علامة للحرية والتحرر وللديموقراطية والسلم والطمأنينة والاستقرار...

فهل لهؤلاء حق زعم أنَّهم لا يخضعون لقانون الأرض؟ هل لأحد حق الادعاء أنَّه فوق القانون؟ لا حياة للعراقيين كريمة وآمنة ومستقرة حافلة بالعز والرفاه المبتغى إلا في ظل سيادة القانون على الجميع ومساواة الجميع أمامه ومنع الاستثناءات ومنع الطوارئ ومنع التفاضل والتمايز وتقدم طرف على آخر لأية ذريعة أو حجة..

وإذا أردنا من مصير آمن وتغير سريع باتجاه الحياة الحرة الكريمة, فعلينا أنْ نتوافق على سيادة القانون على الجميع. إذا أردنا لأبنائنا الخير وألا يمروا بما مررنا به من كوارث ومصائب فعلينا أنْ نتوافق على عدم دعم طرف يخترق النظام العام حتى لو كان الأمر مجرد مخالفة مرورية فلا نستصغرنَّ تلك المخالفة لأنَّه بها [بهذه المخالفة الصغيرة] تبدأ الجريمة الأكبر حيث يستساغ كل شئ ويجري التعايش معه من دون روح مسؤول تجاه عملية وقفه...

إذن نحن بمجابهة رحلة خطرة لابد فيها من تحديد كل خارج على القانون بوصفه مجرما يخضع لعدالة القانون وقصاصه ولا يوجد أي استثناء في الأمر أما القبول باستبعاد شخص أو طرف من المحاسبة القانونية مخافة ردود الفعل السياسية فأمر قد ينفع للحظة تاريخية ولكنه يؤسس لأخطر وضع لعراق الغد.. إنَّه يؤسس لعراق الخراب والدمار والتقاتل وكما يقولون بالدارج اللهجي لـ "حارة كلمن أيدو إلو" بمعنى عودة زمن القبضايات وأشقياء الشوارع, ولن يعود لقانون وجود سوى قانون الغاب الذي يسطو فيه أصحاب العنف والعصابات الجائرة على الحياة العامة والشارع..

حينها ليس لنا مرجعية في دولة تحمي المواطن والوطن وليس لنا من أمل في استقرار وما تبقى يقول العراقيون "اقبض من دبش" فالويل والثبور وعظائم الأمور وطريق المساكين ليس غير القبور والساحة ملعب لأتقياء ىخر زمن من متأسلمي السياسة الجديدة. ولا فرق بعد ذلك بين عصابة رايتها سوداء وأخرى رايتها خضراء أو بيضاء أو قل ما تشاء من ألوان رايات أيام زمان مما خلا الدهر بأهلها قبل عصور ودهور...

أيها السادة من مواطني بلاد النهرين لا تأخذنَّكم نخوة العشيرة والطائفة والدين والدم والنسب وكل براقع وأقنعة التاريخ الذهبي والقيم السامية وأنتم أذكى وأكثر انتباها من تنبيهكم إلى ما يجري من أمور تـُحاك ضد مصالحكم في أروقة أحزاب التأسلم والطوائف وأدعياء المرجعية وسَرَقـَة مسميات الآيات والحجج وما هم كذلك من شئ إلا ادعاء وزيفا وبهتانا فالتفتوا إلى مصائركم واعزلوا أشقياء الزمن الردئ حتى يصحوا عراقكم ليومه وغده ويكون لأبنائكم منكم حظوة بخير تورثوهم إياه..

فلا تبخسوهم إرادة تقف بعزيمة ضد أفاعيل الطيش والمراهقة السياسية وأنتم أدرى بالخارجين على القانون وأنتم أدرى بالقيم الدينية الحقة والمذهبية الصافية الرحيمة والإنسانية الكريمة ولستم بحاجة لآمر يأمركم بها وناهِ ِ ينهاكم عن الضلال فلستم من أهل الضلال ولستم من أهل الجريمة والخطيئة ولستم من المحتاجين لوزارة التكفير والتطهير فأنتم الأطهار أصحاب الأرض الطاهرة..

ولنكن مع القانون وكلنا سواء في ظلاله ولنكن حماته لنحترم وجودنا ونبني مستقبلنا ومستقبل أبنائنا الذي يكاد المجرمون تدميره وتخريبه لزمن بعيد لا نقرأ في نهايته ومضة نور.. ولا نترك لية ذريعة أو حجة يطلقونها من قبيل إذا اعتقلنا هذا الشخص فوراءه جمع يثير عدم الاستقرار وإذا اعتقلنا ذاك فوراءه تلك القوة الكبيرة أو ذاك الجمع من دولة مجاورة فلا نعتقل دعي يزعم مرجعيته لطائفة [الأغلبية] لأن وراءه جمع وإيران وأفغانستان... ولا نعتقل نائبا له ولا زعيم عصابة ولا نناقش في جرم بعثي أعلن توبته وهو قاتل مئات وآلاف!! والعجب العجاب أنَّنا محكوم علينا بمصالحة مع طاغية ما زالت المقابر التي افتتحها فاغرة الفاه على يد أتباعه وبقاياه وعصابات بغيه وعدوانه وجوره!!

لا أيها السادة إنَّ الشعب العراقي طريقه طريق السلم والتحرر والديموقراطية ووسيلته إلى ذلك دولة القانون وسيادته على الجميع ولا استثناء في ذلك ولا حجة ولا ذريعة لأحد للتهرب من القانون. ومَنْ لا يخضع بالعدل والنصيحة والسلم فالدولة تمتلك وسائلها لإخضاعه وجماعته مهما كبر حجمه وامتدت جماعته ووجدت وسائل دعمها اللوجستي من دول أو تحالفات إذ الدولة الجديدة دولة القانون ليست دولة السبهللة والانفلاش ففي الوقت الذي يُباح فيه العمل السلمي للجميع والحريات للجميع لا تنتهي إلا حيث تبدأ حريات الآخرين..

 وحيثما بدأ اعتداء على الآخر فمهمة الدولة وقف الاعتداء بكل الطرق وليفتح المجرمون عدوانهم بالسلاح فالدولة ليست عاجزة وبغير سلاح ولابد للعدالة أنْ تقتحم كل أوكار الاحتماء والتخفي .. ولا حرمة لمجرم يحتمي بسور بيت أو مدرسة أو معبد إذ لو تركنا المجرمين يحتمون بالجوامع فإنَّنا نهدد بهم الناس وسلامتهم ونهين الجوامع وحرمتها لأنَّها مدّنسة بأقدام المجرمين ومسؤولياتنا جميعا تطهير كل شبر من أرضنا من الجريمة والإجرام وأولها الجوامع التي يحتمون بها محاولين التضليل بأنَّ الدولة تهاجم الجوامع والكنائس والحقيقة عكي ذلك تماما حيث هم يدنسون تلك الحرمات والدولة مسؤولة عن تطهيرها منهم ومن دنسهم ..

ولا ينخدعنَّ إنسان مؤمن متقِ ِ بتضليل أو بأباطيل لهؤلاء ولنتوافق على دولة القانون واحترام الحريات والحقوق والسلم والأمن والأمان فذلكم هو طريق العراقيين اليوم قبل الغد. ولنؤمِّنْ لأبنائنا غدهم ولا نتركنَّ لهم الجريمة تسطو على حيواتهم... ولنُخرج الدخلاء والأدعياء من بيننا وإلى الأبد كما أزلنا الطاغية وحكمه الأسود...