السيادة الوطنية محدداتها وطبيعتها بين الأمس واليوم؟
الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  05 \ 17

E-MAIL:  tayseer54@maktoob.com

 

تتصاعد من بعض القوى دعوات لاستبدال قوات الاحتلال الممثلة بقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بقوات القبعات الزرق. وهم يتصورون عودة السيادة عبر هذا الاستبدال أو يعتقدون بأنّه لا يمكن البدء بمسيرة استعادة السيادة إلا عبر هذا الاستبدال...

ولكنهم في الحقيقة يغفلون عن مسائل كثيرة يعتقدونها هامشية أمام كلمة احتلال وأمام كلمة أمريكا. وفي الحقيقة فإنَّ أبعد ما يمكن ملاحظته في مطلب الاستبدال هو أنَّهم يعجزون عن التصريح بحاجة العراق في ظل ما هو فيه من أوضاع إلى قوات داعمة لمؤسساته الجديدة ويغفلون أو يتغافلون عن طبيعة قوات القبعات الزرق وأدوارها وإمكاناتها وما أفرزته التجاريب السابقة لها في مختلف البلدان التي ذهبت إليها..

كما ينبغي أنْ نتذكر في ملاحظاتنا على طلب الاستبدال مسائل من نمط معرفة معنى السيادة الوطنية ومعنى وجود قوات أجنبية وهل يشكل وجودها باستمرار وبالمطلق احتلالا كما يرى ذلك أصحاب هذه النظرية [الاستبدال] كما ينبغي أنْ نلاحظ ذلك الكره المسبق لكل ما يعود بتسميته إلأى أمريكا وكأن أمريكا كل متجانس يشكل نقيضا لوجودنا وعدوا مطلقا لنا!!

فأما مسألة أمريكا فنحن نعرف انقسامها بين نظام حكم وإدارة حكومية وإلى لوبيات متحكـِّمة [جماعات الضغط والتأثير] وإلى مصالح اقتصادية وسياسية واجتماعية كما تنقسم على سلطة عسكرتارية وجيش من مصانع الأسلحة والتسلح ومن طبقة أصحاب الشركات عابرة القارات في سلطتها وشبكة انتشارها وعلى  شعب مقسّم في ضوء تلك القوى المؤثرة فيه...

فهل يمكن أنْ تكون كل هذه الأقسام عدوة لمصالحنا ووجودنا؟ ومن ثمَّ هل يجوز الخلط عند الحديث عن أمريكا وسيادتنا الوطنية بهذا التعارض المصيري المطلق.. ألا يكون ذلك تعارضا مع مصيرنا نفسه وتعريضا له لمخاطر افتعال أعداء له ممن يمكن أنْ يكونوا أنصارا له من داخل أمريكا المفترضة بعبعا مضادا لنا!!

إنَّ الدفاع عن مصلحة أو سيادة وطن توجب على الطرف المدافع أنْ يكون على مستوى فهم الأمور وخوض معركة الصراع السياسي ومنه العسكري الحربي إذا ما اقتضى الأمر فهل يمتلك أصحاب نظرية البعبع الأمريكي المعادي لنا بالمطلق  حقا خبرة تلك المعركة؟ الحق يقال إنَّ من لا يستطيع قراءة الآخر لا يمكنه أنْ يرتقي إلى مستوى الدفاع عن الذات وعن السيادة الوطنية...

فإذا كانت هذه حقيقة فهم أمريكا فكيف بنا وفهم مفردة احتلال؟ وهل كل وجود لقوة  أجنبية هو احتلال بالمطلق؟ ينبغي العودة إلأى مسائل من نمط تلاقي المصالح المؤقت وإلى مسائل من نمط تبادل القواسم المشتركة ومنافعها حتى بين القوى المختلفة في مصالحها ورؤاها وقد حصل في مسألة احتلال العراق من قبل القوات الأمريكية أنْ التقت مؤقتا مصالح أهل البلاد من جهة تحررهم من أعتى نظام دكتاتوري وانعتاقهم منه..

 وحصل أنْ كان من نتائج ذياك الاحتلال أوضاع شاذة في البلاد كان نظام الطاغية قد خطط له وهو إخلاء الميدان من مؤسسات الدولة حيث لا وجود لإدارة أو مؤسسة حكومية تسيِّر الحياة العامة بخاصة منها انهيار الجيش وحماية الحدود أو بدقة انفتاح الحدود على مصاريعها لكل من هب ودب من الدخلاء والسوقة والمجرمين وأصحاب المصالح فضلا عن خلو الشارع من أجهزة الحماية المدنية والأمن العام للمواطن.. وقد كان من جراء ذلك حاجة ماسة لوجود قوات تساعد على تلك الحماية وعلى ضبط الأمن العام من السوقة ومخترقي القوانين وتجار لحظات الأزمات والحروب...

وبأية حال فتلك بعض المصالح التي التقت والحاجات التي فرضت قبول الآخر [من قوات احتلال] مؤقتا لحين قيام مؤسسات الدولة الوليدة بمهماتها.. لكن هل يتوقف أمر الحديث عن الاحتلال كونه النقطة الوحيدة في حياة الشعب العراقي؟ منطق الأمور يشير إلى أنَّ حكاية التفرغ لمشكلة الاحتلال ليست هي القضية الأساسية في حياة أبناء الشعب لأنّنا أصلا في ظرف يتطلب وجود قوات أجنبية لمساعدتنا...

 ولكن تركيز بعضهم على الاحتلال بل انشغالهم المطلق به ومحاولتهم جر الناس وقواهم جميعا إلى الانشغال بالاحتلال هو أمر بين اثنين أولهما محاولة تضليلية للتغطية على المستهدفات الحقيقية وهي التي تكمن في الدفاع عن بقايا النظام المندحر وإعادتهم إلى مواقع المسؤولية وسرقة حياة الشعب من جديد وتلك سنؤكدها في سياق موضوعنا وتحليلنا هذا والأخرى خطل فكري وسياسي بسبب من عمليات التجهيل والمخادعة والتضليل  التي طاولت شعبنا طوال عقود أربعة من الزمن ما منع من التحليل الصائب للأمور عند بعض المخلصين من قليلي التجربة السياسية وحنكتها..

لقد اعتقد بعض الشرفاء كون كل تحليل لا يقف بوجه الاحتلال مباشرة وينشغل به بوصفه الحلقة الأولى والأخيرة هو تحليل غير صحيح ومعادي للشعب ويجامل الاحتلال على حساب السيادة والمصالح الوطنية.. ولكن لنقرأ الوضع من جديد.. عبر قراءة مفهوم السيادة الوطنية في لحظتنا التاريخية القائمة...

فبالأمس كانت الاقطاعية أو الإمارة أو المملكة التي تخضع لقوانين النظام الاقطاعي وتشكيلته الاقتصادية تسير إلى استقلال تام لكل مساحة محددة بممتلكات الاقطاعي أو الملك أو الحاكم ومع ولادة الثورة الصناعية وتغير المجتمع إلى نظام الرأسمال وسطوته ولدت الدولة الحديثة واتسعت رقعة التبادل بين الأسواق وجرى تقسيم السوق على أساس سيادة الدول الكبرى صاحبة القوة العسكرية والاقتصادية طبعا..

وفي لحظتنا التاريخية الراهنة ما عادت الشركات الكبرى شركات وطنية داخل دولة بريطانيا أو فرنسا أو أمريكا بل اتحدت فيما سميّ الشركات متعددة الجنسية ولابد للرأسمال هذا وهو يتجه بمركزة أعماله وسطوته وسلطته من قوانين جديدة تحميه هي في الحقيقة فوق قوانين الدولة وبذلك فنحن بمجابهة قوانين حماية الشركات متعددة الجنسية التي تخترق الحدود الوطنية وتصنع زمن عولمة جديد..

فهل بقي في ظل هذه القوانين الجديدة ثبات لمفهوم السيادة الوطنية أم تنازلت تلك السيادة عن بعض مفرداتها لصالح نظام العولمة والشركات فوق الوطنية؟ ليس لعاقل أنْ يحيا في ظل تصورات وقيم من زمن الاقطاع وما قبله من زمن قبل ألف عام وليس حتى من زمن قبل مائة عام!

فالسيادة الوطنية التي يتحدثون عنها مخترقة اقتصاديا شاؤوا أم أبوا وهي من ثمَّ مخترقة من جهات أخرى حيث قوة الدولة بمتانة اقتصادها تصنع قوتها العسكرتارية التي تحمي صنفا من مصانع الاتجار والربح هي مصانع الموت أو مصانع السلاح والجيوش وعليه فتلك القوى من غير الممكن التعامل معها بطريقة المجابهة المباشرة بين قوة العصا والمكوار وقوة الأسلحة الموجهة بالليزر وغيره.. والسيادة الوطنية مخترقة من كل ناحية وبجميع القيم التي يراها أصحاب قول "أمريكا عدوتنا بنظامها وشعبها ووجودها, نقضي عليها قبل أنْ تقضي علينا!!"

وبمثل هذا الواقع فإنَّ الرد الجديد لا يقع في الماضي أي لا يقع في المجابهات بين البلدان والأوطان وكتلها المتعارضة المستقلة عن بعضها ولكن المجابهة اليوم تكون بين هذا التوحّد والاندماج بين الشركات وقوى الرأسمال من جهة ولا يكون مقابله إلا وحدة الشعوب في عولمة للتضامن الأممي مقابل عولمة الرأسمال والاستغلال.. هذا هو التعارض الحاضر وليس ما يسمى الدفاع عن السيادة الوطنية بالمفهوم التقليدي للاستقلال والسيادة...

وما يقتضيه هذا الصراع ليس الانشغال بقوات الاحتلال بالتحديد بمقدار ما يكون في الانشغال بتعزيز تماسك جبهة الشعب ومصيره ومستقبله وحياته وأمنه وحقوقه البشرية الآدمية ضد كل أشكال استغلاله من وحشية القوى العدوانية والظلامية سواء من همجية قوات الاحتلال نفسها ومقاومة أشكال جرائم الحرب التي يمكن أن ترتكبها كما حصل في فضائح سجن أبو غريب أم من همجية الظلاميين الذين أفرزتهم قوى الاستغلال وعولمة الرأسمال العالمي وجرائمهم المعادية لأبسط حقوق البشر..

ولنتذكر بأن من مقاومة بعض جرائم الحرب قد جرى بتعضيد من عناصر أمريكية في الجيش الأمريكي نفسه عندما فضحت الجريمة وعندما ساهمت الصحافة الغربية والإعلام الغربي وقريبا القضاء الغربي أو الدولي في متابعة الجريمة وإعادة الحقوق.. ولم يكن فضح الجريمة عائدا لمتفجرات يزرعها يوميا أوباش الزمن الردئ في أسواق الأحياء الشعبية ولا في الجوامع أو المدارس وهذه كلها لن تكون مقاومة ولن يسميها طرف مقاومة إلا المجرمين والسوقة أنفسهم الذين يرتكبونها وبئس ما يحاولون التضليل به...

إنَّ السيادة الوطنية تنتقصها تلك الجرائم التي تهدد أمن الوطن والشعب وتنتقصها علاقاتهم بالمافيات الإقليمية والدولية ولا ينتقصها وجود قوات يحتاجها الشعب للمساعدة على ضبط الأمن ... وفي القريب حينما تتسلم حكومة وطنية السلطة وبعدما تجري انتخابات وطنية عامة حرة سيكون الانتقاص من السيادة عائد لوجود تلك الجرائم وليس لوجود قواعد قوات أجنبية..

إذ مفهوم السيادة الوطنية تغير تماما اليوم ولم يعد كما هو بالأمس ولم يعد يعني انفصال دولة وعزلتها عن محيطها وعدم تمكن ذلك المحيط من الوصول بعلاقة ما مع داخل تلك الدولة ولم يعد هناك ما يمنع التدخل عبر الفضاءات التي صارت مفتوحة بالمطلق لأشكال الاتصال والاختراق..

أما السيادة الوطنية بوضعها الجديد فهي تعني أول ما تعني حماية حق الإنسان في الوجود الحر المستقل الآمن وفي تحقيق مطالبه في الحياة الكريمة بعيدا عن التهديدات بأشكالها ومن ذلك حقه في هويته الوطنية المخصوصة وما تفترضه تلك الهوية من قيم.. أما مسائل العسكرة والجيش الوطني والسلاح الوطني فهي أمور ليست مركزية وصاحبة أولوية لا نملك بعدها أولوية لأن الحياة الإنسانية ليست عسكرة ولا يحق لطرف أنْ يصادرها باسم أية قضية مركزية في وهمه وخلده وعقله المريض ببطولات مزعومة..

إنَّ الإنسان هو الأولوية وهو وحده الذي يمتلك حياته وهو الذي يقرر ما يمنح منها وما يبقي وهو وحده ما يوقف الآخر عما يريد وما لا يريد وليس من حق سلطة أن تصادر حياته أو مفردة منها لصالح قيم أو مبادئ سواء منها الوطنية أو القومية أو الأممية أو أية شعارات أخرى إلا بما يتوافق مع معطيات حماية تلك الحياة الإنسانية ويعزز من الحريات المشتركة التي تعلن حقها المطلق حتى تبدأ حقوق الآخرين فيتوقف ذلك الاطلاق ...

وبمختزل القول فالسيادة الوطنية ليست قيمة ثابتة مطلقة ومسار البشرية وتطورات أوضاعها تشير في كل مرحلة إلى قيم جديدة أو مبادئ جديدة تتناسب مع الواقع الجديد من متغيرات التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية وما تفترضه من تغييرات في القيم الأخلاقية والسياسية والفلسفية وبهذا فنحن لا نجد إرهاب أبناء الشعب وأخذهم رهائن بيد القوى المتطرفة الإجرامية وعصابات الموت الأسود وسيلة للسيادة الوطنية المزعومة في شعاراتهم لتضليل الناس والتغطية على مقاصدهم وهو ما لا يمكن أنْ يحصل لشعب الرافدين الواعي المتحضر..

كما إنّ السيادة الوطنية العراقية يحميها أهلها بحكمتهم وبقوة تلك الحكمة وليس بقوة تلك الجريمة وأفعالها في إيذاء أبنائنا من الأطفال والنساء والشيوخ .. كما أن إخراج القوات الأمريكية ممكن بطرق كثيرة غير العمليات الانتحارية الفردية ولن يكون إلا بقوة السياسة الوطنية العراقية وتماسك أطرافها ووحدتهم وتوجههم على وفق برامج صحية صحيحة.. وسيادتنا الوطنية مرهونة بنضالاتنا من أجل إشادة صرح متين لمستقبل أبناء وطننا وغشادة علاقاتنا الصحيحة مع القوى الدولية ومراكزها المختلفة بما يعود علينا بما ننشد وما نريد لوطننا وشعبنا.. هناك تكمن السيادة الوطنية وليس في أحضان الموت وفي المقابر وشعارات الجريمة والتمرد على قيم الإنسان أثمن رأسمال في هذا الوجود..

 

 

خاص بالحوار المتمدن   www.rezgar.com