اجتثاث البعثفاشية من وادي الرافدين؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  05 \17

E-MAIL:  tayseer54@maktoob.com

 

منذ أُطيح بالنظام الدكتاتوري الدموي وجد العراقيون أنفسهم في حالة من مجابهة متصلة مع بقاياه التي استقلت وراحت تنسف كل عمار فتحيله خرابا وتشيع فزاعة الموت الأسود عبر عمليات يستقتل فيها الانتحاريون من أولئك الذين لايجدون في التحول نحو دولة الديموقراطية والسلام أرضا لهم وحياة.. من أجل ذلك اضطر العراقيون إلى اتخاذ قرارهم الحاسم في ضرورة اجتثاث بقايا البعثفاشية من وادي الرافدين والخلاص من شرورهم..

وهناك سبب آخر لمثل هذا التوجه هو ما يشير إليه البحث في تجاريب الماضي القريب في أسباب ظهور البعثفاشية وسيطرتها على مقدرات نحو الخمسة وعشرين مليون إنسانا عراقيا. وقد أشارت الحقائق الدامغة على أنَّ ترك الفرصة للتشكيلات العنصرية والقومية الشوفينية ولتلك المنظمات العسكرية في قوانين وجودها وآليات عملها في الحياة العامة, هي القاعدة أو الأرضية المناسبة لظهور البعثفاشية في بلادنا..

وينبغي باستمرار البحث في مسببات تلك الكارثة المأساوية من أجل اتخاذ القرارات المناسبة لإزالتها نهائيا ومنعها من العودة بشكل تام وحازم. لذا يمكن الإشارة بشئ من التفصيل إلى كون تلك التنظيمات القائمة على روح العصابة المافيوية أسَّست بنيتها على عمل الميليشيا العسكرية وآلية أنشطتها القائمة على العنف الدموي واستباحة كل شئ من أجل تحقيق أغراضها وأطماعها..

ولم يأتِ ذلك من عدم, كما لم يكن ذلك قائما على تهويمات ورؤى أو خيالات مرضية بل قام كل شئ على أرضية من التنظير العقائدي وأيديولوجيا الفكر الشمولي الذي يُخضِع كل ما عداه لحالة من النفي والسحق فهو لا يعترف للآخر بالوجود وإذا حصل ذلك فإنَّه يحصل لأسباب تكتيكية آنية عابرة سرعان ما يقلب المجن ليعود ويصفي حساباته مع ذاك الطرف الذي تحالف معه والتجربة تذكرنا بما حصل لكل التحالفات التي دخلها البعثفاشيون...

من هنا كان لشعبنا حقه الأكيد في العمل على ضبط الأمور بما يمنع نهائيا إمكان عودة البعثفاشية إلى ربوع البلاد لتتحكم به من جديد. وتلك فرصة تاريخية لا يمكنها أنْ تتكرر وقد أُزيح نظام البعثفاشية من السلطة. ولكن ما الآليات التي تضمن ذلك اليوم وغدا؟

من أجل تحقيق منع صعود جهة ميليشياوية مسلحة تتحكم بالحياة العامة كان لابد أولا من قراءة تلك الأسباب التي شكلت أرضيتها والتي أشرنا إليها للتو.. ومن ثمَّ أنْ نتوجه لمعالجتها وإزالتها من الحياة العامة ولا يكفي أنْ نقول إنَّ بلادنا تتجه نحو الديموقراطية فنفترض إمكان مشاركة جميع الأطراف في مسيرة الديموقراطية إذ لابد من استثناء هنا, وهو استثناء واجب وملزم لبعض الأطراف التي شكلت ويمكن أنْ تشكل أرضية خطرة ما يوجب هذا الاستثناء من الإفادة من أجواء الديموقراطية سلبيا أو بشكل يضر بمصالح مجموع الشعب ..

فنحن يمكن أنْ نقبل باعتذار من جهة معينة؛ وأنْ نقبل بإعلان تخليها عن تصورات إرهابية دموية؛ وأنْ نقبل أنْ يحيا كل من يقبل بالنظام الديموقراطي بسلام وحرية؛ ولكننا لا نملك أية ضمانة لتغيّر هؤلاء بين يوم وليلة من سلوك العنف المسلح والدموية والعدوانية والإرهاب إلى سلوك التعاون والاعتراف بالآخر والخضوع للقوانين والأعراف الجديدة...

ولا يوجد ما يضمن مثل هذا التغير إلا حالة واحدة فقط هي حالة قبولهم بوضع بعيد عن مواقع قيادة الحياة الجديدة وحتى عن المواقع الوسطية في الإدارة وفي الحياة الحزبية والسياسية العامة.. لأنّنا بذلك نضمن عدم مكافأة هؤلاء على جرائمهم ونذكِّر دائما بالجريمة  التي ارتـُكِبت بحق ملايين أبناء شعبنا المسالِم...

إنَّ عدم تذكر الماضي والتحول الكلي عنه يفسِح المجال لإمكان عودة الجريمة وتكررها ومسألة عدم وضع ضمانات من نمط إبعاد مجرمي الأمس عن التحكم بالسلطة لا يقف عند السماح الافتراضي بإمكان تكرر الجريمة بل يفتح لها الأبواب ويجعلها مشرعة لقوى الاستغلال وانتهاز الفرص للاجهاز على أية مكتسبات للشعب..

وعليه فأول وسائل منع تكرار المأساة هو تقديمها في برامج مستمرة عبر شبكة الإعلام وفضح تفاصيلها يوميا والتعريف بالكيفيات والآليات التي تمت فيها وليتقدم كل عراقي بما يعرفه بمن فيهم اعترافات أعضاء الميليشيات الفاشية التي استغلها الطاغية الدموي في سطوه على حياة الملايين ومصادرتهم كليا..

كما ينبغي أنْ تنهض المنظمات المتخصصة بتقصي الجريمة والبحث في أشكال متابعة المجرمين قانونيا وتقديمهم إلى المحاكمات ولابد للمحاكم المختصة من أنْ تأخذ القرار المناسب وتصدر الأحكام العادلة التي تنصف الضحية وتضع المجرم في موضعه الذي يستحق العقاب فيه..

إنَّ عملية اجتثاث البعثفاشية عملية تتطلب عزل كبار المجرمين ومتابعة الجريمة وإدانتها وفضحها وتكوين الرأي العام الكفيل بالتصدي لإمكان تكرار الأنشطة الإجرامية. ولتأكيد حيوية الحياة الجديدة وتوافرها على ضمانات الدفاع عن وجودها لابد من تفعيل ثقافة الديموقراطية عبر أجهزة إعلامية ناجحة من جهة وعبر فعل الثقافة والمثقفين والمبدعين كافة ..

إلا أنَّ ذلك لا يكفي لحماية عالمنا الجديد ولكننا ينبغي أنْ نجد المؤسسات الكفيلة بتلك الحماية من مؤسسات ومنظمات متخصصة تعمل على وضع الحلول الناجعة لأية مشكلة قد تعترض مسيرة الديموقراطية كما تعمل على تحقيق الإنجازات الصحية الكفيلة بمواصلة نجاحات التقدم وتمنع من ثمَّ الاحباطات وخيبات الأمل التي عادة ما تظهر في بداية التجاريب الجديدة لأسباب تتعلق بالعثرات الطبيعية التي تظهر هنا وهناك في الممارسة ..

وعلى سبيل المثال لم تكتمل فرحة الانتصار بسقوط الطاغية حيثما أدارت قوى الموت الأوسد عجلة طاحونتها بقيامها بعمليات الإجرام المعروفة اليوم من تفجيرات وتخريبات وعمليات تقتيل واغتيالات واختطافات واغتصاب لحقوق الغير ومصالحهم ووجودهم نفسه. وهكذا فإنَّ الفوضى المفتعلة بنشاطات تلك القوى هي مقدمات لاستشراس أبعد  يخيـِّب ظن بعض الأطراف التي انتظرت طويلا قبل أنْ تصل إلى هذه اللحظة التاريخية في حياتها...

وهكذا فعملية اجتثاث البعثفاشية أمر لا يقف عند سقوط نظام الطاغية المريض ولا يقف عند وضع قوانين الديموقراطية تحضيرا للمسيرة الجديدة ولا حتى البدء بأنشطة إعلامية عادية أو ثقافية تعريفية بل نحتاج لجدية بعيدة في التعامل مع مفردات الجريمة ومن قام بها ومن يشكل ذيولا لها ويمكنه أنْ يكون سببا لعودتها فكل هذه العناصر تظل مهمة وخطيرة في العلاج الجذري الذي يمنع تكرار المأساة.. 

ومن جملة الأمور المهمة لاجتثاث البعفاشية ما يكمن في وضع محددات واضحة لسلطة الفرد وتحييد تلك السلطة ومنعها من التفرد بموقعها ومسؤوليتها ومنع استمرار فرد بعينه في المسؤولية العامة بخاصة مستويات الرئاسات للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية  وما يشبهها من مواقع حساسة مع ضرورة قصوى لتفعيل العمل الجمعي المؤسساتي وإشاعة ثقافته عبر المناهج التربوية المدرسية وعبر كل المنظمات والقوى المسؤولة..

إنَّ إزاحة أفكار زعامات الأفراد التاريخية وبطولاتهم الخارقة مهمة خطيرة الشأن في الفكر العراقي الراهن ومن ذلك سطوة الإيمان المسبق بقدسية فكر وظهور أفكار التحريم والتكفير ومن ثمَّ العودة إلى المصادرة ولكن هذه المرة بسلطة روحية عليا لا يمكن الوقوف بوجهها من دون الوقوع في حبائل التكفير والإعدام ببلاش!!

فلا مرجعية فردية معصومة في حياتنا لا سياسيا ولا اجتماعيا ولا دينيا فلا عصمة لبشر ولا تنزيه عن الخطأ لطرف ما مهما كان وضعه وإذا كان صحيحا أنْ نبدأ بشئ فعلينا أنْ نبدأ باستبعاد كل ما يقيدنا بمرجعية لفرد يفرض علينا تقديسه وتصور تنزيهه عن الخطأ وهو أمر لم يرد من قبل لا في دين ولا في قراءة اجتهادية أيا كانت ولكننا يمكن أنْ نتوافق على مرجعية واحدة هي المرجعية التي تخضع لدستورنا الذي نتوافق عليه...

إنَّ البعثفاشية لم تظهر لأنها فكرة عقائدية سياسية فحسب بل ظهرت لأسباب تتعلق بطريقة تفكير العراقي وتساهله وتسامحه الذي عبرت عنه مقولة "عفا الله عمّا سلف" وهي مقولة تفضي كما شهدنا جميعا إلى البعثفاشية وممارستها القبيحة.. كما يشكل مفهوم تسليم الأمر والنهي والافتاء والاختيار والتقرير لنا ولمصيرنا ووضع كل ذلك بيد شخص آخر نسميه مرجعا أي التنازل عن حقنا في التفكير والتقرير لشخص آخر يشكل هذا الفعل تمهيدا خطيرا وتأسيسا للبعثفاشية ولما هو أسوأ منها..

إنَّ واجب التصويت والاختيار واجب الامتناع عن التنازل لأي كان عن أصواتنا ملزم لنا لمنع عراقنا من تكرار مآسيه.. ولنتذكر أنّ الله نفسه يحاسب الفرد وحده ولا ينفع في ذلك لا مال ولا بنون.. بمعنى يوم لا ينفع أقرب إنسان في التشفع للفرد ابنه أو أباه .. إذن لماذا نسلـِّم لشخص آخر أنْ يختار عنا وأن يقرر عنا وكيف نبيح لأنفسنا تصنيع المرجعية باللف والدوران حتى على أقدس نص ديني نؤمن به فيضحي الفرد بإلهه وكلامه لأجل فرد آخر يُسقط عليه القدسية بذريعة أو حجة إنسانية تتعارض مع قيم السماء وهي قبل كل ذلك تصادر حياة الإنسان نفسه..

ولكي لا نخوض في اعتقادات الأفراد سنتوافق على القبول لكل طرف أنْ يمارس طقوسه بما لا يسمح لتلك الطقوس والاعتقادات أنْ تأتي بفاشية جديدة وبمصادرة جديدة مهما كانت الحجة أو الذريعة.. وليكن لكل دينه ويأخذ حريته على مداها ولا تنتهي تلك الحرية إلا حيث تبدأ حريات الآخرين حيث لا يجوز لطرف أنْ يفرض اعتقاده أو تصوره أو فكره على الآخرين..

كما لا يجوز الدعوة لفكر شمولي ولفلسفة مطلقة تضع الصحة في تصوراتها فقط لا غير نافية عن الآخر الصحة بل نافية عنه الحق في ممارسة حياته حرة ومصادرة سلوكه وحركته وحرياته..

نعم لابد من اجتثاث كل ما يضع الفكر الإنساني في قوالب قيود الممنوعات والمحظورات وأشكال التكفير والمصادرة من أية جهة جاءت تلك هي مسارات التوجه نحو عالم يضمن لأبناء الرافدين الابتعاد عن تكرر المأساة في حياتهم من جديد...

 

خاص بإيلاف \ أصداء  www.elaph.com