بين العمل في الداخل والعمل في الخارج
الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  05 \ 17

E-MAIL:  tayseer54@maktoob.com

 

خفتت ظاهرة حاولت بعض القوى أنْ تثيرها في سياق مساعيها لتقسيم العراقيين إلى فرق وشيع متحاربة أو غير منسجمة, ولكنَّها لم تنتهِ بعد تماما.. والإشارة هذه تخص من بين ما تخص من مسائل, مسألة عراقيي الداخل وعراقيي الخارج. فلقد وجد العراقيون جميعا أنفسهم في مسار واحد وإحساس منسجم واحد وبوتقة تفاعلاتهم مع الشأن الوطني ومصالحهم المشتركة الواحدة...

ولم يجد عراقيو الداخل أخوتهم في المنافي والمهاجر قد تغيَّروا أو غادروا أخلاقيات العراقي وتصوراته وفلسفته بل وجدوهم شديدي الحرص على كل تلك القيم التي تجسد هويتهم الوطنية الحضارية الواحدة.. وهكذا تكشفت عوامل اللقاء بين شقـَّيّ العراق وجناحيه عن عمق اقتراب وتوحـّد وقيم مشتركة ووجيب قلوب تنبض بآمال روح واحد وتطلعاته إلى المستقبل ذاته..

إنَّ كل ما في أمر وجود بعض فئات مجتمعنا العراقي سواء كان هذا في الداخل أم في الخارج في مسافة من الابتعاد عن الاحتكاك بمجريات الشارع السياسي من جهة عمليات العنف والتقتيل والإجرام, يعود إلى أنَّ مجتمعات التمدن لا تريد لعلمائها ومفكريها الذين صرفت على تكوينهم عقودا طويلة من الجهود المضنية ومن الكلفة بأنواعها المادية وغير المادية, لا تريد لهم أنْ يذهبوا هدرا في لحظة تفجير قنبلة مجرم أو برصاصة طائشة لمستهتر من قتـَلـَة الشوارع الخلفية المظلمة...

كما أنَّه ليس من مهمات هؤلاء الذين نحتاج لتعويضهم إذا ما خسرناهم إلى عشرات السنين من الإعداد وعشرات أخرى من مطاردة سنوات التغيير المتسارعة مع طبيعة التطور والتغيير في المجتمع الإنساني الجديد.. وعليه فمن الأجدى لمجتمعنا اليوم ألا يعرِّض العلماء والمفكرين والمبدعين لجريمة تصفيتهم لمجرد التصرف بعجالة وتهور لإعادة كوادر لا يمكن تعويضهم بسهولة إذا ما وضعناهم أمام فوهات بنادق السوقة والمجرمين..

كما إنَّ عمل هؤلاء وبحوثهم وقراءاتهم وتحليلاتهم ستظل قيمة مهمة وضرورة عليا بل يحتمها الإعداد لغدنا القريب وليس صحيحا أنْ نأتي بهم لنضعهم في أتون معركة تجرنا إليها قوى الجريمة فندخل بعلمائنا ميدانا تريد تلك القوى أنْ تجرنا وتجرّ مبدعينا إليه .. فقوى الجريمة التي استباحت الشارع العراقي وراحت تسحق بهمجية عدوانية كل قيمة علمية وفكر تنويري تمتلك أحابيلها الخاصة في الإلحاح على جذب الناس إلى ميدانها...

من هنا كان علينا أنْ نؤسس لتوافقنا على مبدأ تقسيم العمل على وفق أسس متحضرة متمدنة لمجتمعنا الذي قطع الأشواط البعيدة في هذا المجال.. وعلينا بعد ذلك أنْ نقرَّ بأنَّ بقاء كثير من شخصياتنا الوطنية بخاصة من العلماء والمفكرين اليوم فقط في الخارج أمر تفرضه الضرورة لإبعادهم عن مسرح التعرض للاختطاف والاغتيال أو على أقل تقدير التكبيل والتقييد بظروف غير مهيّأة للفعل والعمل والنشاط الجدي المؤثر مثلما يمكنها ذلك من مواقعها المؤقتة الحالية سواء في داخل الوطن أم خارجه..

وإذا كان بقاء بعضنا في الخارج مؤقتا تفرضه بعض الظروف الشاذة ويثير ألمنا جميعا فإنَّ عودتهم بناء على انفعالات وعواطف متعجلة قد تطيح بمساهماتهم المنتظرة بسبب من الاستجابة الانفعالية لعواطف العودة ومعانقة البلاد وأهلها.. وعليه فإنَّ عودة علمائنا لا يمكن أنْ تأتي استجابة لعواطف نبيلة ولكنها عواطف مندفعة تنحدر إلى السذاجة عندما يُستجاب لها بطريقة مستعجلة وغير مخطط لها بموضوعية وتحسّب لكل التفاعلات الناجمة عنها...

وعلينا إذن أولا أنْ نوجه أقلامنا في أقل تقدير وجهودنا كاملة في أبعده  للمساعدة على أنْ تضع الحرب أوزارها وأنْ نخلق فرص العمل والبناء وإعادة الإعمار, فرص الأمن والأمان ومنع عرقلة جهود العلماء وبناة البلاد. والحرب التي نقصدها هي حرب أوباش العصر من مجرمي الزمن الأغبر زمن العتمة والظلمة زمن الخراب والبؤس من سوقة يزعمون في محاولة للتضليل وذر الرماد في العيون أنَّهم المحررين ولكن محررين ممن؟ ويقاتلون مَنْ؟ ومن أجل مَن؟ْ أسئلة كثيرة ولكنها بسيطة هي التي تفضح مخططاتهم القذرة ..

فلا حراجة لعاقل ولا تردد في حسم أمره في البقاء مؤقتا حيثما تفرض الضرورة وحيثما يقول منطق العقل والحكمة في وجود كوادر البناء العلمية بمأمن من أشرار الزمن الردئ حتى تتمَّ تصفيتهم ويجري تنقية الأجواء وضبط الأمن والأمان من أجل العمل وبدء مشروعات البناء الحقيقية..

أما المغامرة في العودة وفي النزول إلى الشارع هكذا من غير استعداد جدي من أجهزة الدولة لحماية الإنسان العادي وهو يتوجه في صبيحة يومه إلى مصنعه ومدرسته وجامعته وحقله فيجدها مزروعة ألغاما أو يختبئ أوباش الجريمة خلف أكمتها ومقاعدها وشجيراتها .. لا لهذا الوضع وليعمل كلّ منّا من حيث تفرض مسؤوليته الحقيقية على أداء مهامه وعلى جميع الأطراف أنْ تصب الجهود من أجل التعجيل بيوم العمل والعودة إلى بدء مشروعات إعادة الإعمار ..

إذن فليس من يقتعد اللحظة الراهنة مجلس الخارج ببعيد عن بلادنا وعن شعبنا وعن همومهما ومتطلباتهما.. وهو يعمل ويمتلك دوره المحدد اليوم وستأتي اللحظة التي يكون فيها هناك حيث مواضع الفعل الأعمق في الداخل الذي ينتظر الأداء الفاعل في ميادين العمل العراقي ولكنه لا ينتظر عودة أحد إلى ميادين القتل والجريمة واستباحة الحرمات..

فعراقنا يكفيه من المجرمين مَنْ جرى تصديرهم إليه في غفلة من الزمن وفي مخطط من عصابات مافيوية لعينة وليس بحاجة لمقاتلين جدد وإلى رصاص ومتفجرات.. عراقنا بحاجة للمحافظة على أهله جميعا ومنهم العلماء والمفكرين والمبدعين الذين لا يمكن خسارتهم من دون أنْ يكون ذلك كارثة إنسانية بعيدة لا يمكن تعويضها بأي حال من الأحوال...

ومن التخطيط لعودة خبراتنا من الخارج وضع الإمكانات الضرورية لعملهم فالعمل العلمي والإبداعي لا يمكنه أنْ يكون في أجواء العنف والدم والبارود والرصاص ولا حتى في ظل آليات التخطيط الهمجي المتخلف الخاضع لمدارس ما زالت تحيا في عقلية قرون الظلام والجهل والتخلف ولابد من اعتماد مدارس العلم الحقيقية وجامعات ومؤسسات البحث العلمي الراقي على أصوله التي وصل إليها اليوم..

وليس من المنطق أنْ نأتي بعالم كيمياوي لنضعه في مقعد تدريس فقه الجواري والعبيد ولا أنْ نأتي بعالم اجتماع ليدرّس ألوان الملابس المباحة وأشكال الحجاب المقبولة وفقه الحريم وأشكال خدمة الرجل السقيم!! إنَّنا بحاجة لوضع الكوادر في مواضعها بعيدا عن مزايدات تدعي القدسية والقدسية منها براء وعلينا أنْ نهيئ الأجواء صحيحة لأنشطة هؤلاء وأعمال بنائهم وتطويرهم للحياة التي تجمدت طويلا...

أما المطلوب في اللحظة الراهنة فهو أوطد جسور الاتصال بيننا وبين ميادين الفعل في بلادنا ورسم كل مسالك البناء والتحضير لها وقراءة المشروعات المنتظرة والتخطيط لمسارات الأداء جنبا إلى جنب مع مسيرة التهدئة وإعداد أرض البناء وإعادة الإعمار من جهة الأمن والأمان والسلم والتحرر.. وتلك هي مهماتنا الصحيحة اليوم.. من غير مغالاة ولا مزايدات ولا شعاراتية مريضة تدعو العلماء للنزول إلى الميدان حيث القتل والاختطاف والاحتراب والتفجيرات وألغام ضد الدروع وضد البشر والمسلسل طويل والشريط الأسود المظلم ما زال لم يرحل بعد..

ولكن الساكن في أرواحنا هو عراق واحد وقيم ومبادئ تتأصل فينا واحدة هي قيم التحضر ومبادئ التمدن ونحن العرقيين لم ننقسم يوما لنكون اليوم حسبما يصور بعض الأوباش من ذوي المصالح الشريرة ونحن العراقيين اليوم أكثر قربا من بعضنا بعضا وأكثر تماسكا وتعاضدا وفي الغد القريب العاجل سنكون سويا في ميادين الفرح بإعادة إعمار الذات المخربة والبيت المهدوم والوطن المدمر...

فلا خارج ولا داخل سوى في المظهر وسوى في مواضع منطلقات العمل والتأثير في واقعنا العراقي وكلنا يعمل بجدية وإخلاص من أجل عراق الحضارة والتمدن وسيظل ميداننا واحدا موحدا...

 

خاص بالبرلمان العراقي    www.irqparliament.com