الفديرالية

هي القاعدة الأساس لعراق السلام والديموقراطية

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  07 \31

E-MAIL:  t.alalousi@chello.nl

 

عقود من مسيرة وطن الرافدين منذ إعلان الدولة العراقية مطلع القرن العشرين وليس من تنفيذ جدي حقيقي يحترم الشراكة التاريخية التي سطـَّرتها الأخوّة العربية الكردية في نضالنا الوطني التحرري.. وما كانت الحكومات المتعاقبة إلا تجسيدا لشوفينية أحزاب قومية عربية في العراق وأبرزها شوفينية عنصرية مقيتة للفكر البعثفاشي العفلقي الصدامي في العقود الثلاثة الأخيرة.

فلقد أكرهت الدكتاتورية الصدامية بلاد الخضرة والنماء على معاداة كل أشكال الحياة؛ إذ لم يكتفِ بإبادة الجنس البشري في سابقة إجرامية صارت معروفة للقاصي قبل الداني حين تمت تصفية مئات ألوف الكرد في حملات متعاقبة من الإبادة, بل واصل حرق الأخضر من زرع وضرع واليابس حيثما هدَّم القرى والمدن وأحرقها مبيداَ َ إياها عن بكرة وجودها...

وهكذا لم يكن في بلادنا أيّ شكل من أشكال المتنفس لا فكرا وسياسة ولا وجودا وعملا إنسانيا.. واُستـُلِب من العراقيين كل حق حتى حق الحياة وكرامة الوجود الإنساني ومن نافلة القول الحديث عن استلاب الحقوق القومية والدينية حيث جرت محاولات إبادة الوجود القومي استكمالا لجرائم الإبادة ومن ذلك تغيير الهوية القومية وسياسة التعريب وما شابهها من إجراءات قمعية..

ما عاد العراق اليوم بيد الطاغية وزبانيته ولا في ظل وجود نظام القمع والشوفينية القومية وعنصرية التعريب ومحو الوجود التعددي القومي والديني للشعب العراقي. ما يعني اليوم منطلقا جديدا مختلفا لعراق جديد.. يسير باتجاه عقارب الساعة وتقدم الزمن وتغيِّره وتطوراته النوعية..

لقد نهض شعب الرافدين لتصحيح المسار جذريا وصارت حرية التعبير تتحرك على طرق معبدة خالية من العقبات والعراقيل التي سادت دهرا طويلا في ظل حكومات العنف وإرهاب الدولة ولن يطول زمن فعل وريث تلك الأجهزة من الإرهاب المجسَّد بقتلة الشوارع ومجرميها الناشطين اليوم عساهم يحققون أضغاث أحلام ولَّى عهدها إلى غير رجعة..

إنَّ جميع مكونات شعب الحضارة شعب العراق تتجه بوضوح نحو تعايش سلمي واتحاد طوعي اختياري في ظل دولة القانون والمؤسسات بما يعني تجسيد الحقوق العادلة لجميع تلك المكونات واحترامها ومن ذلك بشكل أكيد وأولها احترام الحقوق القومية كاملة من دون منقصة أو مثلبة أو تفضـّل أو منّة من طرف على آخر..

إذ الحقوق القومية والدينية هي حقوق أساس ثابتة ولا يمكن التحدث عن محدِّدات أو أجندة مصادرة وانتقاص لأيِّ ِ من تلك الحقوق. فلطالما زعمت قوى حكومات سابقة "بمنحها" الحقوق القومية وتشدقت بما قامت به ما كان سببا موضوعيا لمواصلة الكفاح من الأطراف صاحبة الحقوق المشروعة.. بل أوقعت تلك السياسات المرضية مجتمعنا العراقي في دوامة من التخريب والاحتراب ودواعي التقتيل والموت والإبادة حتى امـّحى منطق السلم وأجوائه.. كما امـَّحت آليات الديموقراطية ومفرداتها الأساس!!

أما اليوم فإنَّ الإرادة الوطنية التي تعمل على من أجل عراق ديموقراطي سعيد وسلم وطيد فلا مجال للتردد في تحقيق المطالب العادلة في عراق فديرالي يتوحد على أساس اختياري طوعي لا إكراه فيه ولا وصاية لطرف ولا سلطان أعلى لجهة بل عدالة ومساواة في الاتحاد في فديرالية عراقية حرة..

وتنهض الفديرالية على قاعدة من الإقرار بحق تقرير المصير لأطراف الاتحاد بالتحديد الإشارة إلى القوميتين الكبريين في وطن الرافدين العرب والكرد مع تأكيد مكين على منع إغفال حق الكلداآشور السريان والتركمان وغيرهما من أخذ كامل الحقوق العادلة المنصفة لوجودهم مخصوص الهوية مستقل الإرادة في كيفيات التحالف والاتحاد وآلية بناء عراق جديد..

وعليه فليس من مجال في القول بأنَّ عراقا جديدا لا يمكننا الحديث عنه وعن استقراره وسيره في طريق الديموقراطية والسلام ما لم يكن عراقا فديراليا فبغير الفديرالية لا وجود لعراق ديموقراطي: إذ ما معنى ديموقراطية لا تحترم إرادة مكونات الشعب من قوميات وأديان ومذاهب؟ وما معنى ديموقراطية لا تتوافر على حق تقرير المصير؟ وما معنى ديموقراطية تستلب حق فئة أو جهة أو مكوِّن فما بالك بقومية لها حق الوجود الإنساني المستقل؟  وما معنى ديموقراطية تستلب هوية الشخصية المعنوية والأدبية لوجود إنساني لفرد فكيف يكون حجم الأمر عندما يتعلق بوجود لا فرد بل مجموعة بشرية كاملة كقومية من القوميات كما نعني به هنا مع الكرد في العراق؟؟

نحن بقراءة موضوعية متأنية وبإرادة حرة تستند إلى منطق العقل الرشيد نجد أنْ لا مناص من الإقرار من كل القوى السياسية العراقية بخاصة منها العربية التي ظلت طوال زمن الاستبداد أما في خطيئة أو جريمة التوافق مع قوى التسلط الحكومي أو في تحييد دورها ـ عندما كانت تقف موقفا إيجابيا صحيحا ـ  واستبعاده من التأثير على القرار في عراق الأمس, على كل تلك القوى اليوم أنْ تشدد على خيار الفديرالية بوصفه مفردة جوهرية وأساس في مسيرة عراق اليوم الجديد..

لأنَّ خيار الفديرالية هو جوهر اختيارنا التعددية والتداولية في بلادنا بوصف ذلك تأسيسا لتوجهنا إلى الديموقراطية وإلى مجتمع السلام والتآخي والعدالة والمساواة.. وتلك هي ما ذهبت بها قراءتنا هذه من دراسة بحثية علمية تتقصى العلاقة بين عراق ديموقراطي وعراق فديرالي حيث لا مناص من توكيد علاقة جدلية موضوعية بين الديموقراطية والفديرالية..

و ينبغي بعد ذلك لا الاكتفاء بتثبيت هذه المفردة في الأجندة السياسية للقوى العراقية كافة بل لابد من العمل الوطيد على تعزيز ذلك بالممارسة الفعلية وأول ذلك تثبيت هذا الحق في الدستور العراقي الدائم حيث العراق الفديرالي القائم على احترام تقرير المصير والاتحاد الاختياري الطوعي لكل مكوناته القومية وبالخصوص الكردية ـ العربية ..

أما التماهل في وضع أولويات أخرى للقوى السياسية بما يمهد للمناورات السياسية وألعابها المعلنة والخفية من بعض القوى العراقية فهو أمر مفضوح مدان بخاصة أولئك الذين يضعون حق تقرير مصير جهات أساس لعراقنا رهنا للتصويت والأكثرية..

وفي الحقيقة سيحسم بالتأكيد التصويت لصالح خيار شعبنا العراقي مع الفديرالية ولكن المشكلة هي ما تتركه سياسة المراهنة الخاسرة لتلك القوى من آثار سلبية خطيرة على العلاقات بين مكونات شعبنا في ظل الظروف الجديدة ونحن نريد توكيد توجهاتنا السلمية الديموقراطية وإحقاق الحق والعدل بخلاف مناورات طرح قضية الحقوق الإنسانية الأساس للتصويت بكل ما تمثله هذه الحركة وتلك السياسة من استهانة وتحقير ومن ثمَّ ما تخلقه من مشكلات معقدة في خلق الشروخ بين الجماعات القومية العراقية ..

إنَّنا بصدد قضية لابد من حسم أمرنا فيها والتوجه بتوافق نحو صياغة دستور العراق الجديد من منطلق الوحدة الاختيارية ومن ثمَّ حق كل فئة أو مجموعة أو قومية عراقية في التعبير عن صوتها تعبيرا حرا مستقلا بلا وصاية ولا استلاب ولا مصادرة..

وسيكون التردد في حسم الموقف داخل كل قوة سياسية أمرا فيه كثيرا من الخطل وجريمة لا تغتفر في تأثيراتها السلبية على مستقبل عراقنا وعيشه في أجواء السلام والتعاضد والتكاتف والوحدة الطوعية.. فبعد شعور بهضم الحقوق ردحا طويلا من الزمن يجد الكرد مثلما يجد غيرهم من القوميات العراقية مسألة الفديرالية حجر الزاوية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والتوجه نحو بناء عراق جديد.. فهل ترتقي تلك القوى العراقية إلى مستوى مسؤولياتها في الإقرار بهذا الحق الجوهري؟ وتعالج كل مآسي الأمس التي سببتها أشكال التعامل مع القضية القومية فوقيا واستعلائيا شوفينيا؟

نحن بصدد عهد جديد ومن المسؤولية الخطيرة ومن أولوياتنا الوقوف بشدة وحسم وحزم ضد محاولات الهجوم على الحركة الكردية أحزابا ومنظمات مجتمع مدني وقيادات وزعامات تاريخية للكرد ولابد من تطهير مناهج "بعض" قوى الحركة الوطنية العراقية من أية شائبة مرضية قد تكون اخترقت الحركة من بقايا الأمس المشوه للنُظُم البائدة وعلينا التأسيس لحركة وطنية خالية من تأثيرات الماضي الملبد بغيوم الاحتراب المفتعل بين قوى شعبنا المتحدة المتعاضدة..

وجملة القول هنا توكيد على هدف استراتيجي في التحالف الحر الطوعي الاختياري للفديرالية وفي الهدف القريب بإنهاء كل العابثين بمسيرتنا نحو الفديرالية العراقية الديموقراطية من أجل سلم وطيد لشعب سعيد...

 

خاص بجريدة المدى