حق الجنسية وحق العودة إلى الوطن
الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  07 \31

E-MAIL:  t.alalousi@chello.nl

 

زمن مرَّ وانقضى مع سقوط الطاغية الذي عاث بمقدرات البلاد والعباد فسادا.. زمن استبد فيه الدكتاتور المريض بالحكم حتى مارس عبره كل أشكال ساديته وغيه وبغيه وطغيانه.. فمن أشكال الإبادة الفردية الجسدية والمعنوية إلى الإبادة الجماعية الجينوسايد إلى مطاردة وسجون ومعتقلات ومظالم ما مرّت على شعب, وما كانت عمليات التهجير والنفي والتشريد نهاية ولكنها واحدة من جرائمه ونكاياته بشعبنا..

حتى صار للعراقيين من المنتشرين في المنافي والمهاجر ومعازلها القسرية ملايين من مختلف فئات شعبنا العراقي من قومياته وأديانه ومذاهبه وطوائفه وتياراته وأطيافه ولم يكن هناك من استثناء بالمرّة..

وكثيرة خصال تفرّد بها الطاغية الساقط ولكنَّ بعضها ورثها عن أسلافه ممن تحكموا بمصائر العراقيين منذ منتصف القرن الماضي عندما بدأت أول حملات النفي والتشريد والتهجير الجماعي فطاولت الآثوريين السريان بعيد مذبحة سميل العام 1933 ثمَّ عام الفرهود مطلع الأربعينات الذي طاول يهود العراق الذين عاشوا هنا أبا عن جد منذ مئات السنين مخلصين لوطن الرافدين مقدمين كل التضحيات من أجله مساهمين في إشادة صرحه...

وما زال عهد العراقيين ببعضهم بعضا متينا راسخا وطيدا وما زالت كلمات التآخي والمديح لأخلاق العراقي "مسيحيا" أو"يهوديا" طرية في المسامع. في موضع مناقشة حق العراقي في العودة إلى بلاده بعد سنة أو بعد عشر من السنين أو بعد دهر شمل عمره لابد من التأكيد أنْ لا تقادم يُنهي هوية الإنسان وحنينه ومشاعره ورابطته الإنسانية بهويته وشعبه ووطنه..

إنَّ حق جنسية الفرد التي تسجل له انتماءه لوطنه الذي ولد فيه وعاش حياته يظل حقا إنسانيا  لاجدال عليه وفيه.. كما إنَّ حقه في العيش في وطنه يبقى مما لا يمكن وضعه على لائحة المناقشات والمماطلة والتسويف سواء باختلاق الذرائع أم بتوظيف أسباب ودواع مستجدة تخص صراعات سياسية أم تناحر قوى ومصالح...

لذا فمن البدهي الطبيعي أنْ يكون حق عودة أبناء الشتات إلى وطنهم العراقي حقا مكفولا بالمطلق ومن دون تردد ومراجعة لاستثناء طرف أو فئة أو فرد.. وما يتعلق بعد ذلك بطبيعة علاقة الفرد بوطنه أهي ودية أم عدائية تظل هامشية أو ثانوية تجاه مبدأ حقه في العيش في وطنه..

وكل سبب بعد ذلك سيأتي لاحقا حتى لو كان يرتكب جريمة بحق الوطن والشعب إذ أنَّ لكل فعل ثوابه أو عقابه وللجريمة بأي نوع من أنواعها جزاؤها ولكن أمام قضاء الوطن وعدالته في الانتصاف للوطن وأهله وإحقاق الحق ومعاقبة مرتكب الخطيئة أو الجريمة بحقهما...

وفي سياق حق الجنسية العراقية وإعادتها للذين اُستـُلِبت منهم لأيّ سبب وبالتحديد الإشارة هنا للعراقي مسيحيا كان أم يهوديا وعربيا كان أم كرديا وهنا يمكن التركيز على فئتين يدور حولهما لغط بعض من الذين وقعوا أسرى ثقافة الإقصاء والاستثناء والعروبية والتأسلم المتطرف..

فالكرد الفيلية وقع ويقع عليهما حيف وضيم وظلم من أخوتهم في الوطن لقصور في معالجة قضيتهم وهي من الوضوح والبعد عن التعقيد في كونها حق في الهوية والجنسية وحق في العيش في أحضان الوطن بالعودة إليه بموافقة كل فئات شعبنا وقواه الوطنية السليمة بل بمؤازرة وعمل أكيد من أجل الاستجابة الوطيدة لحق إنساني ثابت..

وقد يكون أمر الحديث عن عودة العراقي بهذا العموم أمرا مقبولا وعاديا.. ولكنَّ امتداد فترة الانقطاع وطولها فضلا عن التربية السقيمة وظلامية التوجهات التي فرضتها النظم الاستبدادية المتعاقبة وظلمها سببا تشوها وحساسيات خطيرة عند بعض الطيف العراقي عندما ندخل في تخصيص مَن من العراقيين يشمله حق العودة؟

فمن الطبيعي أنْ يكون كل عراقي ممتلكا لهذا الحق ومن دون جدل أو حساسية وما شاكل؛ ولكن الأمر سيكون فيه بعض الجدل والتردد عند بعض العراقيين عندما يجري الحديث عن عودة اليهود العراقيين واستعادتهم للجنسية العراقية والعيش في ظل وطنهم الذي حافظوا على الدفاع عنه ومشاركته أوجاعه وآلامه ومصائبه طوال زمن تهجيرهم ونفيهم..

وقد يكون هذا "البعض" العراقي قلة ولكنَّ هذه القلة تبقى مثيرة لجدل يمهِّد لأرضية لا مهاجمة حقوق العراقي في هويته وأرض بلاده وسماها حسب بل في إثارة مشكلات خطيرة تتخفى وراء ذرائع واهية وهي في جوهرها أفعى لمهاجمة قوى وطنية عراقية او جهات قومية عراقية بعينها..

ونحن اليوم نشهد اتهامات صارخة للكرد بالعمالة لإسرئيل وبالارتباط بها بوصفها دولة اغتصاب وليس حتى من جهة وجود اليهودي الذي يحمل راية السلام والدفاع عن حقوق عادلة لشعوب المنطقة... وقد يكون من بعض الإجابة تساؤلات من نمط لماذا الحديث عن الكرد وغض الطرف عن العلاقات الرسمية وغير الرسمية لحكومات عربية ولمؤسسات ومنظمات عربية؟

ولكن الإجابة الجدية الفاعلة تكمن في ثبات حق كل إنسان في جنسيته وهويته الوطنية وفي العودة إلى وطنه الأم.. فهل من جدل في هذا الحق الإنساني الثابت؟ والإجابة أيضا في التساؤل عمّا إذا كان اليهودي إنسانا حاله حال بقية بني البشر أم لا؟ كل ذلك في محاولة لإثبات حق إنساني ثابت...

ومن محاولة الإجابة إنْ نبحث في الافتراضات الموضوعية والمنطق العقلي أنْ نقول:ـ إذا كنّا جميعا خلق الله وإذا كنّا جميعا أبناء وطن وإذا كنّا جميعا نمتلك الحقوق الإنسانية ذاتها بعدل وإنصاف وإذا كنّا لا نستطيع ولا نملك حق حرمان الآخر مما نمنحه لأنفسنا, فإنَّ من الصائب أيضا أنْ يكون اليهودي صاحب حق وأنْ لا نرى فيه آخر من الخارج المعزول البعيد المنفصل بل أنْ نرى فيه واحدا منّا كما كان يرونه آباؤنا وأجدادنا وتحدثوا عنه إلينا بعلاقة إنسانية ودية صادقة..

إنَّ يهودا عاشوا في المنفى ورفضوا الجنسية الإسرائيلة وأقاموا في بلاد الغربة يدافعون وينافحون عن وطنهم العراق الذي جنى حكامه عليهم وأبعدوهم عنه كل تلك الرحلة الزمنية القاسية.. فهل لهذا أنْ يُبعد عن حق الجنسية العراقية وحق العودة إلى ثرى بلاده على أقل تقدير ليدفن فيها كما يحب ويتمنى ويستحق؟

نحن بعد ذلك بمجابهة قضية أساس تخص حق العراقي من دون مصادرة واستثناء في جنسية البلاد والعودة والعيش فيها.. ومن العراقيين يهوده المهجرين ظلما وممن يرغبون العودة إلى وطن وُلِدوا من ترابه وعاشوا على أنفاس هواء يصدح باسمه.. ونحن أيضا بمجابهة قضية أخرى قد تتفرع وتتشعب ولكن  أبرزها هي توظيف اسم اليهودي للهجوم على الكرد وعلى حركاتهم القومية والوطنية وعلى زعاماتهم على أساس من التخوين والاتهامات الباطلة واختلاق الافتراءات التي في أساسها ليست إلا أرضية لهدف لا حق يخص مزيدا من تقسيم العراق وتطشيره واختلاق المشكلات بين ابناء الشعب الواحد ..

ولكن شعبنا أبعد من التضليل والوقوع أسرى مخادعة قوى معروفة بمعاداتها لمصالح بلادنا خدمة لغايات مغرضة معادية لكل مكونات شعبنا العراقي الموحدة.. إنَّ عراقنا الجديد هو عراق القانون والعدالة وحقوق الإنسان واحترام أبنائه ومصالحهم وهو عراق ديموقراطي تعددي تداولي فديرالي يتسع لجميع العراقيين من مختلف أطيافهم وتنوعات مكوناتهم..

 والعراق الجديد لا يسمح للاتهامات الباطلة التي تطلق جزافا بأن تنهش في مسيرته وتخلق له الأزمات والانشطارات والتناحرات.. بل هو عراق القضاء العادل الذي ينتصف للعدل التام الكامل لكل عراقي ويأخذ للوطن وللشعب حقه بطريقة كريمة عادلة منصفةوالقضاء وحده القضاء المستقل السامي النزيه هو الذي نترك له الحكم على مسائل الأخطاء والتجاوزات والجرائم..

 ولكن مسائل من نمط إسقاط الجنسية ومنعها عن عراقي أو منع عودته إلى بلاده أو التشهير به حيث يعود ومطاردته في حياته فهي قضية خارجة على منطق العقل والموضوعية والانصاف وخارجة على طريق إعادة بناء عراقنا الجديد مختلفا عن زمن الضيم والظلم  ومن ثمَّ فنحن بصدد العمل من أجل وقفها بقضائنا العادل ومحوها من ثقافتنا ووعينا الوطنيين...

كلنا عراقيون أبناء وطننا وطن الرافدين وطن الحضارة وسمو الفكر النيِّر وتفتحه..ولقد عشنا سويا دهورا في سلام ووئام وها نحن نعود إلى السلام والتآخي والعيش الكريم لكل من يحترم اسم العراق ويعتز بوطنيته ولا ساتثناء ولا مصادرة ولا استعلاء لطرف على آخر فكل عراقي يملك الحق نفسه كما كان أهلنا وأسلافنا يفعلون وليس كما يريد أعداء العراق من بقايا زمن الظلم والاعتداء بسياسات الفرهود وغيرها.. وفي هذا وحده فيما نؤسس له تكمن قوة بلادنا ومتانة وحدة شعبنا ومستقبله المشرق...