حملة التضامن مع الأساتذة العراقيين

تضامن مع كل أبناء شعبنا وتوكيد للمستقبل المشرق لعراق السلام والديموقراطية

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  09 \ 03

E-MAIL:  t.alalousi@chello.nl

 

قبل الدخول المباشر في الدعوة لحملة تضامن مع الأساتذة العراقيين وما يتعرضون له من مخاطر, نحتاج لعرض سريع لجملة من الآلام والأوصاب التي اكتنفت حيواتهم جميعا منذ عقود بعيدة في عراقنا. لقد تميَّز الأستاذ العراقي بمثابرة علمية أكاديمية ناشطة ولم يكن اسمه موجودا في قوائم اعتبارية تقليدية في الساحتين الإقليمية والعربية بل كان باحثا من الطراز الإبداعي الأول حتى على الصُعُد الدولية.. ومن ذلك نعرف أعلاما كبيرة تغذَّت منها وعليها جامعات عالمية معروفة وكانوا بالمئات إنْ لم نقلْ بالآلاف في أصقاع الأرض يقدمون جليل العلم وعظيم المعارف الإنسانية...

وتذكر تلك الجامعات الأجنبية منها والعربية ما للأستاذ العراقي من دور فاعل مميَّز في مجال التطوير والبحث والدراسات المعمَّقة فضلا عن المحاضرة الجامعية والإشراف على تخريج دفعات الكادر العلمي في شتى المجالات. ونحن هنا لا نذكر ذلك منَّة على أحد بل نذكر عظيم الفضل يوم استقبلت تلك الجامعات في زمن لاحق من القرن الماضي أساتذتنا وهم يُكرَهون على مغادرة بلادهم ..

فبعد أنْ كان وجودهم الرائع تلبية لحالة من التعاون مع جامعات عربية وأخرى عالمية طوال الحقبة بين ثلاثينات القرن الماضي وستيناته جاءت سبعينات القرن الماضي لتدفع مئات بل ألوف منهم للهجرة القسرية من البلاد في ظل مطاردة خطيرة من سلطات الطاغية لهم. وكان تضامن الجامعات باستقبال وترحاب كبيرين للأستاذ العراقي ولم تتمنّع حتى بعض الجامعات العربية ذات الخصوصية من استقبال العراقي من مختلف تيارات الفكر السياسي والانتماءات القومية والمذهبية, في إشارة لعلو منزلته ولموضوعية التعامل معه بعيدا عن التقوقع في إطار من عزل عنصري أو مذهبي أو قومي .. فلقد كان التعامل باستمرار على أساس احترام الروح العلمي والموضوعي عند الأستاذ العراقي..

ولم تكن حالة الهجرة التي حلَّت كارثية بالأستاذ الجامعي العراقي بكل ما جرَّته من آلام وأوصاب مقتصرة على آلامها التقليدية بل امتدت لظروف قاسية مروا بها لاحقا.. وواحدة من مفرداتها تكمن في مطاردات نظام السادية الدكتاتوري وعمليات اغتيال لاحقتهم حتى وهم على بعد آلاف الأميال عن بلادهم..

وسارع مئات من الأساتذة العراقيين بالعودة إلى البلاد بُعيد سقوط الطاغية ونظامه الدموي مباشرة.. وذلك لم يكن بسبب من آلام الغربة ومصاعب المنافي وظرروف بلدان الشتات بل إخلاصا لوطنية عميقة الوجود في الذات المعبِّرة عن الشخصية والهوية العراقيتين عند أساتذتنا.. وعلى الرغم من جميع الظروف الرهيبة التي يمرّ بها عراقنا فإنَّهم أصروا على العودة ومباشرة أعمالهم في إعادة إعمار ما خرَّبته أكثر من ثلاثة عقود من الضيم والظلم...

هنا فقط ظهرت المجابهة الأخطر بينهم وبين قوى التخريب والتقتيل. ولقد كان ذلك موجودا منذ الوهلة الأولى ولكن الأمر تصاعد واتخذ منحى خطيرا جدا في المدة الأخيرة حيث لم تعد قضية الاختطاف مقصورة على مطالب مادية بحتة.. فنحن أمام مشهد دموي بعيد جدا في مستهدفاته التخريبية.

لقد ركّزت قوى الظلام على الأستاذ الجامعي العراقي لما عُرِف به من دور أكبر من دور الأستاذ في قاعة الدرس والمحاضرة فقد كان دوما قائدا اجتماعيا وسياسيا ومخططا لعمليات البناء وفعل التنوير الفكري الفلسفي فكان العقل الجمعي لمجتمعنا في سابقة أعمق معنى من دور التكنوقراط.. فدوره من الفاعلية لم ينحصر في حدود أكاديمية بحتة ولكنه من الحيوية ما جعله لصيقا بحياة العراقي عامة وتفاصيل يومياته العادية..

من هنا كان التحام الأستاذ الجامعي مع أوسع جمهور التلقي خارج إطار التلقي في قاعات الدرس الجامعية وخارج قاعات المحاضرة ومختبرات العمل العلمي هناك في الشارع العراقي وفي البيت العراقي وجدنا أعمق استقبال وأبعد تفاعل مع رؤى العقل الجمعي...

ومن هنا كان الاحتفال الشعبي بالأستاذ العراقي وليس أدلّ على ذلك من مثال أساتذة من نمط الأستاذ الجامعي الكبير الخالد الدكتور عبدالجبار عبدالله وهذا الاسم محفور في الذاكرة العراقية الشعبية مثلما تحتفظ تلك الذاكرة بالزعماء والقادة والأبطال.. هذا هو المعنى الحقيقي لمفردة افشارة التي نستخدمها فنسمِّي بها "الأستاذ الجامعي العراقي"... إنَّها حقيقة اللحمة بينه وبين محيطه الاجتماعي ودوره الفاعل المميز واقترابه من الحياة اليومية وتفاصيلها.

والسؤال بعد ذلك لن يكون لماذا يُستهدف الأستاذ الجامعي العراقي وهو أمر صار مفضوحا ليس لقطع الطريق أمام التقدم العلمي المعرفي في مجتمعنا بل لإشاعة حالة الظلام والضلال ولتمكين جهلة من أصحاب الأعمّة والياقات اللامعة كذلك من تصدّر المشهد في المرحلة التالية عدا عن تخريب البلاد وإرهابها عبر عمليات ضرب أعناق قادة المجتمع الحقيقيين..

إذ كيف سيتمكن دعي من نمط وكيل مرجع هو الآخر من الأدعياء علما وخلقا ودينا؟! بالتأكيد نتذكر أول الأمر حينما حاول تلميذ الحوزة الادعاء زعما باطلا كونه مرجعا ولم يكن بعد قد حصل على شهادة أو لقب أو درجة علمية؟!! بمعنى دقيق فإنَّ محصلة اغتيال الأساتذة سيكون له الضرب في مختلف اتجاهات التأثير على مستقبل بلادنا وشعبنا....

من هذه الحقائق تأتي دعوات التضامن مع الأستاذ الجامعي العراقي لتكون في واجهة الحملات وعلى رأسها لأنَّ الأمر سيعني وقف الرؤوس التي تقف وراء الأمر ومن ثمَّ تحقيق مطالب شعبنا بكل فئاته في الأمن حين نقضي على بؤر التوتر وبؤر الجريمة وبؤر إرهاب الناس سواء النساء وهنَّ يتوجهنَّ إلى مدارسهنّ ومعاملهنّ    والأطباء إلى عياداتهم والمهندسين لمواقع بنائهم والطلبة إلى مقاعد الدرس والمذاكرة وتجري عمليات الفعل الطبيعية من دون قوى الجريمة ومصائبها..

إذ من يستهدف الأساتذة هم أنفسهم الذين يستهدفون كل فئات شعبنا ومكوناته..ونحن ندري ما لقوى إقليمية ودولية من مصالح في مدِّ أصابع التدخل في عراقنا بالذات في قضية اغتيال الطبقة المثقفة المتعلمة تعليما متقدما أخص هنا الأستاذ الجامعي..

ولا تتلبسنا أية لحظة من التردد في الإشارة إلى جميع تلك القوى ولكن الأمر المطلوب مباشرة هو وقف العمليات الإجرامية وفضح القوى التي تقف وراءها ..

هنا يجب أنْ نشخّص تلك القوى.. وهنا نجابه عمليات تضليل تنهض بها قوى إقليمية وحتى محلية عراقية .. ألم يقل الطاغية سأترك العراق إذا ما أُبـْعدت عن كرسي الظلم , الحكم, فيه أرضا يبابا؛ هذه هي الأرض اليباب وهذه بعض مفردات خططه الجهنمية.. وهو يعرف ماذا ترك لنا من قوى التخريب وما زالت أموالنا المنهوبة تفعل فعلها ليس في إفقارنا وحرمان أبناء شعبنا منها بل في إيقاع أبلغ الجروح فينا وفي وجودنا الجديد..

من ينكر أن قوى مهزومة لها مصلحة في جرائم التخريب؟ ومن ينكر أن قوى مأجورة هي عصابات منظمة وغير منظمة وضعت نفسها في قطار دمار العراق؟ ومن ينكر تلك الأصابع إقليمية تمتد لتنظيم ما لم ينتظم بعد في أفعال الشر؟ ومن ينكر حقيقة اللعبة الإرهابية الجارية في كونها حربا جديدة علينا؟

هذا فضلا عن قوى حزبية محددة وتيارات معنية بفرض فلسفتها بالقوة على الشارع العراقي.. من نمط ما قام به الدكتاتور من تجهيل وظلام ومسخ العقول وتخريب الروح العراقي وها هم يتسلمون استكمال المهمة عبر محاولة إخضاع المجتمع بإرهابه بعمليات القتل وليس أقل منها..

فليس لامرأة أن تخرج من منزلها وليس لها أن تبدي رأيا وتنهض بمهمة اجتماعية إلا ما يرونه لها جارية عبدة في أحضان اختطافاتهم المسوّقة لمشايخهم .. وليس لرجل أن يخرج عن طوع بنانهم وإلا جز أو حز رأسه.. وليس لأي كان من وجود خارج فلسفتهم وتفسيراتهم لما يسمونه دين الحق وهم الأبعد عن حق أوعدل أوإنصاف...

نعم هؤلاء هم رؤوس الجريمة وهوامشها أما الحديث عن المؤامرة الامبريالية الصهيونية والوجود العسكري الأمريكي فقد صار مهزلة لمنطق حتى زعران السياسة ونحن أدرى بعدونا "الخارجي" وهمجيته وشرساة ماكنته العدوانية وأدرى بكيفية التعامل مع الماكنة الاقتصادية التكنولوجية وحتى مع الجيوش الجرارة لدولة كأميركا ولإسرائيل ..

وليس من مفردات منطق الأمور اليوم أمام واقع معقد أنْ نجيِّش خلايا الموت لمقاتلة أمريكا أو إسرائيل بالطريقة الصدامية المفضوحة حينما اتجه شرقا من أجل القدس ثم جنوبا من أجل القدس وشمالا ولكن هذه المرة ضد الشعب بأسلحة الدمار الشامل وكانت أيضا من أجل القدس  ولو استمر الأمر لذهب لمواطن أخرى جميعها ليست في اتجاه القدس حتما لأنَّه كما ترون لم يستهدف التحرير بقدر أمور أخرى!!! وهكذا يفعل هؤلاء من أجل القدس والإسلام لابد من إحراق العراق وقتل العراقيين جميعا بوضعهم في محارق هولوكست جديدة!!!

وصار التساؤل مريرا حيث نقول هل تدمير المدارس وقتل الطلبة والطالبات وترويعهم في أخف الأمور من الجهاد في سبيل الله والقدس والعراق في شئ؟! أم قتل علماء الدين واغتيال المراجع يُعدّ الدين أوالاعتقاد الصحيح؟!! أم اختطاف الأطباء والمهندسين هو طريق البناء في بلادنا؟! أم تفجير سيارات الموت المفخخة أمام المستشفيات والمؤسسات الحكومية الخدمية هو طريق الحرية والاستقلال؟! أم مهاجمة قوى حفظ الأمن وشرطة تنظيم الحياة العامة والحفاظ على القانون هو طريق إخراج الأمريكان من البلاد؟!!

أسئلة لا تنتهي كلها تحمل إجابة واحدة تشير إلى الجريمة والمجرم بما لا يقبل لبس. ولكنَّهم ما يزالون على إصرار في جرائمهم من أجل مصالح قذرة ليس أقلها سيادة ظلمة يحتاجونها لمزيد من العيش الطفيلي على حساب العراقي.. إذ العنف والظلام هو مرتع الجريمة والمجرمين والقتلة وأوباش الحياة والسلم هو طريق الحياة المتحضرة حياة الديموقراطية والبناء..

اليوم سيكون الوقوف مع الأستاذ العراقي حملة لازمة وضرورية وهي مهمة منتظرة مؤملة في كل شرفاء العراق والمنطقة والعالم وهم يتضامنون مع شعبنا من أجل ضياء الحق والسلام والديموقراطية.. من أجل وقف نزيف عراقيينا الذي امتد طويلا ولم يعد ممكنا السكوت على مظالمه وضيمه..

إنَّ الحملة من أجل التضامن مع الأستاذ العراقي هي حملة من أجل نور المعرفة والخلق الكريم وبناة الحق والعدل والتسامح والسلام ونور الحرية ومجد الحياة الكريمة وهي حملة من أجل إدامة الصلة مع مَن منحوا حيواتهم من أجل الآخرين شرقا وغربا في بلاد العرب والهند والسند في بلاد الغربات السبع .. إنَّها حملة تنتظر أن يعلوا فيها :

صوت المنظمات الدولية والإقليمية المتخصصة, وصوت الجامعات في أرجاء المعمورة طلبة وأساتذة, وصوت أبنائنا من طلبة الجامعات العربية وزملائنا من أساتذتها الأفاضل ممن تعايشنا معهم ردحا طويلا وتقاسمنا الهموم والإبداعات, وصوت كل طلبة العراق وأساتذة الجامعات العراقية لكي يقولوا بمختلف تياراتهم العقائدية والدينية والمذهبية والقومية والسياسية إنَّهم مع حياة السلم والحرية مع حياة الكرامة والشرف وبعيدا ضد كل قوى التخريب والظلام فهي إنْ أفادت قلة ضئيلة ماديا اليوم أو في أمر من أمور الحياة الزائلة معولة على الخداع والتضليل بمزاعم دينية فهي لا نفع فيها في غد جميعنا بل مؤداها نار تحرق الأخضر مع اليابس...

كل هذه الأصوات هي منتظرة وهي وسائلنا الكريمة من أجل استتباب الاستقرار ومن أجل ذلك كان لنا أن نبدأ الحملة الدولية في سياق حملتنا الوطنية من أجل التضامن مع الأستاذ العراقي بله مع الشعب العراقي ...