حول سلوك بعض المسؤولين وآليات عمل المؤسسات الحكومية في العهد الجديد

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  09 \ 28

E-MAIL:  t.alalousi@chello.nl

 

حيثما اتجهنا إلى داخل الوطن وعايشنا عن كثب عمل عدد من مؤسسات الدولة, وحيثما التقينا عددا من مسؤولي تلك المؤسسات وجدنا تغيرات عميقة في لغة الخطاب بما يحاول الانتقال إلى عهد جديد من آليات عمل المؤسسة الرسمية العراقية الجديدة.. ولكنَّ الأمر ليس كله بهذه الطريقة من الطرق المفروشة ورداَ َ ولا هو بالسهولة التي يعتقدها بعضنا في قراءة حال الانتقال من دكتاتورية مسمومة معتمة إلى ديموقراطية تُشرع أبوابها كافة للجميع...

وفي الحقيقة, فإنَّ متابعة دقيقة للأحوال تكشف للمتمعن بل للمواطن العادي كثيرا من مخلفات زمن الانفصام بين المؤسسة الحكومية والمواطن, وتفضح حال العداء المستحكم بينهما.. ومثالنا من جهة تاريخ تلك العلاقة هو ما جرى من وقائع بُعيد انهيار النظام مباشرة من "فرهدة" لتلك المؤسسة..

وطبيعي أنْ نشير إلى قراءة أدبيات الخطاب الوطني بتنوعاته من خطاب الثقافة والسياسة والإعلام وما كان يدور من تشخيص لحالات ليس الثغرات بل الوقوف على جانبي وادِ ِ عميق متباعدين بين المؤسسة المذكورة والإنسان العراقي المكبل بقيود الطغيان والاستلاب..

اليوم ما زلنا بعد لم ندخل تمام زمن الديموقراطية؛ ولمّا نزل بعد لم ندخل عمليات تطهير كلية لواقعنا من تلك المخلفات المرضية الخطيرة.. ولكننا نغذ السير باتجاه واقع جديد يستجيب لآليات تخدم المواطن وتعزّه وتكرمه. حيث اللقاء بين مصالحه وتوفير الخدمات المادية والروحية له في حال من التبادل بين الطرفين عبر آليات موضوعية رصينة تستجيب لحركة جديدة في عمل المؤسسة الحكومية بوصفها منفذا لمجتمعنا المدني الجديد الرقيب على تلك المؤسسة ونشاطها..

لقد استحثني لكتابة هذا الموضوع  قراءتي لخبر جرى نشره بالأمس عن إعلان تشكيل اتحاد الموسيقيين العراقيين في عموم أوروبا وهو أمر يفرِح كل مخلص ويدعوه للغبطة والسرور بخاصة وجود موسيقي مبدع يتقدم العمل من أجل تنسيق الجهود المخلصة لتأسيس الاتحاد وبناء أرضية عملية واقعية له.. ولكن ما نغّص الأمريكمن في التعامل مع  جزئية أو مفردة من آليات الماضي البغيض؟؟!

فلقد ورد في الخبر أن قرار التأسيس قد جرى هناك في أروقة وزارة الثقافة!!!  وقد تمَّ اختيار رئيس لاتحاد الموسيقيين العراقيين في عموم أوروبا وهو كينونة غير موجودة أو افتراض يستعجل أو يحرق المراحل!؟ وإذا كان السيد وسام أيوب فنانا عراقيا معروفا نكنُّ له ولإبداعه كل الاحترام والتقدير فإنَّ ذلك لا يمنع من الاعتراض على الأمر كونه يتعلق بمسألة (تعيين) رئيس (لمؤسسة مجتمع مدني) و ليس (مؤسسة حكومية)...

 وكما نعلم فإنَّ نظم الطغيان  لم تفعل هذا الأمر بهذه الآلية أو الطريقة الفجة بل كانت تفرض زبانيتها بطرق تمثيلية ومخادعات انتخابية [أكيدة التزوير] ولكنها لم تجرؤ على إعلان فكرة التعيين لمثل هذه الاتحادات والجمعيات بالطريقة التي وردت في الخبر؟!!

وعلى أية حال فليس المقصود من وراء مقالنا هذا هو الوقوف عند خبر تعيين رئيس اتحاد الموسيقيين .. فهذه المسألة مما ينبغي وضعها خلفنا والبدء بحوار جدي فاعل من أجل دعم جهود السيد وسام أيوب كونه بادر من أجل وضع قضية الموسيقيين العراقيين في الخارج موضع القراءة والدفاع عنها وتثبيتها بما يمنحهم فرصا لتجاوز زمنا طويلا أُغفِلوا فيه وتمَّ التجاوز على حقوقهم طويلا.. ويفترض في موسيقيينا وهم الوعون الأكثر دراية بأهمية تشكيل اتحادهم أنْ يتداعوا إلى معالجة قضية تشكيل الاتحاد ومناقشة أوراق عمل تخص نظامه الداخلي وبرامجه ومفرداتها والأنشطة التي ينبغي للاتحاد القيام بها...

لكننا بصدد مسائل سياسات وزارات حكومة العهد الجديد لابد لنا من وقفة جدية مسؤولة تقف بحزم ضد تكرار آليات لم يعد ممكنا القبول بوجودها مفروضة على حيواتنا وعلى مصالح أبناء شعبنا بوصفهم بشرا يمتلكون كامل الحقوق في تقرير مصائرهم ومنع التحكم بهم أو استلابهم حقوقهم في الحريات العامة بخاصة منها تلك المتعلقة بتشكيل مؤسسات المجتمع المدني المستقلة التي لا تخضع  لسلطة الموظف الحكومي بل لسلطة القوانين والأعراف الديموقراطية..

إنَّ تأسيس أرضية الحريات العامة تبدأ من حيث لا يمكن للموظف الحكومي أن يكون سلطة كلية شمولية تنوب عن الإنسان بتسميته مواطنا ومن ثمَّ وضع القيود والسلاسل في معاصم أفكاره وحرياته وتوجيهه فوقيا بالأوامر الفَضَّة التي لا تنتمي إلا لأيام ولى زمنها...

إنَّنا متأكدون بخصوص مثالنا عن وزارة الثقافة بأنها تحاول جهدها أن تتفاعل مع عموم المثقفين العراقيين وأنْ تتبادل معهم الآراء والتصورات بغية تحقيق أفضل برامج جدية مسؤولة للنهوض بمهام الثقافة بعيدا عن الروتين التقليدي الإداري المعروف, ولكننا بشكل عام ما زلنا بحاجة للرأي الجماعي من جهة وإلى متابعة رقابية حريصة ومسؤولة لأنه لا وجود لمنزَّه عن الطأ أو السهو وهذه حسنة العمل الجمعي المؤسساتي فضلا عن حسنات العمل في إطار مؤسسات المجتمع المدني المنتظر تشكيلها واستكمال برامجها وهياكلها العاملة...

ومن ناحية هذه القراءة تشدِّد على مسائل تفعيل الخطاب المباشر والحوار الجدي البناء وعلى التفاعل بين أطراف الحوار مؤسسات الحكومة من جهة ومؤسسات المجتمع المدني وأعضائها من جهة أخرى وإلا فإننا سنعيد الوقوع في إشكالية السلطة الفوقية الممثلة بالمؤسسة الحكومية والموظف الحكومي..

لابد من وقف سلطة الفرد المتحكِم بالآخرين .. نعم بما لا يتعارض مع أوسع حرية للمبادرة الفردية والإبداع الفردي ولكن هذا لا يعني مطلقا لقاء الإبداع والمبادرة الفردية مع النزعة الأنوية المتعالية الفوقية الآمرة التي تستلب الآخر حقوقه في الحركة والحياة والعمل.. والجميع يتحركون في إطار خضوع لسلطة واحدة هي سلطة القانون أو العقد الاجتماعي الجديد الذي يكفل لهم جميعا حقوقا متوازنة متساوية ويكفل تفاعلهم بما يبني ويعضد بعضهم جهود بعضهم الآخر..

إنَّ توكيد العمل على وفق الضوابط واللوائح والقوانين أمر أكثر من مهم .. إنَّه يحمل في طياته خطورة عالية فإذا لم ننجح في التعاطي مع القانون والحقوق الأساس للإنسان اليوم فإننا بذلك نؤسس لعهد آخر من دولة التسلط والتحدث بالنيابة عن المواطن الإنسان واستلابه حرياته!

وعلينا إذن أنْ نتابع سويا وبتفاعل بنَّاء بين رؤى الجميع أية أخطاء يمكنها أن تحدث في واقع الممارسة حتى لو جاءت عن حسن نية أو عن غايات طيبة فالطيبة  وحدها ليست بكافية ولا تجري حركة الفعل الإنساني بالنيات وحدها. لابد من أسس نعتمدها في التعاطي مع واقع العمل المؤسساتي الجديد..

نحن نتطلع جميعا إلى غد أفضل ولا أجدها صائبة حالات التطير من وقوعنا في بعض أخطاء ممارسة العمل في ظل ظروفنا الجديدة بل من الصحيح أن نوازن بين التشدد في إزالة الخطأ والتسامح في التعاطي مع الآخر .. فنحن لا نقصد من النقد الموضوعي شخص المنتقد بل نقصد بالتأكيد تصويب مسيرة بعينها لمصلحة الناقد والمنتقد.. 

كما ليس صحيحا التطير من النقد أو التعاطي معه من ضفة العداء والسلبية فهو أمر غير موضوعي وعهدنا الجديد هو عهد التعاطي مع الآخر حتى لو تقاطع معنا في الرأي واختلف تماما. حتى لو وقف على الضفة الأخرى فلم يعد زمن الرأي الواحد الأحد المتفرد ممكنا في بلادنا التي هزمت الطاغية وهي تبدأ مسيرتها باتجاه بناء الديموقراطية وعهدها الجديد...

فهل سنتقدم بجدية صادقة نحو ترسيخ العمل الجمعي والتخلص من سلبيات التعاطي مع أوامر تقليدية تتدخل في شؤون مؤسسات المجتمع المدني وتحاول استلاب حقوق الإنسان العراقي بهذه الطريقة أو تلك ونرتقي بمؤسساتنا إلى وضع نوعي مختلف يضعها في آلية البناء الإيجابي؟؟؟

 

خاص بجريدة الأخبار العراقية