العراق والمسألة اليهودية وإسرائيل؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  09 \ 30

E-MAIL:  t.alalousi@chello.nl

 

تُعد المسألة اليهودية من جهة قراءتها التاريخية من القدم ما يمكن إحالتها إلى  زمن سابق على ولادة الدولة العراقية الحديثة, حتى من جهة ظهور عدد من المعالجات التي تناولت هذه المسألة سواء من أطراف وظفتها أداةَ َ لأغراض معروفة أم من أطراف كانت ترى حل تلك المسألة حلا لأوضاع اليهود في أصقاع الأرض ومنهم بالتحديد يهود الشرق الأوسط..

وعليه فإنَّ مسوِّغ الربط بين العراق الحديث والمسألة اليهودية لا يعدو عن كونه محاولة لتناول الإشكالية من جهة ما أصبح واقع حال في المشهد الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط ومنها العراق بالتأكيد, فضلا عن الدولة العبرية...

وبعيدا عن أسباب ظهور دولة إسرائيل وكونها تسبغ وجودها بتسمية الدولة العبرية لأسباب معلومة؛ وبعيدا عن طبيعة تلك الدولة وتشخيص أمراض موجودة فيها مثلما توجد في أية دولة أخرى , بالتحديد أمراض  الحكومات التي تعاقبت على توجيه دفة السلطة فيها, نقول بعيدا عن كل ذلك ينبغي معالجة ما لدينا من مواقف وسياسات اتخذناها طوال نصف قرن من الزمن تجاه هذه المسألة ـ أقصد المسألة اليهودية وليس الدولة العبرية طبعا...

لقد ظلت شعوب المنطقة في حالة من التهميش في كل القضايا التي تخصها مباشرة فما بالنا في القضايا الدولية والإقليمية... وكان من نتيجة ذلك أنْ صيغت المواقف الرسمية بعيدا عن إرادات تلك الشعوب بل جرى تشويه رؤاها في ضوء الخطاب الرسمي الذي يمتلك مبرراته الخاصة وذرائعه التي تبناها لغايات في أنفس تلك الأنظمة..

حتى صار الوضع العام معدّاَ َ على أساس من العداء غير المبرر بين مجموع شعوب الشرق الأوسط من جهة وبين مجموعات بشرية شكلت عبر مسار من التاريخ المعاصر وجودا رسميا وكيانا لدولة وشعب.. وهؤلاء لم يأتوا من المريخ أو من أكوان غريبة معادية.. بل لم يأتوا بغاية مسبقة للدخول في حرب متصلة مستمرة؛ فكثير من كينونة المجتمع الإسرائيلي هم جزء جوهري من مجتمعات الشرق الأوسط ومكونها التاريخي ..

وهم أنفسهم الذين تمَّ ترحيلهم بطرق ووسائل همجية معادية لكل ما هو إنساني.. ونحن العراقيين بخاصة من أبناء الجيل الذي عاش أربعينات القرن الماضي شهود على مأساة "الفرهود" التي شكلت جريمة ضد الإنسانية عندما جرى استباحة أملاك اليهودي لمجرد كونه يهوديا؛ فضلا عن تهديده في حياته إنْ لم يغادر بيته وأرض وطنه... وليذهب هو ومن معه إلى الجحيم, فذاك ليس مهما لأصحاب الفرهود بقدر ما هو مهم عندهم  دفع أفواج المواطنين العراقيين الآمنين من اليهود إلى منافي شتات جديد, بعد أن عاشوا مئات إن لم نقل آلاف السنين هنا في حال من التآلف والوداعة والتعايش السلمي الذي ألفه أجدادنا وآباؤنا...

فإنْ قيل بوجود مشكلة هنا أو أزمة هناك قلنا: إنَّ المجتمع الإنساني ومنه مجتمعنا العراقي شهد ويشهد أعقد منها وليس من أطراف الأزمات يهود أو حتى صهاينة...

إنَّ ما يهمنا هنا هو ماضوية تلك التربية النفسية وتهيئة العقل الجمعي لأبناء شعبنا بطريقة سلبية متشنجة, بخاصة ما كان يجري في زمن التجهيل والتخلف اللذين كانا من نتائج وجود النظُم المستبدة.. ففي مراحل تاريخنا الحديث كانت كل الأنظمة المتعاقبة منشغلة حسب الادعاء طبعا بقضية مركزية واحدة هي قضية فلسطين! وطبعا كان بعبع إسرائيل هو التهديد الرسمي الوحيد(المعلن)..

وعليه كان على الشعب العراقي مثل بقية شعوب الشرق الأوسط ألا يطالب بأي من حقوقه أو من تفسير ما يجري بخصوص أوضاعه وما يعاني منه لأن الدولة منشغلة بخطر خارجي! دائم! وهكذا جرى تطويع الأمور بطريقة مرسومة لصالح حالة الحرب الدائمة بين أبناء العم كما يقولون.

 وفي الحقيقة تمتلك المنطقة أرضية تاريخية أو ماضِ ِ معروف بالنزاعات بين العشائر والقبائل والمجموعات لأسباب مختلفة أغلبها أساسه التنازع لقضايا اقتصادية محددة منها قضية إيجاد وسائل العيش الكافية .. طبعا هنا الإشارة إلى  نزاعات القبائل وغزواتها حتى بعد قيام الدولة الإسلامية التي حاولت إنهاء معطيات المجتمع القبلي ولم تفلح لأسباب ليس موضع مناقشتها هنا..

لقد عززت بروباغندا النظام الدكتاتوري الأخير في بلادنا من مسألة صراع الوجود مع الدولة العبرية, ولم تكفِ  تجارب عقود متتالية لكي يحيد المتحكم في السياسة الرسمية عن مسار الادعاء والتزييف في التذرّع بالقضية المركزية لسحق كل تفكير إيجابي بخصوص المسألة اليهودية وكيفية معالجتها لا في الماضي البعيد ولا في تاريخنا الحديث..

وهكذا كان استمرار الرهاب مغروسا في الوعي الجمعي من العلاقة  الطبيعية بين أبناء الشعب الواحد عندما يختار اليهودي أنْ يحيا في وطنه وليس في الدولة  العبرية وعندما نضمن لليهودي حقه في معتقده من مبدأ وجود الدولة الديموقراطية ومن مبدأ حق المعتقد وحق الحياة الآمنة لكل مواطن من دون فلاضيات تلزمه بقمع إرادته وحقوقه...

وفي الحقيقة ما نريد فعله اليوم هو ألا نقع تحت طائلة محاذير الأمس الرهابية التي خدمت مصالح القوى المستبدة قوى الطغيان واستلاب الحقوق الآدمية كافة.. ولا نريد عند معالجة مسألة الحديث عن اليهود واليهودية أنْ نقمع إرادة العقل ومنطقه في تلك المعالجة ونحن بحاجة إلى إزالة حالة الطوارئ التي أُخضِعنا لها طوال عقود الاستبداد..

ولنتذكر أنَّ تلك القوى التي منعتنا من التفكير بحلولنا الخاصة للمسألة اليهودية والتعاطي معها من منطلقات إنسانية بحتة هي ذاتها القوى التي كانت تتعامل مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي ما كان من مصالحها لا الحرص على السلام في الشرق الأوسط ولا مصالح شعوبه وبالتأكيد لم تحرص على حقوق اليهود لا في الشرق الأوسط ولا في أي بقعة من العالم لأنها حكومات قامت على أسس عنصرية عسكرتارية معروفة...

في حين نحن نتحدث عن الإنسان ومصالحه وحقوقه وليس الحكومات وأفعالها المرفوضة.. ونحن اليوم نرى من مصالحنا الجوهرية أنْ نفكر بروح مستقل وبمبادئ ليس منها قمع أية مجموعة إنسانية ومنهم اليهود وقضية حل المسألة اليهودية على المستوى العالمي بالعودة إلى كل تلك الدراسات والبحوث والرؤى التي قدمت تصوراتها الجدية المسؤولة عن هذه المسالة ..

 وعلينا في ضوء ذلك التوكيد على كون مسألة الحديث عن علاقة مع دولة إسرائيل ليست من المحرمات كما يحاول بعضهم تناول القضية وإشاعة ثقافة التحريم والحظر المعروفة وإنْ كان ما يزال الوقت مبكرا على طرح مثل هذه الموضوعة بخاصة ونحن نتوجه إلى إشادة دولة ديموقراطية فديرالية بمعنى دولة تبحث عن ترسيخ السلم والاستقرار في المنطقة وخلق شرق أوسط بعيد عن الحروب والاقتتال ومآسيه..

وهو ما يضع شرط إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل وعقد اتفاقات سلام لا يكون بعدها اغتصاب لحق شعب من شعوب الشرق الأوسط  ولا علاقات تشاحن واحتراب  فإذا أوفت جميع الدول بهذه الشروط وبالتحديد دولة إسرئيل كان الأمر سائرا باتجاه خلق وجودنا السلمي في إقليم عاش طويلا في ظلال الحروب ودمارها وما عاد يمكن القبول بمواصلة هذا المسار..

ومن المؤكد في ظل اختلال التوازنات وفي ظلال وجود أسلحة دمار شامل لا يمكن الحديث عن علاقات طبيعية في الوقت الحاضر ولكننا مع ذلك ينبغي لنا أن نذهب إلى عالم أو أجواء جديدة مختلفة من مبادئ العيش والتفكير بالآخر..

من هنا كانت الضجة التي أطلقتها بعض الأقلام عن زيارات شخصية لبعض الأفراد مع اختلافنا الجوهري معها ومع توقيتها وما يمكن أن ينجم عنها نقول كانت تلك الضجة تعود إلى طرق تفكير عفا عليها الزمن بعد أن ولى زمن الطوارئ وخنق الحريات ومنع التعاطي مع القضايا الإنسانية بذرائع مزعومة وهمية...

ومثل ذلك ما تلا من مهاجمة إعلام عربي بالتحديد لمصافحة السيد رئيس وزراء العراق مع وزير خارجية إسرائيل وهو أمر أخذ تضخيما للأغراض ذاتها .. أما نحن فنناقش قضايانا العراقية ومصالح شعبنا وبلادنا بعيدا عن التأويلات ومن غير خوف أو وجل من موضوعية التناول وبعيدا عن رهاب اسم اليهودية والدولة العبرية وهو رهاب مفتعل المقصود منه إبقاؤنا بعيدا عن دائرة القرار بما يفيدنا وبما لايفيدنا وبما ينبغي من قرار صحيح وفي أي توقيت.. أي حيث ينوب عنا حكّام يوجهون دفة الأوضاع لمصالحهم ومصالح من يأتمرون بتوجيهاتهم من خارج بلاد العرب (أوطاني) كما كان يجري بالأمس في عراقنا!!!

ولى زمن الرهاب الفكري السياسي وجاء زمن العقل الذي نحتاجه في تناول القضايا الإنسانية ومنها ما يمسنا من قضايا الدولة العبرية وبالتحديد المسألة اليهودية ووجود يهود عراقيين ومصالحهم وحقوقهم حيث دولتنا العراقية الجديدة تبدأ بحل إشكالاتها التي تخص الغالبية من أبناء شعبنا وعلى وفق أولوياتها الخاصة ولكنها لن تنسى في مسارها عندما ستستتب الأمور قريبا نقول لا تنسى أحدا من العراقيين ولا قضية في محيطنا بما يتعاطى مع مصالح شعبنا والسلام الذي نسعى إليه في المنطقة من أجل غد الحرية والحياة الرغيدة لأهلنا ولشعوب المنطقة والعالم...

خاص بجريدة المدى