رسائل عراقية

الرسالة الأولى: تداعيات سريعة من غربات المهجر

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  10 \ 03

E-MAIL:  t.alalousi@chello.nl

 

يكتب العراقيون من مهاجرهم وشتات أصقاع الأرض رسائلهم بمداد الروح المتطلعة شوقا إلى حيث جذور نبتت وصارت كينونة فيها ومنها...  وفي وقت يتشوق عراقيو غربات المهاجر للقاء الأحبة,  يقدمون تصوراتهم وقراءاتهم للوضع من منطلق خبراتهم التي جاءت معهم وهم الذين كانوا في المقدمة بمواجهة محارق الطاغية؛ ومن منطلق خبراتهم التي أُضيفت إلى مخزونهم في مسيرة عذابات الغربة والشتات والمهاجر...

إنَّ المشاركة الوجدانية الصميم تعود لعمق انتماء العراقي مهما بعُدت فيه أراضيه فليست الأمكنة والمسافات ولا عذاباتها هي ما يمكنها تفريق العراقيين أو تمزيقهم ولشدّما نبحث عن وسائل الصلات المباشرة مع أجواء بلادنا وأهلنا في الداخل من أجل مزيد من التوحّد وعميق المدارسة لشؤوننا المشتركة بتفاعل الرؤى وصبها في نهر مسمى العراق الوطن والحياة...

كم يتوق العراقي هنا لتلك الكلمات القادمة من أعماق بلادنا من قرى الريف العراقي من أهواره ومن سهوله وجباله..  وكم هي عظيمة تلك الكلمات وآثارها في جذب قوة الفعل وتنشيطه حيث تجد كلماتنا استجاباتها هناك في مدننا وأحيائنا وضواحي حواضر الخير...

فبعد زمن انقطاع إجباري حيث كنّا نقلق على أهلنا أنْ نُظهِر لنا اتصال معهم فيذهبون ضحية ذاك الاتصال.. اليوم ما عاد تهديد الطاغية وزبانيته, ولكننا في ظلال أزمات خلَّفها تخريب قوى تركها الدكتاتور وريثة لمخيلته السقيمة... اليوم نحن في مشكلات تقنية الاتصالات ومطحنة إرهابيي الزمن الردئ..

لكنَّنا لسنا من الذين يخذلهم طريق اتصال .. من هنا نحن في نهر الطريق لبناء شبكة علاقاتنا الوطنية.. في نهر الطريق لإعادة إعمار صلاتنا الصداقية بوجد الأخوَّة وبمصادقية الروح التي ما زالت راسخة العلاقة مع جذورها متينة الفروع فيما ينعكس على تلك الروابط بالخير..

ولنتطلَّع إلى يوم يكون قلم المهجر موضوعه في أ‘ماق الوطن وقلم الوطن موجود في امتدادات شتات المنافي والمهاجر.. وهكذا نناقش قضايانا بوحدة وطنية وبوحدة إنسانية.. ونحتوي هموم بعضنا بعضا بلا استثناءات وبلا قيود أو تقطيع أوصال بيننا..

كم هو حميم أنْ أقرأ لعزيز من مدينة أصدقاء أحبة هي مدينة العمارة الجنوبية ومن فيحاء ثغر العراق حيث أحبة عشت وسطهم متوحّدا معهم  سنوات من عمري.. كم هو رائع أنْ أجد مَنْ يقول عن جملي ونصوصي إنَّها الصحيحة الصادقة الوفية ويكون الصوت من هناك من عزيز أهلي من مدن الكرد وضواحي الكلدان والسريان وأحياء التركمان وقرى الأيزيدية وأرياف الصابئة المندائية..

لحظتها لا أجد إلا اندياح أكبر, فأتلهف لوقت أكبر من سويعات نهاري وليلي للتواصل مع دراويش الحياة وأطايبها من أفاضل ناسنا وأكارمهم.. كم يهزني الشوق إلى صديق يتساءل بعد سنوات أو عقود من فرقة المكان وبُعده؛ هل تتذكرني أيها العراقي الذي بعُد بك وبنا الزمن؟

بلى فمثلما عشت بين جوانح العزيز نفسا إنسانية جميلة وكما كنّا بين جوانح دجلة والفرات, كنتم أيها السكن وطن المحبة والتسامح والسلم والإبداع هنا معنا بين الأضلع في سلوكنا وأخلاقياتنا وحركاتنا وأنشطتنا... حملناكم ثروتنا الغالية التي لم تنضب ولن تنتهي لأنها الوحيدة التي كانت هاجسنا في العيش..

كم من حكايات مليون ليلة وليلة سنقصُّ على بعضنا بعضا؛ في فسحات اللقاء التي ستنعقد في مقاهي الثقافة ولواوين الضيافة ودواوينها وفي غرف العمل والتباحث وتبادل المشاعر والأفكار..

هل سنحكي كيف كانت لقاءات الغربة تنعقد؛ حتى صارت لها طقوس الدموع الساخنة وَجـْداَ َ وهياما ونحن نستمع لرسالة الأغنية التي تحكي الغربة وزمن الأهل والوطن؟ هل سنحكي تدفق فيض المحبة وكمّ المودة حيث يلهج أحدنا باسم شارع أو زقاق أو حيّ أو ضاحية؟ أم سنحكي التهاب الروح وارتعاشات القلوب ووجيبها حيث نتجمّد أمام شاشات التلفزة لمتابعة خبر من أخبار بلاد أسيرة بيد الدكتاتور بالأمس وبيد الإرهاب اليوم؟؟

لا وقت للحزن أيها الأحبة ولا وقت للتساؤل والذكريات والحكايات.. لا وقت إلا لحقوق العراقي في أمنه وحياته ولقمة عيشه ومطالب أبنائه من طلبة الرياض إلى المدارس إلى طلبة العلم في الجامعات ومطالب المرأة فتاة فاعلة حية حيوية وامرأة تلد الحياة وتصنعها بالضد من قتلتها من الذين يختطفون البسمة من أوجه العراقيات والعراقيين والفرحة من أعماق بناتنا وأولادنا والضحكة من أفواه فلذات الأكباد وأسماع شيوخنا...

لا وقت إلا لإعادة الحيوية والحياة إلى مسارها الطبيعي... نحن معكم أيها الأحبة وما نكتبه ليس إلا بمداد روح هو جزء منكم ومن تطلعاتكم إلى غد أفضل.. وليس لدينا هنا استثناء لأحد ولا نحمل في أجنداتنا قوائم مصادرة لاسم أو لعراقي وليس في لائحة الاتهام لعراقي ما يجعله مجرما بلا قضاء عادل ينبع منكم أنتم الذين عشتم شهودا على تفاصيل أيامكم..

وما لنا من دعوى على طرف ليست إلا جزءا من دعاواكم على الذين يغتالون فيكم ومنكم مفردات الحياة الحرة الكريمة الجميلة الوادعة.. نحن لسنا القضاة بل جزء يتكامل معكم ولا قرار ولا تنفيذ له بغير قرار محكمة الجموع العادلة والمشروعة التي تأتمر بعقد اجتماعي نزيه حر مستقل وبحكمة العقل والمنطق وما يستجيب لأفضل الحلول التي تمنحنا كل حقوقنا بأقرب الفرص وأقصر الطرق وأحسنها..

إليكم أبناء الرافدين, أبناء الخير والمحبة, ابناء التسامح والسلام, أبناء الديموقراطية والحضارة, إليكم وبين أياديكم نضع القلوب والعقول ونتطلع إلى حسم أوضاعنا وأن ننزل حيث لا مجال لتسليم شارعنا العراقي لطغاة جدد من داخل البلاد أم من خارج الوطن العزيز...

لا تسمحوا للدخلاء الغرباء على دمائكم وعلى أبناء جلدتكم أنْ يتمادوا أكثر مما هم عليه.. لا تقفوا لأنصاف الحلول متفرجين, احسموا أمركم فالنار تكاد تلتهم البقية!!!  هلموا إلى لقاء الخير والعمل والبناء .. إلى لقاء السلم والديموقراطية وهلموا إلى دعم مركز قرارنا في دولة مؤسسات نحترمها لا نخافها وتحترمنا لا تظلمنا ولا تستلبنا أو تصادر حق لعراقي...

هلموا لنبدأ مسيرتنا بعيدا عن لعلة الرصاص التي تسرق الغفوة من عيون أطفالنا... وبعيدا عن متفجرات الموت أسياف الكفرالتي تطيح برؤوس الأسوياء .. بعيدا عن مشاريع التخريب التي تفجر مؤسسات الصحة والتعليم والخدمات .. بعيدا عن أوباش الزمن الردئ ...

هلموا ونحن معكم وفيكم وأنتم في وجودنا من الصميم والقلب والأصل لا الفرع لنبني عراقنا لا لنتناهبه ونقتسمه غنائم حرب قذرة فنمسي في غدنا لا نملك حتى الحصة التموينية التي كانت تطعم أفواها فلا تسد الرمق.. هلموا لتكون كل الخيرات لكل العراقيين سويا ومع بعضنا بعضا ..

تعالوا لنتحدث عن حق كل منكم في الحياة الآمنة الحرة الكريمة في أرضه وطنه وداره ولكي لا تدخله بلا استئذان قذيفة طائرة أو مدفع أو رخيص قوم دخلوا بلادنا في غفلة من الزمن .. أنتم أصحاب الديانات والمذاهب الصحيحة التي تربي الأنفس على التسامح لا الاصطراع على التعاضد والتعاون لا التقاتل والتناحر على السلام لا الحرب على احترام الآخر وإكرامه لا التجاوز عليه وإهانته... أنتم أصحاب المعتقدات التي ترفض قتل البشر والتضحية بآدميتهم والاستهانة بإنسانيتهم..

فلا اقتتال ديني ولا تطاحن مذهبي وكلنا سواء في العيش في وطن الجميع.. كلنا نحيا نحترم بعضنا بعضا.. وكلنا أخوة وأحبة وأصدقاء وعقدنا الاجتماعي في عهدنا الجديد هو عقد آلاف الأعوام من العيش المشترك والاحترام المتبادل فهلا تذكرنا أسلافنا في الأمر؟

لا نتركن ما نصيب في لحظة من منفعة تسطو على عميق أخلاقنا الكريمة فكل عراقي ليس مشروع استشهاد لطغيان زمن الأوباش ولا مشروع تضحية لأمير الكفر والإلحاد من أدعياء الإسلاموية والمرجعيات الزائفة دينا بل مشروع خير وإبداع أشعَّ على الإنسانية, منذ كنّا تراث الإنسانية الخالد وحتى لحظة عودة حريتنا من الطاغية السارق لها لنعود مجد البشرية وأسياد زمننا ..

أنتم الأعرف بقيم اللصوصية والعهر الذي لم يعد مخفيا على عراقي نبيل شريف من هؤلاء الذين استباحوا حياتنا بدموية قذرة .. فهلموا لوقف المجزرة...

خاص بجريدة المدى