الشيعة و السنّة

 بين الوجود الوطني والديني والإنساني الواحد ومحاولات الإعلام الخائب استهدافهما

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  10 \ 06

E-MAIL:  t.alalousi@chello.nl

 

منذ مئات السنين ونسيج المجتمع العراقي بوجوده الوطني عصيّ على الاختراق من شتى القوى الإقليمية والدولية... وظل شعار سومر حيث دالت حضارة وادي الرافدين لنير الغزو العسكري عاليا كون أبناء الرافدين الذين خضعوا عسكريا أو هُزِموا, أَخضَعوا الغزاة لثقافتهم ولوجودهم راسخ الجذور فاستعصى على الأصابع الخارجية تمزيق تلك الوحدة الوطنية الراسخة...

ولم يكن أمر الوحدة الوطنية لنسيج المجتمع العراقي مستهدفا من القوى الخارجية حسب, بل اُستُهدِف من عدد من الحكام والطغاة الذين تعاقبوا أو توارثوا نهج فرِّق تسد. حيث كان ديدنهم أنْ يمزقوا أي شكل من أشكال التحالف والوحدة من أجل تعزيز بسط سيطرتهم على مجتمع عصي على الطغاة...

وبقراءة تاريخ ما بين النهرين وشعوبه, نجدنا أمام تماسك المشهد العراقي عبر وحدة ازدهت دوما بتنوعها القومي العرقي الديني المذهبي والفكري الفلسفي والسياسي.. وهذه الحقيقة لم تنتهِ بنهاية الدولة القديمة وقيام أو تأسيس الدولة العراقية الحديثة بُعيد الاحتلال مطلع القرن الماضي. بل أثبت العراقيون وحدتهم بكل أطيافهم عبر ملاحمهم النضالية المعروفة..

وكم كان مفكرو العراق يرفعون أصواتهم عاليا بمصطلحات الوحدة والتماسك وتعميق التفاعل بين جميع القوى والتكوينات العراقية.. وفي تاريخنا المعاصر لم نجد إعلامنا الشعبي وأصوات حركتنا الوطنية بكل أطيافها المخلصة تتقدم بمشاريع كالتي يجري تقديمها والمقاتلة من أجلها اليوم وهي في أقل تأثير لها تقوم بحرث الأرض لتمزيق البلاد والشعب ومن ثمَّ بكل تأكيد تسليمهما للقوى المتربصة!

إنَّ قراءة فيما يُكتَب اليوم نتلمس فيه حالة من بروز أو تميز أو ظهور مصطلحات لا تُعالج إيجابيا بقدر ما تنحو باتجاه السلبي التخريبي؟! وبالتركيز في مقالنا هذا على حالات تناول مصطلح شيعة وسنّة نجد بعض المظاهر والموضوعات الآتية:

1.                                        إذ يجري تناول المصطلحين في ظلال ضوابط طائفية بمعنى الحرص على معالجة الأوضاع العامة بخاصة تلك التي تتعلق بالشأن الوطني من منظار طائفي عفا عليه الزمن..

2.                                        اجترار مصطلحات ترتبط بوقائع تاريخية لم تستطع في زمنها أنْ تخترق الوحدة بين أطراف المذاهب والديانات التي تشكل منها نسيجنا آنذاك ولكنَّ عملية الاجترار إياها يمكنها أنْ تؤتي أكلها حيث التصيّد في المياه العكرة.. فمصطلح سني أموي على سبيل المثال لم يكن ليستطيع يومذاك في زمن الدولة الأموية أن ينهض بعملية تخريب الرأي العام لأنَّ المصطلح في حينه كان يعني بالتحديد جهة المجموعة الحاكمة وليس المذهب السني بتنوعاته فضلا عن تشخيصه لواقع ملموس معاش؛ في حين سيكون استخدام مصطلح عالج أوضاعا وُجِدت قبل مئات السنين أمرا يثير لا الاستغراب بل التأويل واللعب على حبال المقاصد والاستبطانات .. وأية حالة من حالات التأويل أو الغموض التي تصادف لغة أو مصطلحا تخلق من المشكلات ما لا يمكن توقعه وضبطه عند انفلات ما يخلقه من أزمات..

3.                                        ولابد هنا من التوكيد على ضرورة ضبط استخدام المصطلحات والعودة إلى من له الحق في توليدها وفي تقرير صواب الاستخدام من المجامع العلمية والعلماء وليس كل من خط لأول مرة مقالا بقادر على توظيف بنَّاء للمصطلح وأخشى ما أخشاه هة اتاحة الفرص المضاعفة للمتصيدين عندما نستخدم المصطلح في غير موضعه وبطريقة غير موضوعية...

4.                                        ولمزيد من التأكيد على مثالنا هنا, نقرأ بعض كتّابنا المتنورين وهم يتحدثون عن قوى التخريب والجريمة التي تتخذ من بعض المدن العراقية مقرا أو مأوى لها وكأنها متمثلة بكل أبناء تلك المدن والقصبات والمحافظات.. ولم نعرف منطقا في يوم من الأيام يحكم على أبناء مدينة أو مجموعة سكانية بأنهم جميعا مجرمون يتحملون وزر جريمة وقعت في مناطقهم..  والأصح أنها وقعت وتقع على رؤوسهم قبل غيرهم.. طبعا باستثناء زمن الطاغية الذي كان يبيح لنفسه أنْ يعتقل ويقتل حتى الدرجة الرابعة والخامسة من أقرباء أعدائه بل أباح لنفسه أنْ يحرق قرى ومدنا كاملة لانطلاق رصاصة ضده من على أراضيها؟!!! ولست أدري كيف يبرر البعض القليل من زملاء القلم من الذين أعنيهم واحترم زمن كتاباتهم المتنورة  الإيجابية, أقول يبررون كتاباتهم الجديدة بمهاجمة مجموعة عراقية أولا بعزلها عن هويتها الوطنية العراقية وثانيا بتخوينهم جميعا وثالثا بوصفهم أعداء مجرمين ظـَلـَمـَة من مثال القول بكون مخربي الزمن الردئ من أبناء الجريمة أعداء العراقيين كافة بالقول إنَّ هؤلاء هم السنّة إذ لم تعد تكفي مفردة وهابية بل راحوا يوسعون المصطلح ليشمل محافظات ينسون أنها ليست سنية مطلقة بل يوجد فيها من الشيعة نسبة لا يُستهان بها!

5.                                        وبالعودة إلى تمظهرات الخطاب الجديد لبعض كتابنا نجده يخضع لتأثيرات ضربات الإرهاب والإرهابيين؛ ففي وقت يتطلب الموقف من المثقف العراقي والسياسي العراقي مزيدا من الثبات والتماسك والهدوء والموضوعية نجد بعضهم يقع تحت تأثير ما يُثار من فوضى وما يُثار من قلق ورعب وتشويش فيفقدون دفة معالجاتهم التي تخرج علينا بهجمات غير مبررة تحرق الأخضر مع اليابس!

6.                                        هنا وصل الأمر لأن يُقدِم بعضهم على اقتراح بل العمل الصريح بما هو أبعد من المعالجات والتخطيطات من أجل إقامة جدران الفصل والعزل لإنشاء دولة تزعم دفاعها عن مسمى شيعة. والأمر لا يختلف كثيرا عن الأحزاب الطائفية التي تدعي كونها أحزابا شيعية لأغراض في (نفس يعقوب!!!) ويمكننا البحث في موضوع الدولة الشيعية ومناقشة الأمر وهو ما يجب من منطلق الحرص على استيضاح برامج دعاتها وتوجهاتهم وعلاقتهم الحقيقية بأبناء المذهب الشيعي من العراقيين وغيرهم...

7.                                        بالعودة إلى تمظهرات مصطلح شيعة \ سنّة نجد ذلك واضحا في تعزيز بعضهم للمعطى الطائفي الانعزالي ومغادرة أصل المصطلح كون المذهب حالة من  التفتح يستند إلى اجتهادات موضوعية تخص حسب أصوله أفضل قراءات الخطاب الديني الإسلامي, ولم تأتِ المذاهب الدينية من أجل اختلاق التقاطعات والتناحرات ولكنها جاءت من أجل تقديم معالجاتها على وفق منطق الاجتهاد الإيجابي.. غير أن إدخال العامل السياسي والاجتماعي في الأمر وخلط الأوراق أدى وسيؤدي في حال الاستمرار عليه وبه من بين ما يؤدي إليه إلى نتائج سلبية خطيرة.. ولست أدعو إلى الفصل بين الدين والسياسة ومن ثم بين المذهب والسياسة فتلك مسألة من مسائل الحريات العامة ولكنني أدعو إلى رفض التأويلات السلبية التي ترفع راية قراءة زمنا وأوضاعه وعلومه ومعارفه واحتياجاته في ضوء مشكلات عقدية دينية لاهوتية بحتة لا علاقة لها حتى بحيوات من مضت أزمانهم وانقضت فكيف بها وزمن التكنولوجيا واحتياجات لحظتنا التاريخية لمطالب بعينها تختلف بالتأكيد عما كان قبل عشر سنوات لا قبل مئات السنين!!

8.                                        أيها السادة ممن يكتبون بنيـِّة حسنة دفاعا عن طائفة وقع عليها الحيف والضيم طويلا لا تقعوا فريسة التشويش الذي يثيره ظلام هذا الطرف أو ذاك من المجرمين الذين يستهدفوننا سويا شيعة وسنّة.. ولا تقعوا فريسة القوى التي تضمر لنا جميعا الشر والضرر؛ فالذين يسعون لتقسيم العراق وإعلان جمهورية أو إمارة الشيعة ليس غرضهم فائدة شيعي واحد. وتذكروا التاريخ في الأمر وأنتم أدعى لقراءة التاريخ وتقديمه لنا جميعا من أجل أوضح سطوع لشمس الحقيقة.. وفي يومنا يمكننا الاكتفاء بما يجري من شراء الذمم وتصدير أسلحة التخريب والتفجير والتدمير ودعم المجرمين وسوقة الشوارع, ليسطوا هؤلاء على السلطة في غيبة من سلطة أبناء الشعب جميعا وسويا وبلا استثناء لطرف عراقي وبلا منقصة من حق طرف كاملا تاما... ليس من مصلحة الشيعي أنْ تنهار دولته بعد آلاف السنين من الوجود الحضاري والاجتماعي والإنساني الذي اشترك فيه كل أبناء الرافدين بكل ضيمه وبكل خيره.. ليس من مصلحة الشيعي أن يهدم دولته الكبرى ليحيا في إمارته الصغرى التابعة الذليلة ويسلّمها لأطماع دولة إقليمية لأنَّ ذلك لن يجلب له الخير بل سيعزز من سلطة طغاة يحكمون تلك الدولة ليساهم في استلاب الحريات والحيوات في المنطقة جميعا ..  فيكون خان أهله من الشيعة ومن العراقيين ومن أبناء الدولة التي يرى في الخضوع لها مصلحة؛ وفي الحقيقة فحكم تلك الدولة لم يثبت عدالته لأهله فكيف للآخرين من شيعة العراق؟!!

9.                                        أيها السادة ليس السني بل أستطيع القول ولا الوهابي (عندما يحتكم للمنطق السلمي والاعتدال) بعدو للشيعي حينما تصحو الأنفس وتتدارس بعقل وبموضوعية.  وليس المجرم الإرهابي الذي يحمل السلاح ضد أبناء جلدته هو من أي مذهب ديني كان. إنَّه ليس من أي مذهب أو تيار إنساني سياسي بعينه, إنه من المجرمين فقط لا غير... لا تتهموا مجموعة بهذا الاطلاق الفاشي الظالم, فلم يكن ذلك لغتكم يوما ولا لغة من سبقنا جميعا من أبناء حضارة سومر وبابل وأكد وعراق الحضارة الإسلامية (لا الدولة وحكامها) وما تلاها فمسيرة أهل الفكر هي مسيرة تلاحم وتوافق.. ألا نذكر فيما يخص السنة والشيعة من كان أستاذ من, ومن كان زميل من؟ وما العلاقة بين المجتهدين الشيعة والسنة؟ هل كانوا أعداء أم كانوا أصحابا وزملاء ومتآخين ومتفاعلين ومتبادلي الأفكار والرؤى؟ عجبي فقط لأصحاب النيات الطيبة أن يقعوا في مصيدة الطائفية الرخيصة التي تخدم أعداءهم وأعداء العراقيين كافة؛ وليس لي من عجب تجاه تلك العناصر الخبيثة التي تنظــِّر للإرهاب وللتقسيم ولتقطيع أوصال الأهل وهنا بودي التذكير بأن العوائل العراقية الثنائية الشيعية السنية تحصى بمئات الآلاف ما يعني تشطير الجميع بين دولتين أو تلفيق الحلول لهم من أجل تثبيت أفكار ليست رخيصة حسب بل معادية لأبسط مصالح الإنسان الفرد والعائلة العراقية والوجود العراقي ...

والجدل في قضية المصطلح بعد ذلك أمر لا يقف عند التقسيم الطائفي المرضي المتخلف ولا عند مسألة التحضير لدويلات الطوائف التي قرأناها في تاريخنا بوصفها دويلات قتلت ملايين منّا ولم تلغِ دولتنا وحضارتنا بل قتلت وجودنا وضربت مصالح أجيال عديدة قبل أن تولد أجيال عالجت مآسي الأمس بطريقة لم تستطع أن تعيد الحياة ولن تستطيع للملايين التي راحت ضحية لدويلات الطوائف وها هم بعض حسني النية يقترحون مشاريع الطائفية ودويلتها ما يعني توجهنا إلى مصائب دهر آخر..

أما شعبنا من شيعة وسنة فلم يقف ولن يقف من المصطلحات هذا الموقف بل لقد سخرت أجيالنا من الطائفية من دون أن تفقد احترام المذهب وخيارها المذهبي الديني الذي يوحّد لا يفرّق وشعبنا شيعة وسنة مع عراق الديموقراطية الحقة الفديرالي على أسس موضوعية صائبة لا تسخر من منطق الحل الفديرالي بل تؤكده ولكن على أسسه الصحيحة التي ليس منها ما يصب في قيام دويلة طائفية ولا فديرالية طائفية بل الحكم الشعبي لن يظهر إلا عبر صندوق الاقتراع ومجالس الحكم البلدي المحلي...

ناقشوا وحاوروا ولكن لا تستعجلوا توريط أنفسكم ومن ينخدع بمقالاتكم في مصائب أخرى نحن جميعا في غنى عن ذلك.. وتذكروا أن عراق الجنوب والوسط والشمال لا يقف عند الشيعي والسني بل هو عراق المسيحي قبل المسلم وعراق المندائي والأيزيدي قبل اليهودي والمسيحي .. إنَّه عراق كل عراقي حتى لو كان فردا فكيف  والواقع  يقرأ وجود مئات ألوف وملايين البشر تهملونهم في المعالجات الخاطئة للمصطلح سواء عن تعجل وخطأ معرفي أو عن قصد...

عراقنا عراق الجميع إلا المجرمين والخونة من أزلام منافع انتهازية مأجورة لقوى إقليمية كما أطماع بعض الجيران التاريخية المعروفة.. ولنتذكر أن السني الذي لا يتحدث عن سنيته بل عن عراقيته هو معتز بروحه السني ولكنه لا يقدمه على وطنيته في خياره السياسي وهو الأمر نفسه عند الشيعي الصحيح الذي يجد في عراقيته تقدما على اشتراكه المذهبي مع غير العراقي عندما يتعلق الأمر بالوطن والوطنية.. وهذا لا يتقاطع مع تقدم المسألة المذهبية عندما يتعلق الأمر بها ولا يتقاطع مع مصالح الوجود الوطني العراقي...

أيها الكتّاب ضعوا بين أعينكم وفي جوهر ضمائركم الحرص على وجودنا العراقي قبل وفوق كل شئ آخر في ظرف ترون أولوياته في بناء عراق الحريات والديموقراطية والفديرالية على أسس صحيحة صائبة.. وهذا هو المؤمل فيكم ومنكم ولن يخشى شعبنا أقلية من المخربين الذين يصطفون مع مخربي السلاح بتخريبهم بالكلمات ولا فرق  كبير بين تخريب الرصاصة وتخريب الكلمة..   

خاص بجريدة الأخبار العراقية