الإرهاب وقوى التخريب

ومحاولات إعادة عجلة الحياة إلى الوراء

مؤسسات التعليم نموذجا لممارسات المصادرة والاستلاب

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  10 \ 12

E-MAIL:  t.alalousi@chello.nl

 

المدرسة أو أية مؤسسة تعليمية عادة تمثل الفلسفة التي يختارها المجتمع فتسود فيها أدوات تلك الفلسفة ومناهجها... ومن الطبيعي أنْ نجد في المدرسة العراقية  الجديدة نضالا عنيداَ َ من أجل تثبيت خيار شعبنا الديموقراطي لمؤسساته كافة. أما لماذا النضال العنيد؟ فلأنَّ ما يدور خلف أسوار تلك المؤسسة التربوية التعليمية هو انعكاس تام للصراع الدائر في عموم المجتمع...

إنَّ كل إنسان يحترم الخيار الديموقراطي واحترام طبيعة مجتمعنا العراقي التعددية وتنوع أطيافه بكل مستوياتها العرقية القومية الدينية المذهبية الطائفية وفرقه وتياراته الفكرية والسياسية, إنَّ احترام كل ذلك يدعو إلى القبول بالآلية الأنسب لاحترام قويم لهذه التعددية...

فإذا كان الأمر على مستوى القضايا الوطنية الكبرى كان الأمر مشارا به إلى الديموقراطية والفديرالية, وإذا كان الأمر مخصوصا بمؤسسة اجتماعية أو تعليمية أو غيرها ذكرنا عددا من تفاصيل ما يندرج في ظلال الديموقراطية... وهنا سيكون من الصائب تطبيق قراءتنا على المدرسة وطلبة العلوم والمعارف...

لقد انهار صنم المصادرة والاستلاب صنم الديكتاتورية الطاغية الدموي ومؤسسات دولته البوليسية.. ولكن هزيمة القوى التي ربّاها النظام القمعي لا تعدم الأرضية المتمثلة في بقايا أزلام ذاك التشكيل الشاذ! فضلا عن ذلك فإنَّ الظروف المميزة التي يمرّ بها عراقنا من تصاعد مدّ القوى المتطرفة ومحاولاتها فرض سيطرتها على الشارع العراقي باستغلال منطق الاختطاف, فهم يأخذون الناس رهائن لديهم لاخضاعهم لفلسفتهم ولأوامرهم ومستهدفاتهم.

من هنا كان واقع المؤسسة التعليمية العراقية اليوم قائما على حالة من القلق وعدم الاستقرار. إذ جموع الطلبة والطالبات ينظرون إلى السلطة التي تحكم قاعات الدرس وساحات المدارس وميادينها بعين المنتظر لما ستسفر عنه النتائج.. ينظرون إلى القوى التي تحكم بقبضتها على بوابات المؤسسات؟ وإلى مَن الغـَلـَبة في الصراع بين قوى التقدم والتطور والتنوير وقوى الظلام والقمع والإرهاب؟

إذ الجموع الغفيرة لم تنهض بعدُ من كبوة تربية الأمس البغيض حيث السلبية وانتظار الفعل والترقب قبل ولوج نهر الحركة والعمل..ولذلك فهي بموقفها المنتظِر المتربص تترك التوازن في حالة قلقة. بما قد يؤدي لمنح قوى العنف والتطرف فرصا جدية تدعم سلطتها!

ومن الطبيعي أنْ يكون احتجاز الناس رهائن لدى مثل هذه القوى هو ما يفرض من جديد سلطة غاشمة كما كانت سلطة العنف الدكتاتورية فارضة وجودها وفلسفتها.. بالأمس الطاغية الفرد واليوم الطغاة الساديون المولعون بالدم والقهر والتعذيب.. وعليه فإنَّ محاولة فرض سلطة جهة بعينها على بقية أطياف أو مكونات المجتمع العراقي أمر يندرج في إطار ظاهرة المصادرة والاستلاب بالإكراه والقسر والعنف الدموي..

ومن هنا أيضا وجدنا ظاهرة التسابق على احتلال المواقع في دوائر الدولة وأجهزتها ومؤسساتها ونظام المحاصصة وتوزيع المسؤوليات كلها من شؤون ارتهان المجتمع لقوى بعينها.. وأخطرها تلك الحالة الغريبة على مجتمعنا العراقي المتفتح المتنوِّر حيث يُراد لنا أنْ نُساق إلى عنابر المتطرفين وحضائرهم النتنة قطعانا بلا رأي أو إرادة.. وفي إطار نظام المحاصصة يتسلل أفراد من ماضي بلادنا المعقد والإشارة هنا بالكامل إلى حالات التسلل وليس إلى التمثيل المتوازن لأطياف المجتمع بطريقة موضوعية...

هنا نجد مؤسساتنا التعليمية من ضمن ما يُراد لنا تشويهه واتـْباعه لفلسفة الأسلمة التي تدعي تمثيل الإسلام والمسلمين وهما براء من ذاك التطرف الإسلاموي الدموي الشاذ حيث توجد بيننا قوى إسلامية حية تمتلك التوجه الموضوعي الصحيح المتوافق عليه في عراق العهد الجديد.

ونحن هنا ضد الغلو وضد التشدد وضد التطرف وضد القسر والعنف والدموية وهي وسائل القوى السادية ذات المصالح المعادية لخيارنا الديموقراطي ولخيار مجتمعنا الذي تأصل عبر تاريخنا المتحضر منذ آلاف السنين.. تاريخنا الذين عشنا فيه نحترم التنوع والتعدد والاختلاف ونقدِّر التعايش السلمي.....

وهذا لا يعني إلا العيش بديموقراطية وسلام والعيش بلا قسر ولا إكراه.. والعيش بمنطق تفاعل أطياف المجتمع ومكوناته. وهذا لا يستوعبه إلا نظام العلـْمَنـَة أو العَلمانية الذي لا يقدم سلطة فرقة أو مجموعة أو فئة على أخرى.. بل يجعل الجميع يأخذ مكانته وحقه بحسب حجمه وبحسب حال احترامه الآخر الذي يشاطره العيش في الوطن..

وهذه القراءة هي تأسيس للبحث في بعض تفاصيل ما تتجه فيه قوى حزبية إسلاموية لكي تفرض أسلَمَة المجتمع وأبرز وأوسع فئة فيه اليوم هي فئة الطلبة.. أما أبرز علامة شكلية لإبراز عضلات سطوة هذا التيار المتشدد الفارغ فكرا وفلسفة هي اتخاذه طريق القسر والفرض والإكراه بتحجيب الطالبات وإلباسهنَّ شعار التأسلم في حجاب العقل وحجاب التمظهر والادعاء واستعراض القوة وهو موصوف كذلك لأنَّه حجاب يأتي بالقسر والإخضاع وبالتهديد والفرض..

وباستثناء تيار الاعتدال والموضوعية من الإسلاميين يستعمل الإسلامويون والمتسللون في صفوفهم سلطة المحاصصة الحكومية لفرض دعايتهم من جهة وسلطتهم من جهة أخرى وهم بذلك يمنحون الأرضية لإكراه كل المجتمع على اتباع رؤاهم وفلسفاتهم المرضية ولنلاحظ أنَّ من أولى ما انبرى مسؤولوهم لفعله هو استصدار قرارات التحجيب بسلطة إدارية رسمية وكأن الدولة العراقية صارت ملكا لآباء المتطرفين المتشددين وأسيادهم القابعين خلف حدودنا العراقية سواء شرقا أم غربا..

لقد صدرت أوامر في البصرة ومدارسها وفي الموصل ومؤسساتها الجامعية وفي غيرها من المدن تهيئ احتلال الشارع من قوى التطرف الدموية السادية. ووقف مسلحو ميليشيات الأحزاب الإسلاموية ليس لحماية الطلبة بل لإغلاق بوابات التعليم ومؤسساته إلا لمن يخضع لما يريدون, بالتحديد لتحجيب الطالبات وفصلهم عن زملائهم؛ والمشكلة ليست في الحجاب ذاته بقدر ما هي في محاولة فرض شعارات التأسلم السياسي ومظاهره الشكلية ليتابعوا بعد ذلك في خطوات تالية لا الأسلمة بل تشديد قبضة الاستغلال في مصادرة الحريات قسطا قسطا حتى يصير كل شئ لهم ولما يبتغون..

إنَّ قضية الحجاب في المدرسة والجامعة والشارع ليست قضية هامشية بل هي الإعلان الرسمي لقتل الحريات والخيارات والتعددية والتنوع ومنع أية فرصة للتفتح وللتعايش السلمي, وهي حيث تأتي بالفرض والإكراه تأتي لتصادر جوهر توجهاتنا الوطنية الجديدة التي ترفض زمن المصادرة وآلياته البشعة..

إنَّ جملة من الأمور تجري خلف جدران حرم المؤسسات التعليمية من مثل محاولة فرض ليس نمط الألبسة حسب بل فرض ممارسة طقوس تيار بعينه على جميع الطلبة وقد برز هذا في فرض طقوس عاشوراء داخل الحرم التعليمي وهو أمر يستحق التوقف عنده وعند مخاطره الواسعة إذ الأمر ليس القصد منه الاعتزاز بعاشوراء وطقوسها بقدر ما هو تهيئة أرضية فرض فلسفة بعينها هي في النهاية خدمة حالات التطرف وتمهيد أرضية بسط سلطتها الأوسع على مجموع الميدان العراقي...

علينا منذ اليوم البحث في أمور كهذه والعمل على وقف تداعيات القضية نهائيا ببسط سلطة دولة القانون والحريات وحق تنوع الخيارات ومنع إكراه المجتمع على لون واحد يخضع لفلسفة جهة واحدة هي في حقيقة أمر ممارساتها لا تخدم إلا قوى التطرف والإرهاب..

ومهماتنا اليومية المباشرة تكمن في توعية شبيبتنا بمخاطر الانسياق وراء أنشطة سوداوية ظلامية كتلك, وإعلان التضامن فيما بيننا جميعا أبناء مجتمع التحضر والتمدن والتطور والتنوير ضد محاولات استلابنا وإعادتنا إلى نقطة تحت الصفر وهي أسوأ حتى من زمن طاغية فرد سادي إلى طغاة ساديين جدد يتخفون ببراقع الدين..

وليقف طلبتنا وطالباتنا ضد عملية الإكراه والقسر في أي أمر حتى منه الذي يؤمنون به ليدافعوا عن خيار التعددية والتنوع والديموقراطية بعد أن ذاقوا زمنا طويلا طعم مرار وعلقم الدكتاتورية.. فإذا وقف أحدنا مع هذا التوجه أو تربص منتظرا ما يسفر عنه الصراع فإنَّ ذلك سيكون في صالح أعداء الحريات والحقوق الإنسانية التي تـَنادينا طويلا من أجلها..

إنَّنا مع حق الدعوة لفلسفة بعينها على أنْ يكون الأمر سلميا ومن غير إكراه أو قسر بل من غير دموية ومن غير ارتهان المجتمع في قيود جهة بعينها ترى في نفسها الصواب المطلق!! وعليه كان لابد من التنبيه على مخاطر توجهات بعض المسؤولين التابعين لأحزاب التيار الإسلامي وهم يعملون لخدمة قوى التطرف وليس حتى لتياراتهم التي تعلن تبنيها مبدأ التعددية والتداولية؟!

ولابد من وقف كل فرد أو جهة عند حدود القانون ومعاقبة أولئك المتجاوزين فقانون العراق الجديد هو الديموقراطية وقانون المدرسة والجامعة هو الديموقراطية والحريات وحقوق البشر الآدمية التامة الكاملة غير المنقوصة لسواد عيود المرضى والأفاقين والسوقة ورعاع الشوارع الذين يحاولون تسيّد الموقف بادعاء كونهم يعملون باسم الدين أو الطائفة أو فلسفة بعينها وهم ليسوا أكثر من أدعياء يخفون تحت قلانسهم أفاعي الشر والجريمة..

فاحذروا القبول بهؤلاء الأدعياء ويمكن الرجوع إلى أولياء الأمر من المرجعيات الصحيحة الصادقة وإلى التمعن الحقيقي في قراءة النص الديني وتفريق ذلك عن دعوات التطرف وسمومه المموهة المخفية.. وكلنا أخوة في الوطن وكلنا أخوة في الوجود الإنساني وعراقنا للجميع يحمي الحريات والحقوق ولا يقبل المصادرة والاستلاب..

أما الثغرات التي يحاولون دفعنا إليها حيث التناحر وتوفير أرضية الاحتراب والخراب فإننا أوعى من أن نقع في حبائلها وإن قدموها في حلوى الدفاع عن أعلى وأنزه الفلسفات والأفكار..

انتبهوا ايها السادة من أصحاب الديانات فالمشهد العراقي التعددي اليوم يشير بناقوسه قائلا: كلنا في خطر أمام ما يجري ولنفتتح مؤسساتنا التعليمية الحرة الخالية من أوبئة التطرف ومصائده القذرة لنفتتحه مكن أجل عام من ترسيخ قيم الديموقراطية والسلام...