حق الكرد في تقرير مصيرهم واستقلالهم

 وعقدة الانفصال وإسقاطاته الشوفينية في أذهان الـ "بعض"

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  10 \ 12

E-MAIL:  t.alalousi@chello.nl

 

مظاهرات الكرد في الوطن والشتات التي تطالب بحق تقرير المصير هي حقيقة موضوعية تعبر عن مشاعر صادقة وصحيحة وعن حق ثابت جرى تسجيله في كل المواثيق الدولية وتثبيت مشروعيته في المعاهدات التي تُعنى بشؤون حقوق الإنسان والعلاقات الدولية هذا فضلا عن وجود أرضية متينة تخص القضية الكردية في التاريخ الدولي المعاصر بالإشارة إلى الاتفاقات الدولية  المعنية مطلع القرن الماضي...

كما أنَّ مسألة حق تقرير المصير لا تعود إلى مشروعية تثبتها المعاهدات إذ طالما جرى العودة عن تلك الأوراق المعاهدات والتلكؤ عن تنفيذ ما فيها كما هو حال العودة عن وعود تحقيق حل القضية الكردية واستقلالهم بين معاهدتي سيفر ولوزان..

ولكنَّ قضية تقرير المصير هي قضية أساس تمثل جوهرا جديا خطيرا لمسألة حقوق الشعوب والقوميات في الوجود الحر المستقل الذي يحقق الاستجابة لإرادة تلك الأمم وحقها في تقرير المصير بالطريقة التي تراها مستجيبة لمصالحها ومصالح أبنائها وحقوقهم الإنسانية...

وعليه فمن نافلة القول التوكيد على حق الشعب الكردي في تقرير مصيره, فذلك مكفول بمنطق الحق والعدل وبمنطق القانون الدولي والمعاهدات والمواثيق الدولية العامة والمخصوصة. ولكنَّ أمر التوكيد على كفالة ذلك الحق يأتي بسبب من تخرصات "بعض" القوى في معاداتها لحق الكرد في إعلان أصواتهم وتنفيذ حق تقرير المصير..

وتلك الأصوات عادة ما تكون واقعة بين القوى الممثلة للسلطة التي تتقاسم أجزاء وطن الكرد [كردستان]  وأمتهم بخاصة السلطتين الحاكمتين وقواهما من الترك والعرب وبالتأكيد هذا لا يشمل الشعوب العربية والتركية مطلقا.. وبقدر تعلق الأمر بالكرد في كردستان الجنوبية أي بالكرد في الوطن العراقي, فإنَّنا نتناول القضية من جهة تلك الأصوات العربية التي عبَّرت في الماضي وتعبِّر اليوم كذلك عن الصوت القومي العربي "الشوفيني" "الاستعلائي" منه بالتحديد..

وهذه الأصوات طالما سجلت عداءها للكرد ولحركاتهم التحررية مثلما فعلت مع أبناء جلدتها من العرب؛ وعملت عقودا من وجودها في السلطة على شن الحروب الدموية ضد ما كانت ومازالت تسميه حركات التمرد الانفصالية. وشتّان بين الحقيقتين! فالكرد على مرِّ التاريخ لم يتخلوا عن حقوقهم في العيش أحرارا مستقلين كما كل الشعوب والأمم المجاورة ولم يطالبوا بأكثر من حقوقهم الإنسانية العادلة..

وعليه تمسي تلك الأصوات معبِّرة عن نزعة شوفينية احتلالية تستلب حق شعب وأمة في الوجود الحر المستقل... وتلك هي سياسة أساسها العداء مع الحريات حيث الدولة بلا مسيرة ديموقراطية تستلب حق المواطن كل المواطنين من حقوقهم في التعبير عن رؤاهم وأفكارهم وتصوراتهم, وهي فوق ذلك تتجه إلى قوى شعبية لأمّة أخرى فتستلبها حقها في الوجود المستقل..

في حين سجَّل الواقع الإنساني المعاصر طوال القرن الماضي حركات تحرر وطني حققت الاستقلال للشعوب والأمم في أوسع انتصارات بخاصة في ستينات القرن.. ولكنَّ عددا من القضايا ظلت عالقة لأسباب دولية ومحلية معروفة.. ومن تلك القضايا القضية الكردية.. على الرغم من قوة حركتها التحررية وسعتها والثورات المتعاقبة التي قُمِعت بشراسة ودموية..

ومعروفة تلك الآلام والتضحيات التي دفعها الكرد في الوطن العراقي وآخرها على أيدي الفاشية الصدامية بكل سجلات حلبجة والأنفال وجرائم كثيرة أخرى من نمط الإبادة الجماعية والتدمير الكلي الشامل لقرى كردستان ومدنها..

فما الذي تتقدم به الحركة الكردية في مظاهرات الوطن والشتات اليوم؟ أليس ما تقوم به هو حق التعبير الذي تكفله المواثيق والأعراف الإنسانية؟ أليس ذلك هو الحق الثابت المفترض معالجته على أسس ديموقراطية التفاعل والتناول؟

ولنلاحظ حقيقة كون تلك التظاهرات لم ترفع شعارات مسبقة بل نادت بحق تقرير المصير حيث الشعب وتصويته هو الذي يقرر. كما أنَّ القيادات الكردية والحركات والتيارات السياسية والاجتماعية أعلنت مرارا وتكرارا خيار الاتحاد في الوطن العراقي..

وفي ظل مثل هذا التوجه ينبغي علينا إعلان المساندة الجدية لقضية ممارسة حق تقرير المصير كاملا وبلا آراء مسبقة من جهة كونه حقا ثابتا, وأنْ نكون متأكدين من أنَّ خيار الوحدة الفديرالية أو غيرها هي مسألة يجب أنْ تتحقق بالخيار الطوعي وبقرار حر مستقل وإلا كانت وبالاَ َ  آخر على جميع الأطراف ..

إنَّ أمة تستعبد أمة أخرى ليست حرة ولا مستقلة وهي تخضع لفلسفة احتكار الصوت الحر ومصادرة الحريات والحقوق الإنسانية بل هي مستعبدة لقوة ضئيلة تحكمها وتوجهها لمآربها الخاصة.. وإنَّ ممارسة الحريات ينبغي ألا يكون له حدود وشروط مسبقة.. كما إنَّ الحق لا يمكنه أن يكون مكفولا لطرف وممنوعا من طرف آخر حيث تُمارَس الديموقراطية العرجاء..

من جهة أخرى سيكون لموقف إيجابي من  أطراف الوطن العراقي تجاه حقوق كل المجموعات والقوميات والأمم المتعايشة سلميا والمتآخية فيه دوره البنَّاء في كسب الصوت لصالح وحدة صحية وصحيحة لصالح كل تلك الأطراف..

إنَّ وقوف العرب والكلدان وألاشوريين والتركمان مع حق تقرير المصير للكرد سيكون له أعمق الأثر في كسب الصوت الكردي لصالح الوحدة في الوطن العراقي مع بقية شعوب الوطن.. بينما الوقوف ضد هذا الحق الإنساني سيولِّد مزيدا من النفور والشعور بضرورة قطع الصلة مع بقية القوميات في الوطن العراقي, ذلك أنَّهم سيشعرون عن حق بما يبيّت لهم من استلاب ومصادرة لحقوقهم الإنسانية العادلة المشروعة في وطن لا يحترم لهم حق التعبير واستقلالية الإرادة...

وعليه فإنَّ الموقف من الاستفتاء الذي يركز على إعلان الصوت بإرادة حرة مستقلة سيكون له أعمق الأثر في تحديد موقف الكرد من قضية الاتحاد أو الاستقلال.. بل سيساعد الموقف الإيجابي في هذا الشأن ليس على دفع الكرد لاتخاذ قرار الوحدة بل لاتخاذ قرار يخدم مصالحهم في اللحظة التاريخية الراهنة.. إذ الأوضاع الدولية تميل إلى مزيد من التحالفات ومزيد من توسيع رقعة التوحّد والانضمام إلى مجموعات كبيرة تنسيقية تضمن مستقبل أبناء تلك المجموعات...

كما أنَّ اضطرار بعض الكرد للتوجه لقرار الاستقلال في كردستان الجنوبية أمر لم يدفعهم إليه إلا مخافة استمرار الضيم والحيف والاستلاب والمصادرة.. وهذا لا يُحَسّ فقط بل يُعاش كما ترون من خلال مواقف عدد من الشوفينيين الذين يملؤون ميديا الإعلام العربي من جهة وبعض مراكز القرار في العهد الجديد من جهة أخرى..

إنَّ الكرد مثلهم مثل جميع القوميات المتآخية ينبغي أنْ يشعروا ويلمسوا بقوة وتأكيد دائمين مسألة تغير الموقف في العهد الجديد وضمان حقوقهم كاملة تامة لكي نجذبهم لما يخدم مصالحهم حقا  ومصالح شعوب الوطن العراقي وقومياته المتآخية.. وليس بالفرض والإكراه وبمنطق العنتريات البائسة منطق القوة العسكرية والإعلانات المجانية لحروب دموية لا طائل من ورائها غير مزيد من الدم ومزيد من الضحايا ومزيد من الخراب والآلام وهي لن تحقق في النهاية الأهداف المرجوة من وراء منطق الوحدة الوطنية..

إذ المرجو هو اتحاد يضيف للشعوب قوة ويتيح لها من وسائل معالجة المشكلات في زمن قاس.. فإذا كان الأمر قد جاء بحرب أو بقرار حرب وإكراه فإنَّ مزيدا من السنوات والعقود والجهود ستُهدَر من حيوات شعوب ما بين النهرين بلا عائد إيجابي إذ سنكون مشغولين في الهدم لا البناء..

وعليه كان أحرى بتلك الأصوات التي تناقش مسألة حق تقرير المصير من منطقها الشوفيني الاستعلائي أنْ تنتهي عن تلك العنجهية الرخيصة التي لم تثبت التجاريب إلا فشلها في تحقيق الخير حتى ولو لجزء من أهلنا.. ولابد اليوم من نظرة جدية مسؤولة تتطلع لجديد علاقات نزيهة بين شعوب وادي الرافدين تقوم على عميق الاحترام والاتحاد الطوعي والتكافؤ في فرص العيش ومنع أيّ من حالات الاستلاب والانتقاص من الحقوق الإنسانية العادلة المشروعة التامة الكاملة..

وعلى هذا التأسيس يعلن أصحاب العقل والروية والرشاد من كتّاب العربية ومثقفيها وسياسييها ومن أبناء وطننا العراقي جميعا وقوفهم بقوة مع مطالب مظاهرات الكرد في الحصول على حق تقرير المصير أيا كانت نتائج الاستفتاء وهم يقفون مع الكرد في مطالبهم من أجل استكمال تحررهم واتخاذ القرار الذي يرونه مستجيبا لمصالحهم..

وسيكون الاستفتاء حقا جوهريا في التعبير عن الرأي في الاتحاد الطوعي أو في الاستقلال .. وما نقترحه نحن هو تعزيز التحالف مع الحركة التحررية الكردية من أجل تعميق الوعي بأهمية خيار التحالف والوحدة في المرحلة الحالية لوجود أرضية تحررية لقوانا العراقية يمكنها أن تنسق من أجل أفضل تحقق لمطالب الكرد وأوسعها في العهد الجديد..

فضلا عن أهمية قراءة الوضع الدولي الإقليمي في تعامله مع القضية الكردية وبالنظر إلى قراءة موضوعية سيكون خيار الاتحاد سليما على أن للكرد قراءاتهم وحقوقهم في اتخاذ ما يرونه بمناقشة رؤى الآخر أو بغيرها, فـهُم شعب كامل الأهلية يستحق الاعتبار والاحترام لقراراته الخاصة.

أما قضيتنا نحن فلا تتعدى حقنا في مناقشة الوعي الجمعي ومحاولة اقناعه سلميا وبالحوار الديموقراطي الحر المتكافئ بين أطرافه, بأهمية خيار الاتحاد وجدواه.. ولن يكون سليما ولا صحيحا أو مقبولا كل محاولات التأثير بالتهديد بالقوة والعنف الدموي  إذ لم تثبت تجربة الدم والإبادة إلا الفشل والخيبة ..

ونحن مع حق الكرد ليس لفشل وسائل الترهيب والدم ولكننا في الوقت الذي نتطلع لحقوقنا الديموقراطية نثق بأنها لن تكون كاملة تامة مع إكراهنا لأمة وشعب على العيش في كنفنا بالقوة والتسلط.. كما أننا نريد الإعلان بحرية تامة عن حق الخيار بين أمرين وليس بين أمر الاتحاد أو خيار العداء ففي كل الخيارات سيكون لنا وفاء للصداقة والتعاون والتنسيق والتعاضد وكفالة مصالح جميع الأطراف ويجب هنا أن يكون تعدد للخيارات وإلا امَّحَت قضية الاختيار نفسها..

لنتجه إلى مزيد من التعاون والتوحد بالرأي وبالحوار الديموقراطي وبالتثقيف بقضية الاتحاد الفديرالي الحر الطوعي ولنتجه إلى إيجاد أرضية أتمّ الحقوق وأولها حق تقرير المصير عندها فقط سنجد خيار الفديرالية هو خيار السلم والحرية والاستقرار .. وهو الطريق الوحيد لوحدتنا في الوطن العراقي ..

إنَّ جوارا وتعاونا بين شعبين ووطنين مستقلين أقوى وأفضل من وحدة بالإكراه بين شعبين ووطنين ودمجهما بقوة السلاح في وطن واحد يقوم على دماء شعوبه واستلابهم حرياتهم وإراداتهم في التعبير الحر المستقل..

وعلينا اليوم أنْ نغادر زمن الاستعلاء وزمن منطق الدكتاتور صاحب الأملاك الأكبر والعبيد الأكثر.. وندخل عالم الوحدة الوطنية الأمتن تلك التي تقوم على الخيار الحر لكل أطراف الوطن قوميات وشعوب وطوائف وتيارات سياسية وفكرية..

أيها السائرون في مظاهرات إعلان الإرادة الحرة المستقلة نحن معكم بالأمس واليوم وغدا.. واتخذوا ما ترونه أفضل لوجودكم ولمصالحكم وكل الخيارات مفتوحة أمامكم ونحن معها جميعا.. وليس شرطا منّا أنْ نفرض عليكم أن تناقشوا معنا ما تريدون اتخاذه ولكنه مجرد حوار نرى نحن أهمية العودة إليه ونقترح فيه عليكم إيجابيات خيار الاتحاد مع أهلكم الذين عشتم معهم آلاف السنين على السراء والضراء فإن وجدتم في اقتراحنا ما يُسمع كان خيرا وإن لم تجدوا فهو خير وسنعمل على معاضدة ما ترون من قرارات مصيرية تخصكم فلا كره في الاتحاد ولا عداء في الاستقلال وكلنا معا في طريق الديموقراطية والسلام..

بلا خوف ولا عنجهية نختار الوقوف معكم في حقكم بتقرير المصير وبلا استعلاء وشوفينية وبلا مصادرة ولا استلاب ولا شروط مسبقة أنتم الأحرار ولا أحد يعلو على صوت الشعوب المطالِبة بحقوقها تامة كاملة.. ولا أحد يستعبد الناس وقد وُلِدوا أحرارا..

تلك هي مبادئنا في التحالف معكم وفي التوحد لنا خياراتنا ولكم خياراتكم .. وسويا سنمضي من أجل غدنا الإنساني الحر المستقر سواء كان ذلك بخيار الدولة أو الدولتين.. أيها الأحرار برهنوا على قوة الشكيمة في إعلاء صوت الحرية ونحن معكم وليكن نضالنا المشترك الموحد هو طريقنا من أجل حياة حرة سعيدة..

لنمضِ في طريق يقرأ الواقع وما يفرضه لما يخدم مصالحنا سويا ولا نلتفتنَّ إلى أصوات العبث التي تريد دفعكم ودفعنا إلى مزالق الانفصال والانقسام والتناحر.. ذلك أننا نرى وحدة بالإكراه والقوة هي انفصال وإضعاف لوحدتنا الحقيقية بينما ما يتحدثون عنه من فكرة يصورون بها الاستقلال وحرية تقرير المصير بوصفه انفصالا وتمزيقا للوطن هو أمر يتعارض مع الحقيقة حيث نرى في ممارسة حق تقرير المصير تعزيزا لوحدتنا كونها ستتعمّد على أساس من الخيار الحر المستقل بأي اتجاه جرى...

لن تتناحر القوى الشعبية ولن تتقاطع ولن تقع فريسة مزالق الشوفينية والعداء المختلق المفتعل الذي حاولوا دفعنا إليه عبر زمن حكمهم وتسلطهم على رقاب القوميات العراقية المتآخية وحركاتها التحررية الوطنية.. بل سنعمِّق من وحدتنا الشعبية بين كل قوى شعبنا العراقي وكل قومياته المتآخية المتعايشة بروح سلمي وطيد..

وسنقف قوة موحدة متينة ضد أدعياء الوحدة الوطنية وهم الذين مزقوها على أشلاء ضحايا وطننا من مختلف القوميات والطوائف والأديان والأقليات.. هم الذين مزقوها بمواقفهم الرعناء وشعاراتهم الفاشية المحارِبة لحقوق العراقيين كافة في اتخاذ ما يرونه أفضل لمصائرهم..

وفي العهد الجديد, في العراق الجديد نحن جميعا سنقف مع الخيارات الحرة المستقلة ومع حقوق تقرير المصير للتوجه نحو وحدة من نوع جديد وحدة تحقق للجميع مطالبهم وتمنع اللعب بمصائرهم وحقوقهم في التعبير عمّا يرونه من خيارات لحاضرهم ومستقبلهم..

وسيبقى العراق أقوى وأمتن وحدة في ظل كفالة جدية مسؤولة حقيقية لحق تقرير المصير ولنمضِ في طريق الحريات في عصر الحريات وفي طريق السلام والديموقراطية وفي طريق الوحدة الطوعية الاختيارية لا الإجبارية المفروضة المشروطة مسبقا على المكونات القومية التي تمتلك حقها في الحياة الحرة بكل خصوصياتها التي تراها لذاتها...

 

خاص بعراق الغد