المرأةُ العراقيةُ مطلعَ القرنِ الحادي والعشرين ومحاولات فرضِ الحجاب بالقوة

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي محلل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

TAYSEER1954@naseej.com

 

                          في مطلع القرن العشرين طَفَت على السطح حالة من السّجال الطاغي بشأن مسألة الحجاب والسفور وحينها جسَّد بيت الشعر المعروف تعبيراَ َ عن دور المبدعين والمثقفين التقدميين, مطلبا اجتماعيا للمرأة العراقية وللقوى المتنوِّرة فيه :

[إسْفِرِي ياابنة فِهرِ ِ فالحجاب ظلم وخيمُ] وفي الوقت الذي تصدّتْ قوى اجتماعية محدودة لتلك الدعوة تقدَّمت المرأة العراقية في مسيرتها ونهضت بمهامها على مختلف الصُعُد ومنها السياسية إذ وجدناها في مقدمة التظاهرات العامة (المطلبية والسياسية) وتزعمَّت قيادات عريضة وكانت بذلك تعبِّر عن جدارتها بتلك المهام وقدرتها على التحدي والمساهمة الجدية الفاعلة وتحقيق الإنجازية فيما تقوم به على حد سواء مع نصف المجتمع السائد ثقافة و سلطة..

                            ولقد تجاوزت الأيام مثل هذه الإشكالية وطرحت المراحل اللاحقة مهمات مختلفة تنسجم مع التطورات والمتغيِّرات الجديدة في الحياة العراقية العامة. ولكنَّنا اليوم إذ نُجَابَه بعودة جديدة لمثل هذه الإشكالية نجد أنفسَنا مضطرين للاعتراف بحقيقة ما أصاب مجتمعنا من انتكاسة خطيرة في العقود الثلاثة الأخيرة وما تعرَّض إليه الوضع الاجتماعي بخاصة في السنوات الأخيرة من تداعيات رجعت به وبمفردات واقعه إلى الوراء ردحاَ َ كبيراَ َ من الزمن! وإذا كان التاريخ لا يعيد نفسه فإنَّ الوضع القائم لا يعبِّر عن ذات الإشكالية الخاصة بالحجاب والسفور فاليوم تُطرَح هذه القضية على صورة مظهرية لتجليّات مسارات وفلسفة بعض التيارات السياسية التي يسميها بعضهم بالظلامية وآخرون بالتزمت والتطرف .. وفي مناقشتنا الهادئة لِنَقُلْ عنها التيارات المحافظة طالما التزمت بالحوار السياسي والجدل السلمي في معالجتها للإشكالية؛ ولْنُبعِدْ تلك القوى المتشدّدة التي ليس لحوارها غير العنف المسلّح برائحة الدم والموت؛ فتلك تتكفَّل بها القوانين المدنية والدينية وكلّ فلسفات الإنسان الذي لايرى في حياته إلا قدسية محمية من أيِّ اعتداء وأية محدِّدات وقيود ...

                            ما الذي تعنيه إذن مسألة الحجاب اليوم في أبعادها؟ وما الذي يُراد من تناولها في الحياة اليومية للمرأة العراقية؟ للإجابة عن تساؤلات عديدة من هذا النمط نقول: إنَّ تزايد هذه الظاهرة في أمسنا القريب كان جزءاَ َ من تداعيات الظروف الاقتصادية المتردية للعائلة العراقية ومن ثمَّ للمرأة بكلِّ ما لهذا العامل من معطيات تفصيلية تصل حدّ الحاجة المادية (قليلة القيمة مالياَ َ) للعناية الشخصية بالمتطلبات التي تفترضها هيأة المرأة وطريقة لبسها ومظهرها بتفاصيله المعروفة.. ومن ذلك استجابة المرأة لطبيعة محيطها الاجتماعي بتداعياته السلبية محاولةَ َ بذلك تجنيب الوضع لمزيد من التصادمات والسلبيات غير الموضوعية في لحظتها الراهنة, والتوجه نحو تناول أمور أخرى ومعالجتها من منظور فيه كثير من الروح السلمي ولكنَّه احتوى أيضا كثيراَ َ من الجور عليها وعلى حقوقها في أبسط أشكالها. وسياسيا نعرف مقدار الضغط الهائل الذي تعرّضت له عبر الحملة (الإيمانية؟) المزيَّفة؟! لسلطة الفساد والتخلف التي ما عاد من أحد يمكنه إنكار ما اتسمت به تلك السلطة من انحلال خلقي وتفسّخ في السلوكيات والسياسات...

                                اليوم مع سقوط تلك القبضة الرديئة تحتمي الفلسفات التي عملت على فرضِها السلطة البائدة ببقايا النظام وشظايا مجموعات بعضُها متأتِ ِ من خارج بلادنا حتى بالعناصر التي تتحرك لفرض أفكارها وتصوراتها وليس في مرجعيتها السياسية حسب, وبعامة فغالبية تلك القوى لا تمتلك أرضية جدية حقيقية في حياتنا الاجتماعية؛ ولكنها ما زالت اليوم تلقى وجودا مظهريا بسبب من ظروف التداعيات الأمنية  الطارئة, وهي تداعيات مؤقتة, بالتأكيد زائلة بزوال أسبابها المرحلية ..  وبعضها الآخر ناجم عن تفاعلات تقاليد وأعراف سلبية لا تنتمي إلى مجتمعنا المدني بتاريخه الحضاري العريق, وهذه المظاهر المَرَضية هي حالة ستجد تعارضها مع المتغيِّرات التي ستأتي بمظاهرها الإيجابية البديلة من دون عنف ودماء؛ ولكن بجدل الحياة وحركتها العميقة وبتناول الإشكالية تناولا إيجابيا هادئا وبغير انفعالات وشحناء سياسةِ تزمتِ ِ سواء باتجاه الرجوع والنقوص عن واقعنا المتطور المتحضِّر الجديد أم باتجاه تعزيز هذا الواقع والاستجابة لقيمه.

                                 وتقع مهمة التغيير ومعالجةِ إشكاليةِ ِ كهذه على عاتق مجموع الحركة الشعبية العريضة والرسمية الناشئة الجديدة. فرسمياَ َ لابد من تعزيز الحالة الأمنية والاستقرار العام وفرض سيادة القانون واحترام العقد الاجتماعي (التعاهدي الضمني) لوجود العراقيين سويا في إطار مجتمع مدني لا يُسمَح فيه للتقاطعات السلبية أنْ تسطو على الشارع والحياة اليومية.. ورسميا أيضا لابد لهذه السلطة أنْ تستجيب لمطالب المرأة العراقية في العمل والمساهمة في إدارة مؤسسات الدولة والاشتراك في القيادات السياسية والمهنية؛ وهي جديرة ومؤهلة للعب هذا الدور بما لديها من معارف وما اكتسبته من خبرات أكيدة.. وسيكون من دواعي تعزيز هذا الدور إبعاد زمن شلِّ نصف قدرات المجتمع عبر ادعاءات فارغة لا ترقى لمنطقِ عاقلِ ِ فكيف بمتنوريّ مجتمعنا!

                                  وشعبيا ينبغي أولا للمرأة نفسها أنْ تأخذ زمام المبادرة المطلبية بل المبادرة لفرض وجودها وواقع حقوقها التي هضمها من بين ما هضم وسرق نظام التخلف الساقط وهي صاحبة المبادرة السياسية وإلا ففي مجتمع خذلته عقود الفلسفة الذكورية الأحادية السلبية وسطَتْ عليه لا يمكنها أنْ تقعد منتظرةَ َ دعم المتنورين ليأخذوا بيدها ويطلبوها ممثلة في مجالس الحكم السيادية منها والمؤسساتية الوزارية, وهو ما سيجعل كلَّ دعوة من هذا القبيل ضعيفة عرجاء لأنَّها ستكون عمليات تجميلية ترقيعية لا جدوى فاعلة من ورائها أما إذا تصدت المرأة ذاتها ليس للتوقف عند مطلب المشاركة بل لفرض حقها في التمثيل السياسي والإداري والمهني النقابي وما إلى ذلك فإنَّها ستجد من المؤازرة القوية للمتنورين فاعلية في تحقيق أهدافها النبيلة وستصل إلى ذلك بصورة أكثر تأثيرا.

                                  وشعبيا ينبغي للقوى الطليعية من مثقفين وسياسيين ووجهاء أصحاب العقول الراجحة والحكمة, ينبغي لهؤلاء جميعا التعاضد والتوافق على برامج عمل لاتكتفي بالجدل والمناقشة والتفسير ولا تقف عند الدعوات والنداءات بل لابد لها من شنِّ حملات دائبة متواصلة عبر وسائلها وأدواتها الجماهيرية العريضة, ومن ذلك وسائل الإعلام المرئية والمسموعة  واتخاذ هذه المنابر التي تخترق الجدران والحواجز أكثر من تلك المنابر التي تستخدمها قوى التزمت والتطرف في لقاء جموع الناس والتأثير عليها عبر إثارة الحميّة الدينية المزيَّفة المضللة للمعنى الحقيقي للديانات ورسالتها السامية. وللحقيقة فإنَّ إعلامنا التنويري ما زال قاصرا بهذا الشأن فلا المعنيين بالأمر من الرجال قاموا بدورهم الفاعل المرتجى منهم لانشغالهم بأولويات أخرى كما يعتقدون ولا المرأة نفسها تصدَّت لقضيتها بكلِّ تشعباتها هنا بخاصة في توظيف وسائل الإعلام.. وعليه فشعبيا ينبغي أنْ يلتفت طرفا العمل (الرجل والمرأة) لوضع البرامج الكفيلة بالنهوض بمهامهم التاريخية المناطة بهم؛ وسيكون لمردود التفعيل والتنشيط تأثيراته الإيجابية العميقة ليس فيما يخص المرأة وحدها وإنَّما تحريك الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بعيدا إلى الأمام خدمة لحياة الإنسان بغير تمييز بين امرأة ورجل..

                                 ومن العمل الشعبي كذلك توظيف أعمال  جماهيرية واسعة منها تلك الأشكال البسيطة الأولية ولكنها ذات الفعالية التي لا يمكن للقوى الضعيفة في أرضيتها الاجتماعية وخلفيتها الجماهيرية الضيّقة أنْ تقف بوجه المرأة ومساهمتها الكبيرة .. وأقصد ببعض هذه الأشكال الاحتفالات الكرنفالية التي تعود عبرها المرأة إلى الشارع الاجتماعي بعد قيود العزل والاحتجاز والحبس خلف كواليس العتمة والظلام ومن ثمَّ الانقطاع عن العمل, وهذه الأنشطة تخلق المزاج الاجتماعي عميق التأثير لتحريك الساكن ولتفعيل الخامد وتنشيطه كقول بعضهن ما الذي يمكن أنْ أفعله بكتابة قصة أو قصيدة؟ وماالذي أفعله بكتابة مقال؟ وما الذي أفعله بمشاركة في عرض مسرحي أو موسيقي؟ وما الذي سيأتي من وراء وجودي في التظاهرات العامة؟ وهي أسئلة بعامة تنمّ عن قصور في التفكير وابتعاد عن أداء الدور الحضاري الذي يمهّدُ لمستقبل بناتنا وأبنائنا الواعد الذي يبعدهنَّ ويبعدهم عن مواجع تعطيل المرأة عن دورها ويسرم لهم نموذج الخير بديلا عن نموذج السوء.

                                     فليكن  نصف هيأة التحرير في كلِّ صحيفة نساء وفتيات.. وليكن في كلِّ فرقة مسرحية نصفهم كذلك وليكن في كل مؤسسة نصف أو أكثر من الشغيلات العاملات الناشطات في كلِّ شأن .. ولن يأتيَ هذا بالدعوة فلابد للمرأة من التقدم إلى مواقع العمل كافة ولتتنافس مع زميلها لإشغال تلك المواقع. ومن جانب تلك الفعاليات عليهم المحافظة على شرط الدعم والمساندة بغاية لا تكون على حساب الأفضل في إشغال المكان اليوم ولكنها غاية مقدّسة لأنَّها تنظر إلى تطورنا اللاحق وإلى مصالحنا البعيدة لا القريبة عندما تفضّل تشغيل امرأة على رجل, فبئس مَنْ لا يرى أبعد من أرنبة أنفهِ.. وبئس ذاك الغد الذي لا نعمل من أجله اليوم بمقدار ما تفرضُه علينا مسؤولياتنا تجاه صنع حياة بناتنا مثلما نصنع لأبنائنا! ولماذا نؤكد على عالم طيب لأبنائنا الذكور ونغمض الأعين عن بناتنا الإناث؟! هل سنعود إلى وأدهنَّ بعد الغد إذا كنّا اليوم نقبل بسجنهنَّ خلف حجابات موانع العقل والرشد والحكمة؟!!..

                                      إنَّ أحزمة العفّة لم تجلب للمجتمع الذي استخدمها الأخلاق الكريمة.. لأنَّ أقفال تلك الأحزمة كانت بيد مَنْ كان يغتصبها يوميا ويمارس كلَّ الفحش والحماقات وأشكال الاستغلال الوضيعة. ولن يكون شبيه تلك الأحزمة وهو حجاب اليوم وسيلة طالما تركنا اليد طليقة لعناصر الفساد من السيطرة المطلقة على الحياة العامة.. يومها لا تمتلك المرأة سلاح دفاعها عن ذاتها وكرامتها؛ إنَّها كما أيّ سجين مُستعْبَد لايملك ما يدرأ به عن نفسه غيلة سجَّانه وأفعاله الشائنة. وما الذي يحمي مجتمع بلا مدرسة أخلاق.. ألمْ نقرأ:

[الأم مدرسة إذا أعددتها     أعدْدتَ شعبا طيب الأعراق] ولماذا نتسامح أو نتغاضى أو نتساهل مع مَنْ ينصِّب نفسَه وزيرا للفضيلة والأمر بالمعروف في مجتمع كلّه متهم بالرذيلة والفساد من طرف هو لبّ الفساد والجهل والرذيلة والمساوئ؟!! لا يمكن لعاقل أنْ يتبع إمام الفساد وقائد الرذيلة وإنْ زعم أو ادّعى كونه نبي عصره وفاضل يومه فللعاقل الرشيد أنْ يميِّز أنَّه في بيته فاضل وأنَّه في بيته يربي على ما يكون قوة تحمي أهله وتؤهلهم وتؤهلهنَّ للفضيلة والرشاد..

ولموضوعنا بقية.. إذا ما رأت امرأة أو شابة أنَّ فيما يقدمه هذا المقال ما يلزم التفصيل والجدل أو اعترض رجل كريم أو شاب فاضل على ثغرة فأضاف إلى ما قيل ما يلزم أنْ نفعل مع ما نقول ونعالج ونتناول في مقالاتنا.     

                                           

1