الانتخابات العراقية

 موعدها، أهمية إجراؤها ، نتائجها المرتجاة وشروط نجاحها

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  11 \28

E-MAIL:  t.alalousi@chello.nl

 

تقترب لحظات الحسم في إجراء أول انتخابات وطنية تعددية في وطن الرافدين. وفي ضوء ذلك وفي كنفه تستمر معالجة ما يجابه العراق والعراقيين من مهمات منها المحوري الخطير ومنها التفصيلي ولكنه الضروري في استكمال أعمال بناء مؤسسات العراق الجديد. والحقيقة في ما يُطرح اليوم على الساحة العراقية أخص هنا مسألة إجراء الانتخابات الوطنية أو تأجيلها في اللحظة الراهنة، ليس وليد لحظته ؟

فالقوى التي استعجلت بالأمس مسألة إجراء الانتخابات وإجراؤها فوريا حينها هي ذاتها [تقريبا] التي تصرّ اليوم على استخدام لغة متشددة في قضية تنفيذ الانتخابات في موعدها المقرر "تحت أية ظروف".. وهي تراهن في رأيها أو إصرارها على مسألأة مصالحها السياسية المباشرة على افتراض حصدها "الأغلبية" فيما تحاول تصوير عملية التأجيل كونها   مجرد عملية التفاف على هذه "الأغلبية"...

لقد نوقشت مسألة إجراء الانتخابات في حينه ووجدت أغلب القوى الوطنية أن ذلك لم يكن مناسبا بالمرة في حينه وأثبتت الأيام صواب الرأي وحكمته وجنب قرار عدم إجراء الانتخابات في الأيام الأولى لتغيير النظام الدكتاتوري، جنَّب العراق مآزق عديدة...

وبالعودة إلى القرار المعني سنجد أسبابه كامنة بضرورات ضبط الوضع الأمني العام والتحكم بمسارات الأمور حيث الحكومة الوطنية ما زلات تنهض بأداء مهماتها المرحلية المناطة بها، ولابد من الاعرتاف بأنَّ تلك المهام التي تنصب على الوضع الأمني بشكل مباشر تتطلب جملة إجراءات مرافقة تتعلق أنشطة الاقتصاد العراقي وفعالياته؛ بخاصة معالجة مشكلة البطالة والاستجابة للحاجات المادية المباشرة للشعب.. ولم تتم بشكل نهائي مسائل تحسم هاتين الإشكاليتين، ما يتطلب وقتا لا تحسالمواعيد المقررة نظريا...

ومن الطبيعي كذلك التوجه لقراءة أهمية إجراء انتخابات وطنية عامة مهمتها وضع التوافق الوطني بمشاركة جميع مكونات الشعب العراقي لنتأكد من حقيقة تلك المشاركة وعلينا هنا حسم مسألة من هي المجموعات التي ترفض المشاركة وهي ليست قوة شعبية أو سياسية سلمية وبين تلك القوى الشعبية التي تتوافر فيها معايير تمثيل العراق والعراقيين وأطيافهم وتنوعاتهم..

بمعنى كون طلب التأجيل لا يقوم على انتظار حوار مع العصابات والمافيات وقوى الإرهاب ومجموعات التشدد والتطرف التي ليس لها أية مصلحة في الحديث عن مصالح عراقي أو فئة أو مجموعة مذهبية أو دينية أو قومية.. بل يقوم على حوار مكونات الشعب العراقي على وفق منطق متوافق عليه موجود في دساتير ومواثيق وضعية ودينية في عموم التجربة العالمية.. حيث لا استبعاد لجهة إلا كونها هي التي تستبعد نفسها بناء على توجهات تتعارض ممصالح العراقيين وأمنهم وسلامة حاضرهم ومستقبلهم..

إذن مسألة موعد الانتخابات ليست ذات أو قدسية لا تُمَسّ بل هي مما يخضع لضوابط وشروط أدائها بالطريقة التي تخدم الهدف من إجراؤها.. أليس الهدف من الانتخابات توفير فرصة لأوسع الشرائح من أجل المشاركة في رسم الدستور الأساس في العقد أو العهد بين العراقيين من أجل رسم ما يحفظ حقوق الجميع على وفق منطق قانوني تشريعي سليم؟

إذن لماذا الحديث الأغلبية والأقلية والفائز والخاسر؟ من تلك القوى التي تزعم تمثيل الأغلبية والتي تقرر ذلك في خطابها قبل أية انتخابات؛ بل هي تحضر للأمر بفتاوى مسبقة تستند فيها إلى التحريم والتكفير والتحذير وجرت تصريحات بلا قانونية الدعوة للتأجيل في أبسط لغة خطاب وكأنها الحكم القاضي والقانون والآخرون في الأدنى ممن عليهم سماع صوت وصاية الراشد؟!!

ثم لماذا الحديث عن الخاسر في أمر لا يتعلق بتنافس على التناسبات لصياغة سياسة حكومة في ظل دستور؟ بل الأمر يجب التوكيد عليه باستمرار كونه يُعنى بإجراء الانتخابات التي تهيئ لمشاركة مجموع أبناء الشعب على قدم المساواة في صياغة الدستور اي في صياغة العقد بين مجموع أطراف العيش في الوطن العراقي ..

ومن الطبيعي أن نتأكد من تحقق الإنصاف في التمثيل ليس على أساس أكبر واصغر أي ليس على أساس فائز وخاسر بل أساس منطق حفظ حق الآخر لو لم يكن موجودا لسبب ما وهو ليس مقبولا بالمرة استبعاد طرف لأي سبب كان..

فمسألة صياغة الدستور مسألة جماعية تشترك فيها كل القوى والأطراف العراقية فلسنا دولة "أحادية المكوِّن" وليست المجموعات المكونة للشعب العراقي مجرد "أقليات" لأن الانطلاق من مفهوم أقلية وأغلبية في تحديد الحقوق الإنسانية الأساس أمر يتنافى مع مفهوم تلك الحقوق بل يلغيها..

وعليه فالجمعية الوطنية التي يمكنها أن تأتي بالانتخابات المنتظرة هي جمعية صياغة العقد التوافقي الذي لن يكون صحيحا إلا بالاتفاق والخيار الحر بنفي لغة القهر والتسلط ومن ذلك سلطة اختزال حقوق مجموعة بشرية لأن الفردالمعني فيها ينتمي لأقلية دينية أو مذهبية أو عرقية أو قومية هامشية في حجمها الكمي؟!!

إنَّ جهة صياغة الدستور والملحقات القانونية التأسيسية للعراق الجديد ينبغي لها أن تأتي من منطلق بعيد عن أصحاب لغة المصالح الفئوية الضيقة وبعيدا عن لغة الانتقام من الآخر بإدانته بوصفه مجرما عبر تاريخ طائفة أو أخرى وعبر استدعاء جرائم بعينها وإلحاقها بهذه الفئة أو تلك.. إذن ينبغي أن تأتي جهة الصياغة على أساس من الشروط الموضوعية العقلية التي تستند إلى العهود الدولية والتجاريب الإنسانية الغنية...

نحن مع إجراء الانتخابات العامة للجمعية التأسيسية إذا ما استطعنا توفير شروط المشاركة الجماعية وبكيفية صحيحة وإذا ما استبعدنا مسائل تخص الخاسر والرابح وغذا ما أقمنا توافقا يناسب تمثيل الطيف العراقي من دون استثناءات أو إقصاءات أو استبعادات أو ما يضير أوضاعنا ويؤسس لخلل سيعود علينا لا حقا بلأن إيذاء طرف عراقي هو إيذاء لكل العراقيين... ومصلحة طرف عراقي يصب في مصلحة كل العراقيين..

لقد ناقشت بعض الأقلام مسألة إجراء الانتخابات من منطلق النظرة الطائفية وعلينا أن نحذر من قبول منطق مناقشة أمورنا الوطنية على أساس لغة الخطاب الطائفي ومنطق المحاصصة بين فئات شعبنا العراقي على أساس من توزيعه بين أغلبية وأقلية تقوم على التقسيم الطائفي بالتحديد الشيعي السني!

إنَّ تمثيل مصالح الشيعة أو السنة من العراقيين لا يمكن أن يحكمه التقسيم الطائفي فالمصالح والحقوق هي في الجوهر إنسانية العودة والمآل بمعني الفرد منا يريد حقوقه الإنسانية الكاملة ليس من منطلق لونه أو جنسه أو دينه أو قوميته بل الجميع في حال من التساوي التام من دون تمييز..

وعليه فمناقشة أرضيتها طائفية ليست من تلك التي يقبلها القانون الإنساني لأن اعتماد التمييز وجعله أرضية ومنطلقا للتأسيس للتشريع لعقد بين أطراف الوطن منطق مغلوط من أساسه! بينما سيكون من حق كل مجموعة أن ترفض منطق خاسر ورابح منأجل أن يكون منطق الحوار قائما على المساواة ومنع التمييز وأن يحصل الفرد المواطن المنتمي إلى مايسمى الأقلية على حقوق المواطن الذي ينتمي إلى  ما يسمى الأغلبية من دون انتقاص.. فإن لم ننطلق من منافشة موضوعية ترفض التأسيس المنتقص من حقوق مَنْ يسميهم المصطلح الإعلامي السياسي  الأقليات، جاءت الانتخابات بنتائج عكسية للمؤمل منها...

عليه أجد من الصحيح أن نعود إلى أصوات جميع الأطراف ومناقشة قضية الانتخابات من منطلق الحرص المشترك على احترام وجود الآخر في صياغة الدستور ودخوله مع مجموع الأطراف الأخرى على قدم المساواة ومن دون انتقاص أو مصادرة لحق أو مسبقات دينية [طائفية بالتحديد...]  أو غيرها..

 وسيكون من المفيد تقرير صواب إجراء الانتخابات أو تأجيلها على أساس من التوافق وليس على أساس من فرض الأمر الواقع أو إكراه مجموعات على النزول إلى مسارات لا تتوافق مع ما يرتى من وراء مشاركتها ... نحن بصدد مراجعة عقود من حياة الدولة العراقية ومؤسساتها ودساتيرها ومراجعة عقود من التجاريب المؤلمة التي طاولت "الأغلبيات مثلما طاولت الأقليات" ومن الصحيح بالخصوص أن نتأنى في حوارنا وإجراءاتنا ودخولنا قرارات مصيرية تأسيسية لعقدنا الجديد...

بمعنى الانتخابات وسيلة للتوافق وليس للاختلاف والتنافر وهي وسيلة للتأسيس للديموقراطية ولاحترام كل أطراف "الحوار والبناء" ومن ثم لا يمكنها أن تتم من غير تهيئة صحية صحيحة ومن غير شروط نجاحها بتوفير الأمن لكل مواطن حتى لو كان فردا معزوفي قرية نائية لا يملك وسيلة وصول إلى مركز اقتراع فحيثما وجد العراقي علينا أن نصل إليه وهو الذي يقرر المشاركة أو الامتناع في التصويت وهو الذي يقرر من يمثله لصياغة قواعد وجوده الإنساني في الأرض التي ولد فيها وعاش ووُجِد فيها..

الموعد ليس قضية مقدسة محرمة علينا مسألة مناقشبل هي من أول الأمور التي ينبغي مراجعتها حتى قبل يوم التنفيذ فليس المهم الإعلان عن إجراء الانتخابات بل المهم أن تأتي مستجيبة لأهدافها الحقيقية وأن نضمن بنتائجها تمثيل مجموع القوى المكونة للشعب بلا استثناء أما الاستثناء "المنقطع" أي الذي لن يعاستثناء فهو ما يخص قوى الإرهاب والعصابات وأولئك الذين يتحدثون عن زمن لن يعود وهو زمن المصادرة والتحريم زمن الطغيان سواء جاء من فرد أو من هيمنة شمولية..

ففي الوقت الذي رفضنا الطاغية الفرد ومؤسسته الدموية نرفض هيمنة ما يسمى الأغلبية ومصادرتها حقوق ما يسمى الأقليات.. فما ذنب العراقي ابن حضارة سومر وبابل وأكد وآشور لكي ينتقصوا من حقوقه؟ ألأنه من الأقلية؟؟ ألا يحق له المطالبة بالثأر لتاريخه على وفق منطق الغلبة للأقوى؟ وما ذنب المسيحي وما ذنب الصابئي وما ذنب الأيزيدي وما ذنب مواطن من الشبك وما ذنب التركاني أو الكأو الأرمني أو حتى ما ذنب السني أو الشيعي من فرقة من الفرق التي يسمونها صغيرة؟؟؟؟؟؟

الأسئلة ستكون أكبر من كبير الادعاء وأغلب من أغلبية الزعم لأنها أسئلة حقوق الجميع في المشاركة في انتخابات تضمن لهم الوصول الصحيح إلى العراقي ومناقشته فيما يخدمه ولا يخدمه وهو أمر لا يأتي في ظروف طارئة تتملكها الفوضى والانفلات الأمني وسطوة العصابات ولغة الموت والقصاص بالاختطاف أو الاغتيال والقتل وما إلى ذلك..

نحن بحاجة لمواصلة مسيرة توفير أرضية عراق البناء والعمل العراق يمكنه أن يصير ورشة عمل لإعادة إعمار الذات المخربة بالحوار السلمي متى توفر له الفرصة وقد تأتي الفرصة في الموعد المحدد وقد لا تأتي ما يستدعي التأجيل بالتأكيد على أساس من الاتفاق بين جميع الأطراف وليس بفرض أو إكراه..

وأهمية إجراء الانتخابات تكمن في التوافق ونتائجها تعتمد على التوافق وسيتنقلب كل مفرداتها الإيجابية إلى مثالب إذا لم يكن المنطلق هو التوافق وليس الفرض... والحوار في الأمر لا تستوعبه مقالة صحفية بل يحتاج لقراءات ومناقشات فاعلة مكثفة واسعة في ميدان العراق الفسيح...