اللعب على حبال القرار واللعب بالنار

فديراليات عراقية على أساس طائفي؟!!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  12 \  14

E-MAIL:  t.alalousi@chello.nl

 

محاولات أبعد من مستهدفاتها الانتخابية تجري اليوم محمومة مستقتلة؛ وهي أبعد من أنْ تحاور وتناقش، تلك التي إنْ لم تقرر سلفا كما هو جوهرها الماثل للعيان فهي تبتغي جرّ الآخر لقرار بعينه؟ الذي يتحدث عن إقامة فديراليات جغرافية يقسِّم فيه العراق إلى مِزَقِ ِ وأشلاء تحت ذرائع وتبريرات لوقف زمن الاستلاب والظلم والحصول على مكاسب وحريات من السلطة المركزية! ولنلاحظ أن الأمر يشمل الجنوب العراقي وجزءا بعينه من وسطه بالأساس! فما الداعي لمثل هذه المطالب؟ وما أسبابها الحقيقية؟ وما نتائج الانجرار لقرار من هذا القبيل؟

في البدء لا نتهم كل مَن يتحدث بالأمر بأنه خائن عميل أو بأنه يمثل الأجنبي أو جهات معادية لعراقنا وللعراقيين بل نرى وجود حق الحوار الثابت لكل عراقي ومن هنا ينبغي أن ننطلق في الحوار الإيجابي مع التذكير بما تجره بعض المشاريع من مخاطر علينا سويا. فلنناقش الأمر بعيدا عن اللغة المتشنجة والثوروية التي يقدِّم بها بعض الكتّاب والساسة مشروع الفديرالية الطائفية بمسميات مختلفة، أي لنعالج بهدوء وإيجابية وتفاعل أخوي مع المخلصين وبحزم مع من يحاول المسّ بأهلنا ومصالحهم..

فالهدف المفترض الذي نناقشه هنا هو اتخاذ النظام الفديرالي الجغرافي أساسا للنظام السياسي العام في العراق والوسيلة تكمن في الضغط بتوظيف صوت الأكثرية المظلومة المضطهدة كونها تتطلع مثل هذا الشكل من العلاقة مع المركز الحكومي.. والحجة لاتخاذ الحل الفديرالي تكمن في استلاب المركز لحقوق "الأغلبية" وهضمها أو مصادرتها فضلا عن سطوة فئة على هذا المركز من دون الأخرى...

ولنبدأ بقضية الجغرافيا جوهرا لقيام الفديرالية؟ ففي تجاريب الشعوب كانت الجغرافيا واحدا من العناصر التي يتم في ضوئها اختيار النظام الفديرالي.. ولكن أية جغرافيا وما المقصود بكونها عنصرا مكوِّنا أو دافعا لقيام هذا الخيار؟ للإجابة لابد من القول بأن سعة الرقعة الجغرافية بدرجة ملموسة كبيرة ومن ثمَّ تنوعها واختلافها وظهور الحواجز الطبيعية بين إقليم وآخر هو ما يدعو لاتخاذ الفديرالية الجغرافية نظاما للحكم.. والمثال أن يوجد فاصل طبيعي كالبحر أو سلسلة جبال أو صحارى وما يشبه ذلك أو ترامي أطراف الدولة بشكل واضح ووقوعها في مدارات أو أقاليم مختلفة مناخيا أو بيئيا  كما هو حال الدولة الروسية أو الكندية أو الأمريكية من جهة الجغرافيا لا من جهة الخيار...

فهل يتشكل عراقنا من مساحات مترامية تتباين وتختلف عن بعضها بعضا جغرافيا؟ وهل يوجد ما يقسِّم الدولة العراقية على أقسام أو أجزاء كسلسلة جبال بين الجنوب والجنوب أو الجنوب والوسط أو الوسط والغرب (وهي المنطقة المقترح تقسيمها)؟ أو أنَّنا نمتلك سهلا رافدينيا واحدا يشترك بكل تفاصيل مناخه وبيئته الجغرافية؟ أم أنَّ منطق اللامعقول وصل إلى حد قبول الحديث عن تغيرات واختلافات جغرافية ليست موجودة ولكنها قد تحصل يوما ما بعد ملايين السنين!! العراق أيها السادة كما نعرفه سويا نحن العراقيين هو "وادي الرافدين"  أو كما يقول سكانه الأصليون "بيت نهرين"..

العراق دولة الوحدة الترابية بيئةَ َ جغرافيةَ َ ولا يوجد أيّ من الموانع التي تستدعي التقسيم "المفتعل" على أساس جغرافي كما يقترح بعضهم.. ولا يمكن الحديث عن مشابهة بين الفديرالية المنتظرة المؤملة في كردستان وبين أي من الأحاديث، التصورات والأوهام، التي تقترح علينا التجزئة والتفتيت على أساس جغرافي. فكردستان تمتلك خصوصيتها المعروفة لأبعاد متنوعة متشعبة عميقة أبرزها البعد القومي والحق التاريخي وخصوصيته البيِّنة المتوافق عليها من أبناء شعبنا العراقي جميعا هذا فضلا عن حق تقرير المصير المكفول بالمواثيق والقوانين الدولية والإنسانية.

وباقترابنا من حقيقة الدعوة للفديرالية لجنوب العراق ووسطه ودوافعها الجوهرية نجيب (على) ما يقوله مقترحوها، فنقول إنَّ مسألة تقديم مظلومية الأغلبية سببا دافعا حيث لا يحقق في (رأيهم) الإنصاف والعدل ورفع الحيف إلا فديرالية (الجنوب) نقول: يمكن أنْ يكون هذا سببا في الحوار مع نظام مركزي توتياليتاري شمولي أو دكتاتوري مقيت كالذي هزمه شعبنا قبل عام ونيف.. أما وقد انهزم ذاك النظام المركزي البغيض وانهزمت معه كل قوانينه الظالمة فإنَّ نظامنا الجديد "البديل" ينبغي أنْ  يقومَ على أسس صحية صحيحة ومنها قضية السلطة السياسية في البلاد وتفاصيل الإدارة والحكم..

حيث وجب تحقيق العدالة والفرص المتكافئة لجميع العراقيين في تسنم المسؤوليات والمناصب وفي توجيه سياسات الدولة لخدمة عادلة تنصف الجميع وتحررهم من أية من أشكال الاستلاب والمصادرة. وفي ظل الوضع الديموقراطي التعددي التداولي لايمكن لطرف أنْ يزعم استمرار المظالم والاستعباد والإقصاء وما إليه ليكون سببا أو ذريعة للتقسيم.. وعليه سيكون الوصول للحريات والحقوق الإنسانية في بلادنا ديموقراطيةَ َ تعدديةَ َ عبر المشاركة المباشرة الفاعلة في في بلاد حرة قوية..

بمعنى حيثما أكدنا وحدتنا الوطنية ووحدة السيادة الترابية وحيثما اعتمدنا حكومة وطنية موحَّدة مركزية قوية (وهنا (وهنا القوية بالمشاركة الشعبية الديموقراطية وليس بسلطة العنف والاستلاب) وحيثما كان العراق قويا حرا؛ كان لنا عيش حر ومكانة تحت الشمس وحريات أوسع وحقوق أعمق، أي أنَّ المواطن العراقي في كل أجزاء العراق الموحَّد غير المجزَّء غير المفتت سيمتلك حقوقه كاملة في وطنه وليس في بقعة منه.. والعراقي في كل جزء من العراق الواحد القوي الحر سيكون أعلى في امتلاك حقوقه وفي المساهمة بل الفعل المباشر في توجيه السياسات العامة..

بلى، سيكون العراقي أجدر بالحديث عن حقه في أنْ يكون في أي موقع أو مسؤولية من دون محددات أو شروط تمييزية عنصرية أوغيرها تضعه في درجة مختلفة عن أخيه العراقي لأي سبب كان كما كان يجري استلابه في الماضي.. وهذا يتحقق في نظام جديد مختلف يعتمد الصوت الانتخابي اليدموقراطي المباشر (قد يُستكمَل الأمر بالنظام البلدي على صعيد الإدارة المحلية) وليس تقسيم البلاد وتنصيب مرجعيات على كل مقاطعة أو ولاية لتأسر أبناء ذاك الجزء من العراق وتضعهم تحت وصايتها وتمثلهم بطريق غير مباشر في الحكومة "المركزية" التي ستكون في مثل هذه الحال هشة لا تهش ولا تنش! بقدر ما تكون الغطاء لاستلاب العراقيين حقوقهم لمصلحة حكام جدد هم حكام أو "قبضايات" الولايات المقترحة؟!!

إنَّ الحديث عن إنصاف مظالم أهل الجنوب والوسط وغيرهم يكمن في معاملتهم بوصفهم بشرا أسوياء يملكون قرارهم وهم أسياد أنفسهم أحرار في تقرير ما يريدون لا يخضعون لسلطة أو شرط إلا ما يوافقون ويشاركون في صياغته بأنفسهم وليس بنيابة من أحد عنهم.. كما إن تلك الحريات والحقوق ستكون أرحب وأقوى في إمكان تحققها حيث كان العراق بحكومة وطنية قوية بشعبها وبخيار العراقيين جميعا وسويا وبشكل الاختيار الحر المباشر وليس بالوصاية وما أشبه من التقسيمات التمويهية أو التي لا تدري ما ستؤول إليه الأوضاع لو جرى فرضها على شعبنا العراقي..

إنَّ الطائفيين هم وحدهم الذين يتحدثون عن تقسيم العراق على أساس طائفي يسرقون فيه حق الخيار الديموقراطي من أبناء شعبنا العراقي في الجنوب على أساس من افتراض كون الجنوب مطلقا وبكامله شيعيا من ملة واحدة يلغون فيه حالة الإخاء والتآلف بين عراقيي الجنوب من صابئة ومسيحيين ومن كلدان وسريان وأرمن ومن سنّة وبالتأكيد من شيعة عراقنا المعتزين بعراقيتهم وبأخوَّتهم المتشرفين بتآلفهم وعيشهم الآمن مع كل أخوتهم العراقيين الآخرين عبر مئات السنين وآلافها من التعايش عائلة واحدة اسمها عائلة العراقيين..

ولكن الطائفيين إذ لم ينجحوا في مشاريع دعواتهم لفصل الجنوب العراقي عن بقية أعضاء الجسد العراقي الواحد وإذ فشلوا في دعواتهم لما يسمونه فديرالية على أساس طائفي راحوا يتحدثون عن بعد جغرافي موجود في المخيلة وأبسط أطفالنا يعرف أن الفديرالية الجغرافية ليست موجودة في وادي الرافدين الواحد في كل شروط مكوناته البيئية المناخية وفي تضاريسه المشتركة ولا عجب لمثل هذه العروض والدعوات فهي أما تُخطئ التسمية فتقصد إقامة فديرالية إدارية أو تتقصد الدعوة تبييتا لمآربها المرضية في تقسيم العراق تسهيلا لشرذمة أهله والإيقاع بينهم وفي سلب إرادتهم وحقوقهم وإملاء الوصاية الطائفية عليهم ومن ثم سلبهم كل شئ لاحقا..

وهنا نتحول إلى النتائج الخطيرة لظهور فديرالية ولو بعد تصحيحنا للتسمية فتكون الفديرالية الإدارية لكل مجموعة من المحافظات ونجرّ العراقيين لكي يختار كل طرف أي طرف آخر سيختاره ليكوِّن معه حصة أو سهما يشتركان فيه! في الحقيقة لا يوجد أي مصداقية للحديث عن رفع مظالم أهل الجنوب بخصوص تسلم مسؤوليات الإدارة والحكم في العراق الجديد. فعراقنا بنظامه الجديد هو عراق ديموقراطي يعتمد منح الفرص متكافئة ولكل حسب قدرته وكفاءته وليس حسب وجاهة أو سلطة مشوهة يقف وراءها المال لا العقل أو البلطجة لا الحكمة وسلطة الفكر..

وعليه ففي عراق جديد لا يمكن تبرير التقسيم الفديرالي بحق الترشح إلى مهمة أو مسؤولية لأنَّ ذلك سيكون مكفولا بالقانون وسلطته وإذا ما ضعفت الحكومة الوطنية (المركزية) وسُحبت صلاحياتها فستكون مشاركة العراقي بالوصاية عليه من سلطة كل إقليم والنيابة عنه في الحديث فضلا عن افتقاد السلطة الحرة أصلا بسبب إضعاف الدولة وحكومتها الفديرالية.. وبالعودة إلى النتائج سيكون أولها سلخ الأجزاء المفتتة ووضعها تحت وصاية أطراف تزعم عراقيتها ويعرفها شعبنا حقا ويعرف لا  فلسفتها وسياساتها حسب بل حقيقة ارتباطاتها الإقليمية والدولية..

وإذا كان ليس بوارد التفكير عند راشدي  شعبنا وساسته نظرية المؤامرة فإن من الوارد بقوة وجود مصالح مختلفة في بلادنا لقوى أجنبية مجاورة إقليمية وغيرها.. ومن ثم لابد من التعامل مع الأمر بما يكفي من الحزم والرشاد لكي نختار ما يناسب تعزيز وحدة تراب بلادنا ووحدته السياسية وقوة حكومته عبر وجود كل أطياف شعبنا من خلال صناديق الانتخابات والتصويت المباشر وليس من خلال أي أمور ألعاب وحبائل  أخرى..  حيث يُمنح العراقيون كافة حقا متساو ومتكافئا وعادلا  لكي يصوتوا لوجودهم المشترك وليس ليكونوا فرقا ومزقا وأشتاتا...

إن تقسيم بلادنا في المرحلة الراهنة حتى لو كان على أساس فديراليات من أي شكل لا يقوم على أسس سليمة، أمر يضعها نهبا لقوى أجنبية بأيدي محلية ولا نسميها وطنية قطعا.. فهل من عراقي شيعي قبل السني أو مسلم قبل المسيحي أو عربي قبل الكلداني أو السرياني  أنْ يقبل بتمزيق الوطن لإدارات تحكمها قوى ظلامية بعينها طائفية معروفة في تحالفاتها وما تستهدفه من مآرب ظاهرة للعيان اليوم وهي خارج السلطة المنتخبة فكيف إذا ما ولِيـَتِ الأمور بين يديها بتصويت يأتي تحت تهديد المال وسلطته وتحت تهديد البلطجة بالعنف والتكفير وما إلى ذلك وهو ما يجري اليوم في الخفاء  والعلن؟؟؟

إنَّ الراشد الحكيم  العاقل الرزين هو الذي يختار ما يراه قوة له ولأخيه ومنفذا لهما لتحقيق الذات والخصوصية ولتوفير كل الحقوق عادلة مشتركة بين الجميع.. وشعبنا في الجنوب العراقي أوعى وأرقى من أن تنطلي عليه محاولات اللعب على حبال اتخاذ قرار اتختيار غير صائب، فذاك هو اللعب بالنار أي العب بمصير وجودنا العراقي بمعنى اللعب بمصيرنا الإنساني الحر الكريم أينما كنّا..

فلست ممن يدعون للتمسك بمطلقات بالإكراه، ولكن الخلاصة تكمن في واجب فضح ما يتعارض ومصالح أهلنا من كل الطوائف والديانات ومن كل القوميات والأعراق . من هنا كنّا وما زلنا مع قيام عراق فديرالي أحد أجنحته الحرة في تقرير مصيرها كردستان وشعب كردستان لخصوصية واضحة في الأمر ولكننا لسنا مع أية تقسيمات مفتعلة أو أعمال تفتيت تتعارض ووحدة التراب العراقي في جنوبه ووسطه وغربه .. حيث لا أرضية للفديرالية هنا ولا سبب ولا حتى ذريعة لعرضها إلا ما يختفي من محاولات المناورة أما لأغراض بعيدة تكمن في سرقة العراقي قبل العراق نفسه أو للضغط على دعاة الفديرالية مع كردستان العراق على أساس طمس الحقائق وخلط الأوراق حيث ما يُرفض هنا يُرفض في غيره ..

وفي الحالين الأمر يعادي مصالح العراق.. فليس صحيحا تقسيم العراق بفديراليات طائفية في الجنوب تلغي وجود التداخل والتعايش الديني والمذهبي والقومي وتصادر حال الوجود المشترك وتفرض العزل الطائفي فتكون وبالا على العوائل العراقية المكونة من أبوين من مذاهب أو ديانات أو قوميات متختلفة وهي تحطم الأساس الاجتماعي وتحطم الوحدة الوطنية وتؤسس للفكر الطائفي المتخلف الذي يخدم زعامات  مزيفة ليس من همها تحقيق مصلحة واحدة للإنسان البسيط العادي.. وفي الوقت الذي تلغي المواطنة تعود بنا دورة دهر إلى الوراء حيث التابع العبد للمالك السيد أو مقاطعة فيها العامي وفيها السائد أو السركال أو المتنفذ أو الحاكم وما إلى ذلك من تسميات كلها تصب في سلب حرية العراقي تعلن فيه أمر وتخفي خلفه وتحته أمور ليس آخرها شرف العراقي وامتهانه وإذلاله بعد إضعاف تحميه ويكون هو سادنها ومشيدها وموجهها...  

فهل بعد ذلك نريد الفديرالية الجغرافية المزعومة؟! أم نريد اللعب بنيرانها التي تصلينا ولا تمس المستفيدين منها؟؟!