الانتخابات الوطنية: الدلالة والمؤمّل في الخطوة التالية؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2005\  02 \  14

E-MAIL:  tayseer54 @hotmail.com

 

نجحَ الشعبُ العراقي في إعلانِ صوتهِ وتقرير سياساتهِ وتوجهه بآليات سلمية نحو بناء مستقبله. وقد جاء هذا متضمناَ َ في نسبة التصويت التي خرج بها الشعبُ العراقي، وهي النسبة التي تجاوزت الــ 62% تلك النسبة التي ما كانت لتدور بخلد محلل سياسي في ظروف التهديدات المستهترة لقوى الإرهاب والعنف الدموي و [الانفلاش] الأمني بلا حدود؛ ولقد تحدث عدد من الكتّاب والمحللين السياسيين قبيل الانتخابات أنّهم لا يجدون الظروف المحيطة بإجرائها لا مثالية ولا حتى مؤاتية لتعكس التناسبات الواقعية في الميدان السياسي والقوة التصويتية لكل حزب أو تيار سياسي.

ولكن التوجه إلى الانتخابات كان مبنيا على أساس أهمية التصويت ضد الإرهاب وإعلان الخيار السلمي لمسيرة العراق الجديد.. الخيار السلمي سواء في التعاطي مع القوات متعددة الجنسيات أم في التعاطي مع الواقع الميداني للبلاد. بوضوح فقد كان تركيز القوى الوطنية بخاصة منها العلمانية والديموقراطية والليبرالية، أي بخاصة تلك القوى الوطنية التي فرضت أوضاع البلاد، من سطوة دكتاتورية الطغيان السياسي الدموي وتلتها التشوهات التي سادت المجتمع من إرث تلك الدكتاتورية  الشمولية، أقول فرضت إقصائها وعزلها عن القوى الشعبية التي ظلت سدّا منيعا تدافع عنها وعن مصالحها العريضة...

ومفضوحة واضحة للعيان تلك الحالة التي استغلت فيها مسائل ليّ الأذرع بقوة الميليشيات والعصابات وأشقياء التهديد برصاص الاغتيالات وبلطجة زعران الشوارع زعران السياسة الجدد ومصادرة الصوت بالقمع الفكري والديني عبر إدخال ثقل "المرجعية" لصالح هذه القائمة أو تلك واستلاب الناس حقها في التفكير النيِّر والخيار الحر المستقل.. هذا فضلا عن سلطة المال السياسي واحتلال الإرادة ومصادرتها على مستوى الشارع العادي في إشارة صريحة إلى أن وجود قوات أمريكية وبريطانية على الأرض لم يعنِ بالمرة احتلالها إرادة الناس ومصادرتها صوتها في وقت كانت [دولة الملالي الجارة] تحتل في وضح النهار إرادة مناطق واسعة من بلادنا وتصادرها  بوسائل عديدة.. وأول أدواتها وجود عناصرها وتابعيها مزودين بكل ما يهيئ لهم حركاتهم وفاعلياتهم من أموال وأسلحة وأشكال الدعم اللوجيستي المعلن عنه جهارا نهارا  [أشكرا أخبرا]..

ومع ذلك نؤكد على أهمية نجاح شعبنا في التصويت ضد القوى الإرهابية التي تتستر بما يُسمى مقاومة الاحتلال وإخراج القوى الأجنبية وهي لا تنهض بجرائمها بأكثر من إدامة عذابات شعبنا وآلامه وأوصابه. وذلكم ما كنّا قلناه  منذ البداية بأنّ تلك الجرائم لم ولن تطال أكثر من قتل واختطاف وترويع العراقيين والعراقييات؟ وهكذا جاء ذيّاك التصويت من أجل الأمن والأمان والسلم والديموقراطية وليكون مضمونه هو المضمون الحقيقي لصوت شعبنا والجوهر المعبر عنه  وهو الفائز الوحيد في الانتخابات بلا منازع...

إنّ المهمة التالية تكمن في الضغط من أجل أن تنهض الجمعية الوطنية بمهامها على أسس صحية صحيحة، وعلى أساس من النزاهة ومن التعاطي مع الجوهر الذي صوّت له شعبنا؛ وهو جوهر التداول السلمي والتعددية واحترام الآخر في إطار من الشخصية الوطنية العراقية الحرة المستقلة عن أيّ من التشويهات والتبعية أوالخنوع لطرف أجنبي لأي سبب كان؟!! فميزة أبناء الرافدين تكمن في استقلاليتهم وفي علو كعبهم وفي عمق تاريخهم وعراقته، وفي كونهم هم الذين أعطوا دائما وأنارت معارفهم وقيمهم على المحيط الإنساني...

لقد سجل التاريخ العراقي انكسارات عسكرية عديدة ولكن حضارة وادي الرافدين كانت دوما هي الأعلى والأقوى وفي الوقت الذي خضعت أرض الرافدين للاحتلال دالت القوة المحتلة لشمس الحضارة السومرية الرافدينية وسطوعها.. ما يعني أنّنا اليوم نمخر عباب قاموس جديد نحن وشعبنا نفك طلاسمه بنيّر رؤانا وحكيم تحليلاتنا الموضوعية.. وستلتحم القوى السياسية الوطنية المخلصة سويا في مسيرة تحفها المصاعب والمخاطر وهو ما سيتجه بنا إلى النتائج المؤمّلة التالية..

المرتجى اليوم من كل القوى التي احتلت موقعها في الجمعية الوطنية وتجد نفسها معبرة عن الهوية العراقية وعن الشخصية العراقية وعن المصالح العراقية؛ هو أنْ تتخذ سبيل الوحدة الوطنية والاحتماء بالخصوصية العراقية لكي تكتب دستورا معبرا عن هذه الهوية وعن هذه الشخصية وهي مهمتها الأولى والأخيرة..

الخطوة المؤمّلة التالية هي في توافق القوى الوطنية على توكيد هذه الحقيقة ونبذ كل ماعداها ومحاصرة كل قوة تعمل بخلاف القيم الوطنية وخدمة أبناء الرافدين ومصالحهم.. فالعراقي أولا هو شعارنا جميعا حيث تعلو كل مفردة تخدم هذا الاتجاه وتبتعد كل مفردة بخلافها أو سواها ..

إنّ الوقوف عند المصالح الحزبية الضيقة سيكون موجودا مثلما شاهدناه [أحيانا] في المرحلة الأولى من توجهاتنا عند هذه القوة أو تلك وعليه فإنّنا بحاجة إلى وعي أعمق وإلى توضيح الأمور ومكاشفة أبناء شعبنا ومصارحته ومنع توسل نظام المحاصصة والتقاسمات كأن العراق سبية أو غنيمة حرب لهذا الحزب أو ذاك!!

ويمكننا هنا أن نسترشد بنتائج الانتخابات نفسها حيث التصويت لم يكن للعشائرية وإن تلفعت برداء الدين، ولم يكن للدكاكينية وإن امتلكت طاقات الحركة بوساطة المال السياسي وغيره ... ولكنّ ما كسر الأساس المنطقي الموضوعي للصوت الانتخابي كان متمثلا في أمور وتداخلات كثيرة ليس أقلها تأثيرا وخطورة استغلال المصادرة الدينية بتكفير كل القوائم خلا قائمة بعينها وهو توجه لم يخلُ من مشابهة على مستوى بعض ملتزمي السياسة الشمولية هنا أو هناك..

 

إنّ معالجة متأنية لنتائج الانتخابات أمر سيساعد على تحديد مهمات النخب الثقافية والسياسية في المرحلة التالية كما يعزز من مسألة التئام أوسع جموع قوانا الوطنية من أجل ألا نغرق في مستنقع الخيارات الخاطئة.. بالتحديد في كتابة دستور يعكس طبيعة مكونات شعبنا وتنوع الطيف القومي والديني والمذهبي والفكري والسياسي.

ولن يتأتى هذا من توقف صياغة الدستور في المجموعة المنتخبة وهي مجموعة تمتلك شرعية ممارسة أعمال برلمانية  ولكن بحدود وبشروط مرحلة انتقالية تعدّ الدستور توافقيا.. وبمدارسة من متخصصين فالدستور ليس وثيقة إنشائية سياسية أو خطابا دينيا مخصوصا بل هو العقد الاجتماعي لدولة تحيا في القرن الواحد والعشرين ما يعني التزام الجمعية الوطنية باختيار النخبة المتخصصة للصياغة وممارسة أوسع وأعمق روح ديموقراطي يحترم  مجموع الطيف العراقي بلا استثناء أو مصادرة أو نيابة مفتعلة ... وتلك هي الخطوة التي نتحدث عنها سويا وبشكل توافقي مشترك خطوة تحرير الدستور على أيدي صاغة متخصصين وفي إطار يحترم الهوية العراقية تاريخا وحاضرا ومستقبلا ويعيد حقوق الإنسان إلى وضعها الذي يستحقه الإنسان العراقي في العراق الجديد..