سلطان السلطة وسطوتها

بين تحرّر العراقي منها و ارتهانه لها؟!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2005\  02 \  19

E-MAIL:  tayseer54 @hotmail.com

 

حُكِم العراق منذ حوالي القرن من عصرنا الحديث من قوات أجنبية محتلة ومن قوى عراقية مسلّحة ومن عصابات مافيوية ودكتاتوريات وطغاة.. كما حصل في بعض سنوات وجود الدولة العراقية أنْ حقق الشعب بعض المكاسب بوساطة انتفاضاته الوطنية ونضالاته الطبقية...

وفي أغلب الأحوال كانت فئات الشعب وطبقاته العريضة أبعد من أنْ تحكم أو تشارك في إدارة دفة السياسة والاقتصاد في البلاد واستُبْعِدت من الحصول على كرسي حكومي أو منصب سيادي مسؤول.. وعومل الشعب العراقي بوصفه قاصرا عن إمكان إدارة أموره ..

وهكذا تحكَّم ساسة قصر الاحتلال وغرف الإدارة العسكرية والمدنية في ظلاله أو القصر الملكي لاحقا فالقصور الجمهورية بأن أصدرت هذه القصور الحاكمة قرارا بالأحكام المؤبدة مع الأشغال الشاقة على [العبيد] لخدمة الطغاة من أصغر سركال وإقطاعي حتى أكبر "رأس" لا يُناطَح...

ولم يكن للعبد أن يتكلم أو يناقش أو يطالب بحق ولو فتات يقوت به أبناءه الذين يذوون أمام ناظريه فيختطفهم الموت الأسود أضحية وقرابين لعيون الدجالين من الحكّام سَكَنَة القصور ومحتليها.. وكيف لعبد أن يرفع رأسه أو يمتلك كرامة يدافع عنها؟ وكيف له أن يدلي بدلوه وهو لا يملك من أمر نفسه شيئا؟!!

لقد صادر الطغاة لا أملاك الشعب ونهبوها واستهتروا بالتصرف بها، بل أباحوا لأنفسهم أن يتحكموا بمصير الملايين أنفسهم وأنْ يتملكوا تلك الملايين ومن ثمّ أباحوا لأنفسهم أن يسوقوهم إلى محارق ما يبتغون من أفعال شريرة كما حصل عندما ساقوا الملايين لحروب الطغاة واستوردوا رجالا وضعوهم حيث شاغلوا شبيبة العراق بجبهات حروبهم الدموية؟!!!

بلى، لقد امتلكوا الإنسان نفسه بدليل ما كان الطغاة يقررون تخوين من يريدون تخوينه بل إعدامه بلا حجة ولا ذريعة  وليس بوارد القول أن تحكي هذه المقالة عن ضيم المغتصبات المنهوبات من آبائهن وأزواجهن وهلم جرا!!!.. أليس هذا ما تعنيه الإبادة الجماعية جسدا وروحا، مادة ومعنى؟ وأليس هذا ما كانت تعنيه مقاتل الأطفال الذين لم يكبروا بعد ليَعُوا معنى الإعدام وأسبابه!!!؟ أو ليعرفوا من أي أصول أتوا؟!!

لقد بقي كل عراقي رهينة الطاغية حتى وهو في بطن أمّه. وكان على العراقي أنْ يخبِّئ أفكاره وآراءه حتى عن أقرب الناس إليه وصار لكلّ عراقي رقيبه الداخلي الذي يحذره إنْ لم يخيفه ويروّعه من سلطة الموت بوصفها أقل عقوبة تطاله عندما يمسّ مقتربا من الطغاة!

ولم يعد بهذه الوضعية للعراقي فرصة أنْ يحيا حياة إنسانية كريمة أو غير كريمة بل صار رقما في قطيع الطاغية الذي يذبح من يشاء متى شاء ومتى رغب! والعبد الذي لا يملك قراره ولا يملك نفسه لم يعد له أنْ يمتلك عِرضه ويحميه ضد نزوات الطاغية وأبنائه وحاشيته، الذين استهتروا وعاثوا فسادا في كل شئ وبكل القيم!

وما كان غير التضحية بالنفس من أجل الكرامة والعِرض وهو طريق النضال الوطني والطبقي الذي خيض من أحرار الشعب ممن رفضوا المهانة والذلّ والخنوع...

هذه الصورة المقيتة الكالحة، لا يريد إنسان عراقي نبيل شريف أن تعود وأنْ يسلّم قياده لإنسان مثله.. فليس من المنطقي أن يخرج العراقي من عبودية لطاغية ولنظام ولأفراد ذئاب بشرية متوحشة ليضع نفسه من جديد بيد كائن بشري آخر...

وبعض توصيف الطاغية المستبد هو ذاك الكائن الآدمي الذي تحول لذئب يرتكب كل الفواحش والموبقات والجرائم بلا استئذان أو محددات توقفه أو تقلّم مخالبه وأنيابه التي تنهش في لحوم البشر وأعراضهم.. والطاغية هذا هو فرد مجرد فرد كائن بشري كما كل الكائنات البشرية من جهة كينونته ووجوده وطبيعته ولكن ما يختلف فيه عن البشر يكمن فيما يمتلك من سلطة وسطوة..

فالطاغية المستبد فردا ليس إلا جبانا رعديدا يحتمي بدمويته المستندة لكلاب مسعورة.. وليس لديه من قوة وبأس وفكر وعقل إلا ما يملك من سطوة عنفية دموية عبر تسليم الأغلبية وتسليم كل فرد فيها لقياده ووضعها بيد الفرد المسمى طاغية..

القوة الغاشمة لا تأتي إلا من تسليمنا أصواتنا لفرد ووضع قوتنا الجمعية وعقلنا الجمعي بيد ذاك الفرد.. فقط لحظتها نكون كررنا جريمة بحق أنفسنا وبحق من يأتي بعدنا ويجد نفسه مملوكا لفرد لأن جيل الآباء باعه للفرد بهذه الحجة أو تلك الذريعة..

وفي الحقيقة، لم يقل بهذا لا دين ولا مذهب ولا حكمة حكيم .. لم تقل شريعة أنْ يبيع أحدنا صوته "ببلاش" مجانا لفرد تحت تفسير أن ذاك الفرد هو قائد أو رئيس أو زعيم أو شيخ طريقة أو إمام أو أي مسمى آخر فالإنسان يولد حرا فلماذا يبيع نفسه بل يهب حريته وكرامته وعِرضه مجانا لفرد؟!

لماذا يكون الإنسان منّا تابعا ذليلا لفرد وُلِد مثله [وكلنا أولاد تسعة]؟ لماذا يكون خانعا لفرد آخر مهما كانت منزلة الآخر؟ هل في متابعة طريقة فرد وفكره ومنهجه ما يدعو لنكون خانعين تابعين لا نناقش ولا يكون لنا عقل نحتكم إليه؟ وهل سيكون الذي يستلبنا إراداتنا وعقولنا مرجعا منصفا وعادلا وصحيحا؟

ينبغي للمرجع الذي نتبعه أن يحترم  إنسانيتنا.. وأن يُكرِم عقولنا ويعزّها ويلتفت إليها ويفيد منها وينهل من العقل الجمعي ويعود إليه.. فإنْ استبدّ برأي وانطلق من فرديته وفرض على الآخرين متابعته بلا جدل ولا نقاش واستلبهم حرياتهم التي منحهم إياها من أوجدهم ، لم يكن يستحق لقب المرجعية ولم يحق لطرف أن يدعو له بالمتابعة..

إنّ فكرة أن يحيا الإنسان حياته حرا كريما طليقا يمتلك قراره ووجوده وكرامته وعِرضه ويمتلك حق أن يفكر ويعمل هي الفكرة الوحيدة الصحيحة دينا ودنيا ومَن يسلّم قياده لفرد آخر ويمتنع عن التفكير ليس سوى عبد لغير من أوجده كائنا وليس لإنسان أن يبيع آخر ولا أنْ يبيع نفسه ويرتهنها لفرد آخر..

 

والمجتمع المدني الذي وُجِد في عراق السلالات والحضارات الأولى سجّل هذا في شرائعه الدينية والدنيوية وتلك ما ينبغي أنْ يقرأها ابن الناصرية والعمارة والكوت والديوانية وكل مدن العراق وقصباته لأن أجدادنا الذين كتبوا قوانين المدنية  وأشادوا المدن والدول المتحضرة لم يكن يدُرْ بخلد أحدهم أننا يمكن أن نتراجع ونتخلى عمّا أوجدوه وطوروه...

المجتمع المدني يتساوى فيه الإنسان والإنسان ولا يوجد فرد فوق وفرد تحت.. وفي المجتمع المدني لا يمكن للفرد أن يتخلى عن حق من حقوقه لفرد آخر ولا يمكن أن يتخلى عن حرياته وعن قيمه وقيم وجوده الإنساني الكريم المحترم..

وإذا كانت شرائعنا تقرأ أنّ الله الخالق قد كرّم بني آدم واستخلفه على الأرض ليعمرها فإنّه ما من شريعة تقبل أن يُستعبَد الإنسان ويرتهن لآخر ولم يكن الأنبياء والأولياء ولا المصلحين الكبار في التاريخ البشري قد أقروا عبودية إنسان لإنسان أو تنازله عن حقوقه وكينونته لآخر!

فما الذي جرى حتى يأتينا طاغية ويقول أنا مرجعكم وأنا مَن تتبعون! وما الذي جرى واختلف ليأتينا فرد مهما علا شأنه وحكمته ليقول أنا أملك وحدي الحكمة وأنتم تخضعون! هل صرنا مخلوقين اثنين [واحد يسود ويقود] وآخر يخضع ويتبع ويخنع؟ أم ما زلنا بشرا أسوياء متساوين؟

إنَّ الاستئناس برأي حكيم أو مفكر أو خبير أو مرجع لا يعني البتة أن نتبعه بلا مناقشة ولا تفكير [أي بتعطيل العقل عندنا!] وأن نصير عباده الذين نُؤمَر فنطيع!!! ولكنّنا في الوقت الذي نرجع إلى شيوخنا وحكمائنا ومفكرينا ومراجعنا ينبغي أنْ نلتفت إلى منع أية فرصة لكي نوجد طاغية آخر يستبد بنا ويسير بنا حيث رؤية فرد بين ملايين البشر!!!

ومهما بلغ علم عليم وحكمة حكيم فلا يمكن أن تكون فطنته ورؤاه أبلغ من العقل الجماعي في أمور دنيانا ووجودنا البشري الآدمي فإذا كان فرد مرجع في دين أو مذهب أو علم من العلوم فليس له أن يكون مرجعا في كل شؤون الحياة .. فقد يكون مرجعا في أمر ولكنه ليس كذلك في أمور أخرى..

من هنا لم يكن التشريع الإسلامي قد أباح للحاكم أن يكون قاضيا أو لقاضي أن يكون محتسبا أو محاسبا وليس لمتخصص في أمر مهما كان موقعه في ذاك الأمر أن يفتي في أمور أخرى مهما صغر شأنها..

وهكذا فإن عراقا يكون فيه العراقيون أحرارا يملكون رقابهم ويملكون مقدراتهم ويملكون إراداتهم ويملكون أعراضهم وكراماتهم لا يمكن أن يكون العراق الذي يبيع فرد فيه حقه لآخر أو يهبه لآخر أو يضطر لأن يتبع فيه آخر في أمر لمجرد كون الأول إنسانا عاديا والثاني فقيها!

فما كان يوما من فقه صحيح يستعبد فيه الفقيه أو الولي الفقيه إنسانا آخر ويستلبه إرادته وحريته بوساطة تكفير مَن يخرج على اتباع أمره والخضوع له والخنوع لإرادته.. ثم كيف يكون لفقيه في دين أو مذهب أنْ يصير مرجعا يأتمر على فرد من دين أو مذهب آخر؟؟!

في عراق المدنية الجديد ينبغي أن نراجع أمورنا وأن نحتكم لعقولنا الكبيرة الحرة الأبية وكرامة أنفسنا التي حررناها ولم يعد من فرصة لنضيعها بوضعنا إرادة رهن إرادة مرجع كائنا من كان..

العراقي الحر الأبي يعرف في ماذا يعود لهذا المرجع المتخصص بأمر أو ذاك المتخصص في غيره .. فيما حياته وكرامته وإرادته وعقله وعِرضه كلها تظل حرة مصانة لا يسلّمها لفرد ولنظام سطوة فرد وسلطته أيا كان..

الحرية اليوم هي ما صبونا لها بدماء زكية والحقوق اليوم هي ما راح من أجلها فلذات أكبادنا وأخوتنا وأخواتنا .. فهل من الصحيح أن نعود لنملّك فردا ناصية إرادتنا وحقوقنا..

ثم ما علاقة أن يفتي رجل في أمر من الأمور وأن يمتلك حقوقنا وحرياتنا ووجودنا؟؟!!! لا يجوز أن يمتلك مرجع مهما علت قداسته حرية إنسان وحقوقه ومصيره ومنطقه العقلي ..

الصحيح أن نحيا أحرارا في دنيانا وأن نكتب نحن دستور حياتنا وأن نتوافق على مبادئ الحرية والديموقراطية الحرية في امتلاك أنفسنا والديموقراطية في العيش بطريقة تحفظ كراماتنا وأعراضنا.. ولا يأتي هذا إلا بفضل الأمور ومنع خلطها وخلط الأوراق ومن ذلك فصل الدين عن الدولة..

وكل ما عدا ذلك دجل وزيف وبهتان تحاول أطراف مفضوحة أن تلعبها مع شعبنا عبر محاولة استغفال ولعب وضحك على الذقون ولكن شعبنا لن يستكين للعبة ولن تنطلي عليه محاولات التدجين لهذا المرجع أو ذاك..

وشعبنا إذا احترم رؤية مرجع في دين فإنّه من الوعي ما لا يمكن أن يسلّم حرياته وحقوقه المدنية لأنها كرامته وعرضه ووجوده الذي منحه إياه من أوجده واستخلفه على الأرض وهذه ليست حقا لغير موجدها لكي يبيعها لعبودية بشر يخنع له مهما كان قدسية ذاك البشر...