لعبة استبدال المقدس وإسقاطه على السلطة البشرية!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2005\  02 \  20

E-MAIL:  tayseer54 @hotmail.com

 

في الظرف السياسي العراقي القائم تجري الصراعات على أساس من تجاذبات الوضع ميدانيا، وعلى وفق حالة من الاختراق الإقليمي والدولي للساحة العراقية على جميع الصُعُد.. سواء منها الأصعدة الحزبية ومنظمات المجتمع أم على الأصعدة الرسمية ودوائر الدولة ومؤسساتها..

وليس بخافِ ِ على عراقي حصيف ما حجم تلك التدخلات والاختراقات. وهي لم تجرِ بعيدا عن تسهيلات ظرفية خضعت لسلطة منهارة مهزومة سلَّمت كلَّ شئ للأجنبي مقابل ما هرّبته خارج البلاد وعلى أرأس الأشهاد، ومن تسهيلات القوى التي لا تظهر ولا تعيش إلا في ظل الظروف الحربية الطارئة أعني (تجار الحروب)...

وتستمر اللعبة ليأتي إلى سدّة الحكم مَن يأتي في ظل مصادرة وإنْ من نوع جديد على مستوى الساحة العراقية.. فالقوى المتشددة المتطرفة التي تسطو على الميدان لم تخرج من فراغ ومن لا رحم بل خرجت وستظل تخرج وتولد من رحم محيطها الطبيعي..

صحيح أنّنا ينبغي أنْ نفرّق بين المتطرف الإرهابي والمعتدل ولكن الأمر هنا لايمكن أنْ يكون رهن القوى الدينية التي تاجرت بدماء الشعوب عصورا طويلة يوم كان عصر الظلام وإرهاب الناس بسلطة كهنوت الكنيسة الأوروبية، ومنذها تحرر الإنسان من سلطة القمع الكهنوتية ووُلِد عصر النهضة الأوروبي ليكون تجربة جدية لتحرر الشعوب من ربقة الكاهن المقدس الذي يفرض سلطته بمصادرة الآخر بوصفه حامل القدسية الإلهية على الأرض..

وتمَّ لآخر مرة فصل الدين عن الدولة ومنع تدخل الأكليروس بالحياة الإنسانية وتفاصيل يوميات الإنسان العادية.. كما إنّ تجاريب حضارة وادي الرافدين ظلت طويلا تشير إلى كاهن معتزل في معبده وحاكم مدني يتعاطى مع القوانين المدنية والتشريعات الخاصة بحياة المواطن الإنسان وليس المواطن العبد كما هي العلاقة بين المعبد وسدنته والإنسان!

وحينما جاء الإسلام (الدين الوسط\المعتدل) أو الإسلام في صدر تاريخه  أكّد على ألا رهبنة ولا كهنوتية في الإسلام من جهة ورفض جمع السلطات في يد واحدة من جهة أخرى، فوزّعها بين قاضِ ِ وحاكم وإدارات أو دواوين ومنع الخلط ومنع الإكراه وأعلن الحوار على قاعدة "وجادلهم بالتي هي أحسن" ولكن سيرة الحكم الإمبراطوري التالية لم تجرِ على وفق هذه القواعد والأسس بل راحت تبحث عن وسائل تبريرية لمركزة سلطة الاستلاب والمصادرة...

وصار الخليفة المختار لأسباب قبلية (أموي، عباسي..) أو غيرها من الأسباب بالعودة لفلسفة تبريرية بعينها؛ صار هو الحاكم المطلق بوقوف سدنة الجامع خلفه وتأميره على الناس (أمير الجماعة أو أمير المؤمنين) ودخلنا نفقا تاريخيا لم نخرج منه حتى سقطت الإمبراطورية العثمانية بكل أمراضها وجرائمها المرتكبة بحق الشعوب التي استعبدتها باسم الدين وبحق البشرية التي استلبوها الحقوق الإنسانية كلِّها...

وخضع الإنسان لعبودية أخيه الإنسان بذريعة سلطة الكهنوت الديني، وصار الناس عبيدا في سوق سدنة الجامع المتطرفين من الذين انحرفوا بتفسير الدين الوسط نحو حالة من استباحة الناس في ظلال إسقاط القدسية الإلهية المزعومة على فرد أو آخر بوصفه مرجعية مطاعة الأمر بالمطلق...

أفلا يمكن أنْ يمرض الشخص وأن يشتط ويهذي وينحرف؟ أفلا يمكن أنْ يتعرض لكل ما يتعرض له بشر؟ ألا يمكن أن يُخطئ في قراءة؟ وهل يمكن أنْ يكون فرد أكبر من رؤى الملايين من الناس؟ وهل مرجع في أمر واختصاص يمكنه أن يكون مرجعا وآمرا في كل أمر وشأن؟

أوَ لا يؤمن الإنسان بأنّ  الخالق مطلق والمطلق واحد أحد لا يمكن تثنيته أوتعدده.. فما بال أولئك يسقطون قدسية المطلق والعصمة على بشر يجوع ويعطش ويمرض ويخطئ.. ما بالنا نتبع أناسا يُسقِطون على أنفسهم قدسية تبريرية ليختزلونا فيهم وفي إراداتهم ورغائبهم وقراءاتهم..

ألا يصادرنا في أمر أهلنا وأبنائنا وتفاصيل يومياتنا وخياراتنا الحياتية خضوعنا المطلق لرأي المرجعية؟ ألا يخالف هذا الخضوع المطلق جوهر الدين في كونه إيمانا بمطلق واحد وبرسالته إلينا؟  أليس الدين بعد ذلك وقبله علاقة بين الفرد وهذا المطلق الخالق الله الذي رفض لنا أن نتقرّب إليه بوسائط صنمية أو آدمية ؟

فحطِّمت الأصنام وانتهى زمنها؛ وحُطِّمت سلطة المستعبـِدين المستغـِلين (بكسر الباء والغين) والسادة بالإكراه وجاء الدين للتحرر والتحرير وليس ليكون الإنسان تابعا خانعا ذليلا يجلس عند أقدام سيّد أو سادن أو إمام.. وليس احترام كبار القوم ومراجعهم الفكرية والدينية خضوع ومهانة وتسليم أمور دنيانا إليهم...

لقد وصل أمر أولئك الأدعياء [بمعنى وجود أصحاء مراجع نزيهة غير هذه الغلبة من الأدعياء] من مزيفي الحق والحقيقة أن صاروا يستغلون الناس وكأنّهم عبيدهم بالمطلق.. وصار كل شئ مملوك لهم وانتهت كرامة الإنسان ومكانته التي استخلفه بها الله على الأرض.. ولم يعد من حق الإنسان الفرد أمام تلك المرجعيات أن يعبر عن رأي أو موقف أو حتى أن يمتلك بعض كرامته أو عِرضه فكل شئ مباح للأدعياء المزيفين!

وإذا كنّا نميّز بين الصحيح من مراجعنا والسقيم فإننا بهذا نعوّل على توحد الأصوات النبيلة الشريفة للتوكيد على منع سطوة الكهنوت من سدنة الجوامع [المزيفين بالتحديد] على مقدرات الإنسان وتفاصيل حياته ومنعهم من ممارسة دور السلطة التي تصادر الناس في امتلاك نواصي حيواتهم وقراراتهم وإراداتهم...

لقد ولّت منذ قرون بعيدة سلطة المقدس البشري، ولم يعد بعد عصر النهضة الإنساني والتفتح والتنوير بممكن العودة إلى الوراء.. وليس بوارد التفكير البشري أن يخنع إنسان كريم النفس لآخر مريض يسوقه حيث يشاء وتبتغي أهواؤه...

إن الاعتداء على سلطة الله الخالق المطلق الأوحد بسلطة بشرية مقدسة بديلة ومشاركة المطلق قدسيته وعصمته في إخضاع الناس لأوامره وسلطانه وسطوته، إنّ ذلك لا يمت لدين صحيح بعلاقة وليس إلا خدعة تبريرية لدكتاتورية إرهابية دموية جديدة ولكن هذه المرة باسم الدين وباسم الله والدين وتعاليمه من كلّ هذه التخرصات والمزاعم براء...

إنّ خطاب مصادرة الناس واستلابهم رؤاهم وإراداتهم يظل خطابا بشريا استغلاليا معاديا لا للبشرية ومطامحها في التحرر والانعتاق من كل أشكال الاستعباد بل وهو خطاب يعادي المطلق الواحد بماشركته وحدانيته وقدسيته مستغفرين من مثل هذه الإدعاءات!!

إنّنا أمام ضرورة أنْ نفكر ونستخدم عقولنا في الامتناع عن التسليم لأي كان وجعله مرجعنا الذي نتبعه في رؤيته الدينية وفي أوامره ونواهيه على دنيانا وكأننا لا رجال نمتلك إرادة القرار وقدرته ولا نساء حرّات يمتلكن شرفهن الرفيع .. حيث يوجوبون علينا وضع كل ما نملك وأعزه قرابين أمام المقدسين المزعومين من المراجع..

إنّ المقدس لا يعتدي على رأي ولا على حرية ولا على كرامة ولا على عِرض .. فما بالنا نقدّس شخصا ونخنع له في قرار يخص دنيانا وحياتنا وتفاصيل يومنا العادي؟ أفهل يكون فقيه أمر فقيها مطلقا كما يدعي في كلّ أمر وشأن؟ أيجوز من يفتي ويقضي في موضوع أنْ يفتي ويقضي في كل موضوع؟

لا يجوز لعاقل أن يسلِّم قياده لمرجع ديني ويجعل منه مرجعا في أمور دنياه وتفاصيل حياته وما يجري بينه وبين أبنائه وزوجه.. ولا يجوز لكريم محتد أن يقدّم أسراره وقراراته الشخصية الخاصة لامرئ مهما كان ذاك الشخص! وإلا فإنّنا لا ندعم أركان دين صحيح بقدر ما نمهد لسطوة أدعياء الكهنوتية الذين يعيدوننا إلى أزمنة ولّت منذ عهود...

ليعد المرجع الديني إلى حيث مكانه ومكانته الصحيحة ولكن ليبقَ ذياك المرجع محصّنا بعيدا عن التدخل في تفاصيل حيوات الناس وأسرارهم وشؤون دنياهم .. أما إذا أراد إبداء رأي في أمر حياتي عادي فليس إلا من كونه مواطنا فردا كما حال كل الآخرين ..

فإنْ استغل موقعه الديني لتوجيه الناس في تفاصيل حيواتهم اليومية وصادر رؤاهم ومنع عليهم التفكير وتوظيف عقولهم كان ذاك جريمة قانونية بحق المجتمع وقد يكون كفرا بالدين الصحيح...

لا مجال للعودة لأزمنة حكم الكهنوت من أي دين وإذا كانت الكنيسة قد سبق وتحررت من ربقة كهنوت يمالئون الاقطاع والمستغلين وفصلت وجودها عن الدولة .. فليس من الصائب ركوب موجة المصادرة والاستلاب اليوم من أي دين كان كما يفعل بعض أدعياء الإسلام...

اليوم تعلن بعض الأطراف السياسية بمداهنة واضحة أنها لا تؤمن بولاية الفقيه وهي لا تسعى لدستور ولاية الفقيه بينما تخبئ ما هو أنكى وأسوأ لعراقنا التنويري منذ سومر وبابل وآشور..

وتلك القوى لا تتحرك إلا على خلفية مباركة من مرجعية دينية بعينها. وعمليا نحن في ظل سلطة طائفية من جهة ودينية على طريقة سلطة ولاية الفقيه وكما ترون فتلك القوى [الفائزة] بسلطة قوات ميليشياتها وسطوة الدعم اللوجيستي الإيراني [وللاحتلال الإيراني لبلادنا موضوع آخر ومعالجة أخرى] ومخلفات النظام السابق الذي ترك الجوامع والحسينيات المنفذ الوحيد للسياسة..

إنّ هذه الحالة لا يمكنها أنْ تتقدم من دون فضح جوهرها وحقيقتها ولايمكننا نحن الشعب الذي يعرف دينه ودنياه، شعب الحضارات والشرائع والديانات، وشعب الفكر والتنوِّر؛ لا يمكننا أن نقبل بحكم ولاية الفقيه ولو من خلف أستار وأقنعة وعلى القوى [الفائزة] بالحكم أن تقدم برامجها وأن تعلن مفردات سياستها بوضوح أمام الشعب...

اليوم نحن بين سندان ما ظهر من نتائج ومطرقة ما يخبَّأ لنا من سياسات القوى التي تسلّطت واخترقت الوضع في ظروفه الطارئة  غير المستقرة وتعويلنا هو على نباهة العقل العراقي وعودته إلى جذوره الحضارية التي وُلِدت في مدن الناصرية وبغداد وسامراء وغيرها من آثار زمن التنوير وتعليم البشرية شرائعها وقوانينها الصحيحة...